|
هل من رسائل مخفية يمكن استنتاجها في رواية أوراق شمعون المصري ؟
ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8396 - 2025 / 7 / 7 - 20:11
المحور:
الادب والفن
هل من رسائل مخفية يمكن استنتاجها في رواية أوراق شمعون المصري ؟
تُعد رواية" أوراق شمعون المصري "للروائي" أسامة عبدالرؤوف الشاذلي " مخزناً غنياً للرسائل المتعددة المستويات، التي تتجاوز المعنى الظاهر إلى مستويات أعمق تحمل تأويلاً فلسفياً واجتماعياً وثقافياً. وعندما نتناول رواية تحتضن رموزاً وتلميحات، يصبح الكشف عن الرسائل المخفية ضرورة لفهم البُعد الحقيقي للعمل الروائي وقيمته الفنية والفكرية. إذ تستند مقالتي هذه إلى تحليل لرسائل مخفية وظفها الشاذلي ضمنياً في رموز دينية وثقافية وسياسية وغير ذلك ، ليرسم صراعًا بين القديم والجديد، ويقدم رؤية مكثفة لمآلات الإنسان في مواجهة التحديات والظلم والصراع بين الماضي والحاضر والحنين المضلل "ما زلت يافعاً أيها الشاب..كان أهل مصر يقتسمون الطعام مع بني إسرائيل" كما هي الحال مع إعادة إنتاج العبودية الفكرية " لم نزل عاكفين على ربة الحنان منذ شهر، فلم يهبط علينا المطر" و" هذه أرض الإله سين...ولن يسقط المطر إلا برجائهم" فحتى بعد الخروج من أرض العبيد، يحمل الناس أصنامهم النفسية. والإلهة "حتحور" رمز للتعلق بالماضي الوثني، وهذا يحمل نقداً خفياً ل"تقديس رموز بلا فاعلية" فالحرية الجسدية لا تكفي، بل يجب تحرر النفس من عبودياتها الداخلية. فهل الانقسام الداخلي أكثر خطراً من العدو الخارجي في قول الراوي " كادت المعركة أن تنشب بين رجال السبطين..على صاع من دقيق؟ لبئس ما غنمتم من خروجكم وراء موسى "؟ فماذا عن الصراع الطبقي والتمييز ؟ جملة إشارات توحي بالتمييزالطبقي في المجتمع المصري القديم " كانت أمي تعشق العزف على الناي مثل أي جارية مصرية شبت في منزل أحد النبلاء" وهذا التمييز انتقل لا شعورياً إلى مجتمع بني إسرائيل الجديد. إذ لا فكاك من الهويات المتراكمة بسهولة، فإن أعظم الأدب هو ذاك الذي لا يكتفي برواية الحدث، بل يُنقب في الباطن، ويُحرك في القارىء أسئلته المؤجلة فهذا السرد الروائي المتقاطع مع سيرة بني إسرائيل في التيه ليس مجرد سرد لأيام الجوع والعطش، بل هو مرآة لعقل الإنسان حين يٌحاصره السؤال الأبدي. هل نعيش بالإيمان، أم نعيش بالحنين؟
إن الحياة مليئة بالمفاجآت، والمآسي قد تتحول إلى بدايات جديدة. وأن النساء أحياناً يحملن من القوة والحب ما لا يُقدر عليه الرجال. وأن النصر لا يتحقق إلا بالإيمان والعمل. أن الغدر قد يأتي بعد الفرح مباشرة، كما حدث مع أشكول. وأن الغفران دواء القلوب المجروحة، والاحتواء أقوى من اللوم . والقيادة الحقيقية تُختبر في غياب القائد، فعندما غاب النبي موسى، ظهرت الفتنة وتكشفت النفوس فالناس قد يطيعون ظاهراً، لكن مع أول اختبار يظهر معدنهم الحقيقي. فالثبات على القيم لا يتطلب وجود القائد، بل إيماناً داخلياً راسخاً، فضعف الإيمان يؤدي إلى التعلق بالمحسوس.