أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 20:30
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
في لحظة لا توقيتها واضح، وأنت تمشي على حافة الذكرى، تتوقف فجأة وتتأمل الوجوه التي مرّت في حياتك. بعضها ترك دفئًا صادقًا لا يُنسى، وبعضها الآخر تركك تنزف من الداخل، لا لأنك كنت ضعيفًا، بل لأنك كنت طيبًا. نعم، الطيبة ليست ضعفًا، لكنها غالبًا ما تصبح طُعمًا سهلًا لشخصية لا تُتقن سوى حيلة واحدة: حيلة الضحية.
إن أشدّ ما يؤلم في هذه الحياة ليس أن نُخذَل، بل أن نكتشف متأخرين أن من اعتبرناه أقرب الناس، لم يكن يومًا كذلك. أن من شاركناه لحظاتنا ودموعنا، كان في الحقيقة يؤدي دورًا لا أكثر. ولعل القسوة الأكبر لا تأتي من الألم، بل من سقوط القناع الذي ظنناه وجهًا حقيقيًا، ليتبيّن أنه كان مجرّد تمثيل طويل المدى. أحيانًا لا تصدق أن الإنسان قادر على هذا الكم من الادّعاء، لكنك، بعد التجربة، تبدأ بالتساؤل: كيف لم ألاحظ؟ هل كنت مغفلًا؟ هل كانت تلك التصرفات بريئة حقًا، أم كنت أرفض أن أرى؟ وهنا، تبدأ الحقيقة المؤلمة بالبزوغ: لقد كنت تتعامل مع شخص لا يجيد شيئًا كما يجيد لعب دور الضحية.
في الحياة، سنقابل هؤلاء في العمل، في العائلة، في الحب، وحتى في الصداقة. أشخاص يصنعون من الألم منصة، ومن الشكوى راية، ومن الاستنزاف عادة. لا يطلبون شيئًا صريحًا، بل يجعلونك أنت تبادر، أنت تهتم، أنت تساند، أنت تتصل، وأنت في النهاية تتحمّل الخطأ كله إذا تراجعوا أو تعبوا أو فشلوا. يملكون قدرة مذهلة على إعادة ترتيب الرواية، بحيث يبدون دائمًا الطرف الذي “تمّ أذيته”، حتى لو كانوا هم من طعن أولًا. وكأنهم كتبوا قصة حياتهم على أنهم الأبطال المجروحون، وكل من يقترب منهم ليس إلا أداة في السيناريو، ثم يُلقى خارج المسرح.
وفي عالم العلاج النفسي، تُصادف هذه الشخصيات كثيرًا. رجلٌ يدّعي أنه ضحية الجميع، من زوجته إلى أمه إلى مديره، ثم تكتشف أنه لم يعترف يومًا بخطأ ارتكبه. امرأة تملأ المجالس دموعًا عن “قسوة الحياة”، بينما تمضي أيامها في السيطرة على من حولها عبر قصص تتخيلها. وطفل نشأ في بيئة سلبية، فتعلّم أن النجاة تمر عبر استجداء العاطفة، لا عبر بناء الذات. هكذا يُولد النمط، ويتكرّر، ويتحوّل مع الزمن إلى قناع دائم.
الأمر ليس دائمًا ناتجًا عن خبث. أحيانًا، هو تربية غير ناضجة أو بيئة تعزز الشكوى وتكافئها. وأحيانًا أخرى، هو نتاج جراح لم تُشفَ، فاختار صاحبها أن يعيش داخلها بدل الخروج منها. لكنه مع ذلك يصبح خطِرًا، لأنه لا يراك أنت، بل يرى فيك مصدرًا للاستنزاف. أنت الوقود لمظلوميته. أنت الذنب الذي يُحمّلك إياه، ولو لم ترتكب خطأ.
يطلب انتباهك طوال الوقت، ويتظاهر بالعجز عن اتخاذ قرارات، ويخشى المواجهة، لكنه ينتقدك من خلف ظهرك، ثم يقول “أنا لا أستطيع أن أؤذي أحدًا”. وعندما تضع له حدًّا أو تعتذر عن مواصلة التورّط، يُطلق عليك ألقابًا مثل “قاسٍ”، “أناني”، “غير وفيّ”، لأنه لا يفهم العلاقة إلا من زاوية واحدة: أن تعطيه دومًا، دون أن تسأله يومًا “وماذا عني؟”.
