أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8423 - 2025 / 8 / 3 - 15:17
المحور:
المجتمع المدني
الحضارة ليست ترفًا ولا زينةً عابرة، بل هي شرط الوجود للأمم.
إنَّ التاريخ البشري، منذ فجر الزراعة وحتى عصر الذكاء الاصطناعي، كتابٌ مفتوح يصرّح بحقيقةٍ قاسية: إن بقاء المجتمعات أو اندثارها كان مرهونًا – قبل كل شيء – بقدرتها على بناء منظومة حضارية متماسكة. حتى لو كانت هذه المنظومة شعلةً خافتة؛ فإنها تبقى الذاكرة الجمعية والمناعة الوجودية التي تحمي الكيان، أو تتركه غنيمةً للفناء.
لكن السؤال المصيري الذي يواجه كل جيل:
ما الذي يُقيم حضارةً ويُسقط أخرى؟
الجواب ليس قانونًا بسيطًا، ولا محورًا منفردًا. إنه أشبه بعُشٍّ من النحل معقّد؛ عشرة محاور كبرى تتفاعل في جسد المجتمع كالأعضاء في الجسد الحي: قوتها في توازنها، وانهيارها في طغيان أحدها أو ضعفه.
وفيما يلي قراءة موسّعة لهذه المحاور العشرة، عبر أمثلةٍ من التاريخ الإنساني وتجارب الأمم.
⸻
1. المحور العنصري: عندما يصبح اللون إلهًا
“حين تتحول العصبية إلى عقيدة، تتحول الأرض إلى سجن كبير.” – علي شريعتي
حين يُختزل الإنسان في لونٍ أو دمٍ أو قبيلة، تتحول الدولة إلى أداةٍ للهيمنة لا لبناء المجتمع.
كانت جنوب إفريقيا في القرن العشرين، تحت نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، نموذجًا صارخًا: أسطورة التفوق الأبيض خنقت طاقات شعبها، وعزلت الأمة عن العالم، وأنتجت اقتصادًا مشلولًا. وحين تحطّمت هذه الحلقة بفعل إرادة مانديلا، انطلقت البلاد نحو مصالحة أعادت تعريف الوطن باعتباره تنوّعًا غنيًا لا انقسامًا قاتلًا.
إنّ التاريخ يثبت أن الحضارات التي تأسر نفسها بقيود العِرق تخلق صراعات طويلة، لا استقرارًا طويل المدى.
“التنوع وحدةٌ لا انقسام.” – نيلسون مانديلا
⸻
2. المحور الاجتماعي: العُرف والقانون… نسيج المجتمع
“الإنسان مدنيٌّ بالطبع.” – ابن خلدون
إنّ المجتمعات تُبنى على الثقة قبل القوانين. وقد أسست أثينا القديمة لفكرة المواطنة التي تتجاوز الدم والقبيلة.
وفي عصرنا، تُظهر الديمقراطيات الإسكندنافية كيف يُمكن لمجتمعٍ صغير أن يبلغ ذروة التماسك حين يضع العدل والمساواة نصب عينيه.
لقد بنت السويد والنرويج نموذج “الثقة العالية” حيث يلتزم كلٌّ من الدولة والأفراد بعقد اجتماعي غير مكتوب يقوم على التعاون والتضامن.
والمجتمع الذي ينظم نفسه بهذه الطريقة يصبح أكثر قدرةً على امتصاص الصدمات وبناء ازدهارٍ طويل الأمد.
“الشراكة في الحياة الطيبة هي غاية المجتمع السياسي.” – أرسطو
⸻
3. المحور العقائدي: الوحدة فوق حدود القبيلة
“إنما المؤمنون إخوة.” – القرآن الكريم (الحجرات: 10)
إن العقيدة الحيّة، لا الميتة، تتجاوز القبيلة واللغة والجغرافيا.
