عن الحكم والمعارضة في العراق (حلقة ثانية)
((من اصول التطرّف ))
د. مهند البراك
لم يلعب البرلمان العراقي ـ شبه المعَيَّن ـ ومسرحيّات" موافق(1)" في عهد الملكية دوراً يذكر في تفاعل وتبادل المعارضة والسلطة (المدعومة من الأنكليز)، لأنه كُرّس لأدامة العلاقات شبه الأقطاعية القائمة، في الوقت الذي لم يُفسح فيه المجال لنشوء برجوازية وطنية تفتح الآفاق وتبني الأسواق والمؤسسات وتقيم طرق المواصلات والسكك واجهزة الأتصال (غير التي اقامهاالأنكليز لحاجاتهم العسكرية)، التي تستدعي اليد العاملة وتطوّرها، وتفتح باباً للتمدن والتعليم والتأهيل، الأمر الذي يحتاج مؤسسات المجتمع المدني ويطوّرها .
وانما جرت بعض المسرحيات البرلمانية، كديكور لأمرار اتخاذ القرارات، الاّ ماندر تماما، الأمر الذي جعل الناس يسخرون منها ولايقيمون لها وزناً، والتي كررها صدام حسين بشكل اكثر وحشية في العقد الأخير للدكتاتورية.
كان البرلمان يُعَلّق بسبب اعلان الأحكام العرفية، اوبسبب قيام انقلاب عسكري متفق عليه غالبا لتغيير اعضاء الحكومة ليس الا،ّ باتفاق مع الحكام البريطانيين بشكل عام . ورغم طروحات الحزب الوطني والحزب الوطني الدمقراطي الداعية للأصلاح، ضمن اطار الوضع القائم آنذاك الاّ انهما نادراً مااستطاعا تحقيق شئ من برامجهما، الأمر الذي اضطرهما الى تجميد عملهما مرات عديدة بسبب الأحكام العرفية .
من جانب آخر، كان الشارع يموج بالمظاهرات الداعية الى الأستقلال والغاء المعاهدات المجحفة والقواعد العسكرية وضد خطر الحرب، ومن اجل حكومة وطنية واصلاح الأحوال المعاشية وحل مشاكل البطالة . . كانت تواجه بالأعتقالات والمطاردات والأحكام السجنية الطويلة واتهام من وراءها بالعمالة لموسكو وللقاهرة وللصهيونية(!) واتُّهم العديد من رجال الدين بالزندقة والأباحية لمواقفهم الوطنية، ونفذت احكام الأعدام علناً بعقداء المربع الذهبي، صلاح الدين الصباغ ورفاقه عام 1943بتهمة القيام بمحاولة لقلب نظام الحكم، واعدم يوسف سلمان (فهد) ورفاقه عام 1949 بتهمة قيادة الحزب الشيوعي واعادة بنائه من السجن مجدداً، لكونه كان محظوراً !
ادت تلك الأوضاع الى فقدان المعارضة اكثر للأمل بجدوى النضال الأصلاحي السلمي، بعد موجة التحرر التي عمّت العالم بالقضاء على الفاشية، والى لجوء احزابها ولولبها الحزب الشيوعي الى العمل السريّ بعد تكرار محاولات اجازة "حزب التحرر الوطني" دون جدوى، في الوقت الذي (طُهّرت) فيه اجهزة الدولة ممن يشتبه(!) بعلاقته بها باسم (الحق العربي والنضال ضد اللقيطة اسرائيل ! !) .
هكذا عاشت المعارضة الحقيقية العربية والكردية والأسلامية ومن كل القوميات والأديان والطوائف ، تحت الحظروالقمع وسدّ ابواب (البرلمان) بوجهها، في الوقت الذي التفتّ حولها الجماهير الواسعة، الكادحة خاصة . لقد كان النظام الملكي والأنكليز هما البادئان بالعنف والتصفيات، التي قوبلت بالعمل السري والعنف حيثما تمكّنت المعارضة دفاعاً عن مشروعية وعدالة المطالب الشعبية، الأمر الذي ادىّ الى استشهاد العديد من المناضلين سواءاً في التظاهرات التي فرّقتها السلطة بالرصاص او في اضرابات السجون . .