وفي العلاقات العاطفية، يصبح الأمر أشدّ مرارة. قد تحب من يلعب هذا الدور، فتجد نفسك مع الوقت في علاقة لا تقوم على التكافؤ، بل على الشفقة المشروطة. كلما حاولت تصحيح المسار، انقلب الحديث إلى دموع وذكريات عن الطفولة القاسية أو التجارب الفاشلة، ثم تُرمى التهم عليك: “لو أنك كنت تفهمني لما حصل ذلك”. وهنا، يتحوّل الحب إلى صفقة غير معلنة، طرف يعطي وطرف يبتز دون وعي.
ليس الغرض أن تتوقف عن التعاطف، بل أن تُحسن توجيهه. فالاستماع مهم، لكن الانغماس في الدراما يُفقدك بصيرتك. والحزم ليس قسوة، بل نجاة لكليكما. لا بد أن تتكلم بصراحة حين ترى سلوكًا متكررًا من هذا النوع، لا لتُحاسب، بل لتضع حدودًا تضمن لكما السلام. ولعل أصعب ما في التعامل مع شخصية كهذه، أنك ستتألم حين تضطر إلى الانسحاب منها، رغم أنك لم تؤذِها أبدًا. لكن الانسحاب هنا ليس هروبًا، بل احترامًا لذاتك… وللذكرى التي لا تريد لها أن تُلوّث.
في إحدى قصص العلاج، قالت امرأة كانت ترتبط عاطفيًا بشخص دائم الشكوى: “كنتُ أظن أنه يحتاجني، حتى فهمت أنه لا يحتاج سوى أن أبقى صامتة أمام أكاذيبه، وأبرر له كل شيء. وعندما قلت لا، صار يتهمني أنني لا أفهمه. لقد أحببتُه من كل قلبي، لكنه أحب نفسه فقط.”
نحن لا نختار أن نتعامل مع هذه الشخصيات، ولكننا نختار متى نتوقف. لا شيء يُلزمك بالبقاء في علاقة تُستهلك فيها نفسيًا وعاطفيًا، تحت غطاء العطف أو النُبل أو الوفاء. فمن لا يتحمل مسؤوليته عن حياته، سيجعل الآخرين يدفعون ثمن اختياراته. ومن لم يتعلم كيف يواجه، سيجعلك أنت درعًا له ضد العالم، ثم يلومك إن تمزّقت.
إن الحرية الحقيقية لا تأتي من الصراخ أو الثورة، بل من أن تقول بهدوء: “أنا أراك، وأفهمك، لكنني لن أكون ضحيتك”. أن تفهم أن بعض الناس لا يريدونك أن تتغير، لأن بقاءك كما أنت يمنحهم مبررًا دائمًا لضعفهم.
لقد خلق الله الناس أحرارًا، لكن البعض لا يشعر بقيمته إلا حين يُشعرك أنك مسؤول عن تعاسته. فيُبالغ في شكواه، وينكر فضل من حوله، ويفسّر كل شيء على أنه موجّه ضده. حتى الأشياء التي حصل عليها صدفة، يفسّرها كـ”نصيب سماوي” من حقه، لا يراجع نفسه، ولا يتساءل إن كان ما أخذه يخص غيره. يعيش بلا امتنان، ويطلب المزيد دائمًا، فإذا لم يحصل عليه، لعنك في داخله، ثم تحدّث عنك أمام الآخرين وكأنك الطاغية.
وربما… هنا فقط، تدرك أنك لم تكن مخطئًا حين انسحبت. وأنك لم تُقصّر أبدًا، بل أنك منحت أكثر مما يُمنح، وأحببت أكثر مما يُحتمل، ولكنك في النهاية استيقظت. واستيقاظك هذا… هو أعظم خلاص.
فالنجاة من دراما “الضحية المزمنة”، ليست قسوة، بل ولادة ثانية.