لقد كانت الحضارة الإسلامية في عصورها العباسية والأندلسية لوحة فسيفسائية من أعراق متعددة: العربي والفارسي والتركماني والكردي والأمازيغي. هذه الوحدة أنتجت بيت الحكمة حيث اجتمع العلم واللغة والعقيدة، وصار العلم وظيفةً جماعيةً للروح.
وحين تتحول العقيدة إلى أداةٍ للهيمنة تسقط في التعصّب، وحين تكون حافزًا لمعنى كوني، تُصبح مصدر إلهامٍ للنهضة.
“العقيدة قوة روحية تصنع من القبائل أمة.” – أرنولد توينبي
⸻
4. المحور الاقتصادي: إيقاع الحياة… وليس الأرقام!
“حيث تنتهي الزراعة، تبدأ المجاعة؛ وحيث ينتهي التخطيط، تبدأ الفوضى.” – من حكم بلاد الرافدين
الاقتصاد ليس مجرد حسابات مالية، بل هو إيقاع حياة.
لقد شهد الهلال الخصيب أول تنظيم للزراعة والمياه منذ أكثر من عشرة آلاف عام، فكان بداية الاستقرار والتحضّر. وفي العصر الحديث، تُعَدُّ سنغافورة مثالًا مدهشًا على كيف يمكن لقيادة واعية (لي كوان يو) أن تحوّل جزيرة صغيرة بلا موارد إلى مركز عالمي بفضل التخطيط الاقتصادي والتعليم الصارم.
ومن لا يملك اقتصادًا مستقرًا يظل تابعًا مهما بلغ علمه أو دينه.
“الثروة الحقيقية للأمم تكمن في إنتاجية شعوبها.” – آدم سميث
⸻
5. المحور العلمي – التقني: مصباح المستقبل
“أعطِني مختبرًا… أُعطِك عالمًا!” – لويس باستور
إنّ العلم هو الضوء الذي يبدد الظلام.
لقد اخترعت الصين القديمة الورق والبوصلة والبارود، وأسست اليونان للفلسفة والرياضيات، وأنشأت بغداد العباسية حركة ترجمة وتطوير جعلت من العاصمة منارةً للعلم.
وفي المقابل، حين أغلقت الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى أبواب المعرفة، غرقت القارة في قرون من الجمود حتى استعادت الشعلة من حضارة الأندلس.
والحضارات التي تضع العلماء في الصف الأول، تصنع المستقبل.
“العلم نور، والجهل ظلام.” – حكمة مشهورة
⸻
6. المحور الأخلاقي – القيمي: الروح التي لا تُشترى
“إذا فسدت الضمائر… فلا أمل في إصلاح الآلات.” – مالك بن نبي
القوة بلا أخلاق تهلك أصحابها.
لقد تفسّخت الإمبراطورية الرومانية من الداخل قبل أن يُسقطها البرابرة؛ إذ فقدت روحها الأخلاقية وانشغلت بالبذخ والمتعة.
أما اليابان، فبعد كارثة عام 1945 لم تبنِ مصانعها أولاً، بل أعادت بناء منظومة الانضباط والشرف والعمل الجماعي، فتحولت في نصف قرن إلى معجزة اقتصادية.
إنّ الأخلاق هي المحرّك الصامت للحضارة، وإذا ماتت ماتت الأمة وإن بقيت قائمةً في ظاهرها.
“القيم الأخلاقية هي العمود الفقري لنهضة الأمم.” – كونفوشيوس
⸻
7. المحور الجغرافي – البيئي: الجغرافيا ليست قدرًا!
“الإرادة الإنسانية تصنع من الصحراء جنة، ومن الجنة صحراء.” – نجيب محفوظ
إنّ البيئة تمنح التحدي والفرصة.
لقد صنع النيل مصر القديمة، ولكن من دون إرادة المصريين لبقي فيضانًا كارثيًا.
كما أن هولندا انتزعت أراضيها من البحر، والدنمارك تواجه اليوم أزمة المناخ بخططٍ للطاقة النظيفة، بينما استسلمت دول أخرى للجغرافيا.