وتَخَلّد الشهيد وصار نداءاً تفخر به المعارضة، وعَلَماً لنضالها الدامي في ارض شهادة الأمام الحسين(رض) وابوحنيفة النعمان، وتحت انين السنين من ظلم الحجاج وهولاكو وآل عثمان . . . والتفّ الناس حول البطولة في مقارعة الظلم الذي اخذ يقطع اشواطاً رهيبة جاعلاً الصراعَ ، صراعَ موت اوحياة .
لقد افتتحت الحكومات المستبدة المتعاقبة ومَنْ ورائها(منذ تأسيس الدولة العراقية)، بسياسة الحديد والنار، ملف التطرف والعنف، وليست المعارضة التي ان اقترفت بعض احزابها اخطاءاً هنا وهناك، فأن ألأُخرى(2) كانت استمراراً وامعاناً مروّعاًّ للأساس الخاطئ في بناء الدولة، وسلوك السلطات المتعاقبة مالكة الدولة والجيش والشرطة والسجون، بمباركة سلطات الأحتلال البريطاني، التي فرضت منطق العنف والتطرف في التعامل مع كلّ من عارض، منذ البداية، حينما اعتبرت الشعب رعاعاً، حفاة، لطّامين، وتجاوزت ممثليه الحقيقيين . . ولم تقم بواجبها تجاهه بالتعليم والثقافة ومكافحة الفقر و المرض (ولاحتى بالقدرالذي فرضه دستورها) ، كما هو الحال في حكومات العالم المتحضّر بل اصرّت على الأمعان في تأخيره وتحقيره وتخلّفه، سالكة سلوك عهود الظلام السابقة من آل عثمان وغيرهم .
وهكذا نشأ التغرّب والقطيعة بين السلطة والمعارضة، فالسلطة جاءت بالقوة، وليس بانتخاب، وحكمت بالقوة ، واقامت تمثيلية البرلمان والدستور والأنتخابات لصالح فئة صغيرة جدا من الشعب عملت على ضبط الأوضاع لمصالح بريطانيا، وحرّمت البرلمان على المعارضة وشخصياتها الاّ ماندر . . وقوى المعارضة وممثلي الشعب الذين التجأوا الى الشارع الذي التفّ حولهم ومنحهم القوة والدعم، ومكّنهم من مواجهة القسوة والقمع والسجون والأعدامات والنفي والتهجير واسقاط الجنسية .
بذلك قادت السلطة(وليس غيرها) البلاد الى التطرّف وسدّت الطريق امام تفاعل السلطة والمعارضة من جهة ، وسدّت الطريق امام مبدأ تداول السلطة المدني من جهة أخرى. وامام تعنّتها المتحجّر برفض المطالب الشعبية، طرح الشارع (المعارضة) صيغة الـ "لا" ثم "يسقط" ، بعد ان انسدّت سُبُل الأصلاح، وتشكّلت علاقة المواجهة والنفي ، بدل التفاعل والحوار والتبادل .
وبسبب تراكم الظلم و الطغيان والنهب والمعاهدات الأسترقاقية، وتزايد فقر وحرمانات الطبقات والفئات الكادحة، واكتظاظ السجون بالمعتقلين والمعتقلات، ازداد السخط المنظّم اكثر منذ وثبة كانون 1948 وانتفاضة 1952 وانتفاضة 1956 ادانة للعدوان الثلاثي على مصر، الأمر الذي أدىّ بالسلطة الملكية الى استخدام الجيش بنطاق اوسع لقمع المعارضة ولتثبيت نظامها .
لقد ادّت تلك الأوضاع، اضافة الى هزيمة الحكومات العربية في الحرب مع اسرائيل رغم ضجيجها الفارغ، واستخدام الجيش لكبت الحريات ومواجهة الجماهير، زاجّة به بشكل مباشر في السياسة . . الى توجّه العديد من الضباط والمراتب والجنود الى السياسة والىالأتصال باطراف المعارضة، وتشكّلت المنظمات السرية في القوات المسلّحة، الأمر الذي تكلل بقيام الضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم ، بانقلاب عسكري اطاح بالملكية واعلن عن ثورة 14 تموز 1958 التي تمرّ ذكراها الخامسة والأربعون هذه الأيام ، بتأييد القوى والأحزاب الوطنية، والتي فتحت الباب لعهد جديد . (يتبع)
13 /7 / 2003
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) "موافج" بالشعبية العراقية .
(2) المقصود انقلاب شباط 1963 وانقلاب 17 تموز 1968 .