الاستجداء الديني عند الشخصية الضحية وهي تكليف الضمير الذاتي في تبرير السقطات الاخلاقية على انها حق الهي تم تسخيره للضحية ربما تعويض عن ظلم يعتقد انه حدث له مثل وصول مبلغ مالي في حسابه فيستولي عليه رافضا فكرة انه مجرد خطأ وان المال لابد ان يعود لاصحابه ولكنه يبرر لذاته انه من حقه او يبرر لأقاربه ارتكاب هفوات اخلاقية بينما لا يبرر للآخرين ذلك لانه يعتقد ان ما يقوم به ماهو سوى برعاية إلهية لا تكلفه عناء التفكير في فضل البشر عليه وهذه الشخصية المرتبكة الدرامية تعاتب الجميع ولكنها ذات كبرياء هش لا ترغب من احد ان يكتشفها حتى لا يسقط قناعها.
فالنجاة من دراما “الضحية المزمنة”، ليست قسوة، بل ولادة ثانية.
لكن ثمة بُعدٌ أخطر في هذه الشخصية، لا يُرى بسهولة، ويختبئ غالبًا تحت قناع الورع أو التصوف العاطفي. إنه الاستجداء الديني الذي تستخدمه الضحية المزمنة لتكليف الضمير بالصمت، وإضفاء طابع شرعي على السلوكيات التي لا يمكن تبريرها أخلاقيًا. هي لا تسرق، لكنها “تأخذ رزقها من السماء”. لا تخدع، بل “تحصل على حقّها الذي تأخر”. فإن أخطأ أحد البنوك، وأودع في حسابها مالًا لا يخصّها، فهي لا تراه خطأ، بل “تعويضًا إلهيًا عن سنوات من الألم والخذلان”. ترفض أن تُعيده، لأن الاعتراف بالخطأ يُسقط عنها دورها الأثيري كضحية تستحق دائمًا أكثر مما أعطيت.
هذه الشخصية تخلق لنفسها محكمة خفية، تكون فيها هي القاضي والضحية والمتهم في آن، وتحكم لصالح ذاتها كلّ مرّة، مدفوعة باعتقاد داخلي بأنها “محبوبة من الله” بطريقة استثنائية. فهي تبرر لنفسها ولأقاربها الهفوات، وتتغاضى عن الزلل إذا ارتُكب باسم الحب أو العائلة أو الدين، لكنها في المقابل تُدين الغرباء بلا رحمة، وتضعهم تحت مجهر من القسوة والتحليل والتشكيك، وكأنهم خُلقوا دون حق في الضعف.
إنها لا تؤمن بالامتنان، لأنها ترى الخير الذي يأتيها على أنه استحقاق، لا فضل. حتى لو جاءها العطاء من قلوب الآخرين، تراه تنفيذًا لمشيئة إلهية، لا جهداً بشريًا يستحق الشكر. وهكذا، تُحوّل كل تضحية حولها إلى “إرادة إلهية” اختارتها، بينما تبقى هي في عمقها خائفة، مرتابة، متوترة، تمشي على قشرة رقيقة من الكبرياء الهش. تخشى أن يُكشف القناع، أن يُسأل السؤال، أن يأتي من يقول لها: “كفى تمثيلًا، أين مسؤوليتك؟”
إنها تُعاتب الجميع، وتتهم الجميع، لكنها لا تُعاتب نفسها. تخشى المرآة لأنها تعرف أنها قد تُظهر وجهًا ليس ضحية، بل متواطئًا أحيانًا في خذلان نفسه والآخرين. لا تحب أن يقترب أحد من حقيقتها، لأن السقوط هنا لا يكون فقط قناعًا يُنزع، بل سردية عمرٍ تنهار، وتاريخًا من التمثيل ينهار معه.
وربما… هنا فقط، تدرك من جديد، أنك لم تكن ظالمًا حين انسحبت، ولا قاسيًا حين قلت: “كفى”. لقد منحت أكثر مما يجب، وصبرت أكثر مما يُحتمل، لكنك كنت ترى الله في إنسان لا يرى فيك إلا وسيلة. والاستيقاظ من هذا الوهم… هو بداية الحقيقة، وبداية السلام.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