المسألة لم تعد “أين تعيش” بل “كيف تدير ما تعيش فيه”.
“الأرض مرآة لوعي ساكنيها.” – تعبير فلسفي معاصر
⸻
8. المحور الثقافي – الإبداعي: ذاكرة الأمم النابضة
“أمة بلا فن… هي أمة بلا روح.” – فيدل كاسترو
إنّ الثقافة هي البصمة الباقية للأمم.
حين غزا المغول بغداد عام 1258 وأحرقوا مكتباتها، لم يدمروا الورق بل دمّروا وعيًا حضاريًا كاملاً.
وعندما بدأت أوروبا عصر النهضة، كان الإبداع الفني والأدبي – من دانتي إلى دافنشي – هو التعبير الأرقى عن روحٍ جديدة.
والإبداع ليس ترفًا، بل هو المرآة التي ترى الحضارة نفسها فيها.
“الفن مرآة الإنسانية.” – وليم شكسبير
⸻
9. المحور القانوني – المؤسساتي: انتصار العقل على الغريزة
“حيث ينتهي القانون، يبدأ الطغاة.” – جون لوك
إنّ المؤسسات والقوانين العادلة هي الهيكل العظمي للحضارة.
لقد قدّم القانون الروماني، و”الماغنا كارتا” في إنجلترا، والدستور الأمريكي أمثلةً على كيف يمكن أن يوقف العقل استبداد القوة، فيجعل من الدولة آلةً للعدالة لا للهيمنة.
العدالة ليست شعورًا، بل نظام.
“بدون قانون، تنهار الحياة إلى وحشية.” – توماس هوبز
⸻
10. المحور النفسي (الإرادة): المحرك الخفي
“إذا تغيرت النفوس… تغيرت الأحوال.” – ابن خلدون
إنّ الإرادة هي الشرارة التي تشتعل بها كل المحاور الأخرى.
لقد امتلك الاتحاد السوفيتي السلاح والعلم، لكنه انهار حين فقد شعبه الثقة بالحلم.
وفي المقابل، حولت ألمانيا واليابان جراح الحرب العالمية إلى إرادةٍ فولاذية، فعادتا قوتين عالميتين.
وبدون إرادة، تتحول كل المحاور الأخرى إلى هياكل بلا حياة.
“ما لا يقتلني يجعلني أقوى.” – فريدريك نيتشه
⸻
أي حضارة نحن اليوم؟
إنّنا نعيش عصرًا تمسك فيه التكنولوجيا والاقتصاد بالمقود، لكن المقود وحده لا يوجّه السفينة.
لقد ولّدت العولمة سرعةً وثراءً، لكنها في الوقت نفسه كشفت هشاشتنا:
– أخلاقية (تفاوت الثروة)
– اجتماعية (العزلة والوحدة)
– ثقافية (سطوة وسائل التواصل الاجتماعي على الوعي)
والأرض تذكّرنا بالمحور البيئي، والحروب تذكّرنا بالمحور العقائدي، والسياسة تكشف فشل المحور المؤسساتي.
فهل يمكن لسفينة حضارتنا أن تبحر ببعض ثقوبها؟
إنّ التاريخ يجيب: لا.
إنّ الحضارات لا تموت بالقتل، وإنما تموت بالانتحار البطيء حين تهمل التوازن بين محاورها.
“الحضارات لا تموت بالقتل، بل تموت بالانتحار!” – أرنولد توينبي
⸻
الخلاصة
الحضارة ليست ناطحات سحاب ولا صواريخ، بل هي انسجام عشرة محاور:
عنصري (تسامح)، اجتماعي (تماسك)، عقائدي (معنى)، اقتصادي (عدل)، علمي (ابتكار)، أخلاقي (ضمير)، بيئي (توازن)، ثقافي (هوية)، مؤسسي (عدالة)، نفسي (إرادة).
والإنسان – بإرادته الواعية – هو الباني وهو أيضا المدمّر، هو الأول والأخير في معادلة المصير.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