إذ عندما تأخر موسى،عبد بنو إسرائيل العجل الذهبي. وهذا يشير إلى النفس البشرية التي تميل إلى التجسيد والمحسوسات، وتضعف أمام الرموز المادية حين يعتريها الشك، وهو ما يجعلها عرضة للضلال إن لم يكن إيمانها راسخاً . والفتن تبدأ من كلمة ثم تتحول إلى نار تحرق الجماعة فالشامري بدأ بالكلام، وانتهى الأمر إلى عبادة صنم ومعارك داخلية. فالفتنة تبدأ بفكرة، فإذا لم تُواجه بالحكمة والعقل ، تفشّت وأفسدت الأمة . كما أن ليس كل من يملك الحماسة يمكلك الحكمة . فالشامري كان خطيباً بليغاً جذب الناس، لكنه قادهم إلى الضلال. فالانبهار بالكاريزما لا يجب أن يحل محل التمييز بين الحق والباطل. ومن أحب الحقيقة قد يضطر للرحيل عنها حين يشوهها الناس، فوالد الراوي ترك القوم وفرّ بدينه. ففي بعض المواقف، لا يكفي الوقوف على الهامش، بل يجب الانسحاب لحماية النفس والدين.كما أن الحق لا يُقاس بالكثرة فالأكثرية اتبعت الشامري، والأقلية ثبتت مع هارون. لكن الصواب ليس دائماً مع الأغلبية، وغالباً ما يكون الحق طريقه موحشاً في زمن الفتن.فهل يمكن للماضي المظلم أن يعود في لحظة ضعف؟ أم أن الحقيقة المؤلمة قد تكون مخفية في قاع الوديان؟
شك قد يكون بداية وعيّ فالراوي تساءل عن الفرق بين بني إسرائيل وبين بني إسماعيل، وعن تقديس السبت. فالتساؤل المشروع يقود إلى النضج الفكري والتجرد من التقاليد العمياء. كما أن الوحدة الحقيقية لا تأتي من العرق أو النسب ، بل من الإيمان المشترك كما عندما رأى الراوي كرم بني إسماعيل رغم اختلاف الطقوس. فالدين جوهره التوحيد والإيمان الصادق، وليس الشكليات والاختلافات الفقهية .وأيضاً الإنسانية وسط القدر والقدرية فرغم الطابع الديني القوي، الرواية تعكس رؤية إنسانية عميقة وهي أن البشر يمرون بآلام وخيبات، وأن القدر أحياناً لا يرحم. مثل قصة سولاف التي تدل على هشاشة الإنسان حتى وسط الإيمان. والرسالة هنا أن الإيمان لا يعني غياب الألم، بل وجوده والمرور به بصبر وثقة. فهل الوحدة المجتمعية والتباين هي في اجتماع نساء متناقضات ( باتشيفا، رومانا، سولاف) في مكان واحد يعبر عن تعقيد المجتمع، وتداخل القلوب رغم الخلافات؟ أم هي رسالة ضمنية بأن التعايش ممكن حتى بين المختلفين؟ أم أنه يشير إلى أن الوحدة والقوة الحقيقية تأتي من التفاهم والرحمة، لا من الكراهية والشك؟.
الكتابة فعل نجاة ففي النهاية بعد كل شىء، لا يبقى شىء سوى ورق محروق وقلم ورماد الفحم ( رمز الدمار) الذي يصبح حبراً للكتابة . شمعون يكتب من رماد ذاكرته. يحول الحطام إلى حكاية والرسالة هي " حين تعجز اللغة المقدسة عن إنقاذك، اكتب بلغتك أنت..فالكتابة شكل من أشكال النجاة من الطقوس، ومن الذكريات، ومن الجنون" فهل رجم رام هو رجم الإنسان المختلف ؟ وهل العقوبة ليست تطهيراً، بل تدميراً جماعياً ؟
رغم وضوح أحداث رواية "أوراق شمعون المصري " الراوي يخفي بين سطور رسائله رمزية متعددة تتجاوز الزمان والمكان، وتلامس قضايا الواقع الإنساني والمجتمعي والسياسي في كل عصر. ومن أهم الرسائل المخفية (الرمزية والفلسفية والسياسية ..وغيرها ) في "الورقة العشرون" عندما خاف بنو إسرائيل من دخول الأرض، لم يكن الخطر في عناق ولا في الحصون، بل في عقولهم التي استسلمت للخوف.فالخطر الأكبر على المجتمعات ليس الأعداء، بل الضعف الداخلي والتردد الجماعي. أمةٌ جبانة تهلك نفسها دون أن تُمسّ بسيف. فهل القادة المزيفون يعلو صوتهم عندما يسكت الحكماء؟ (قورح، شافاط، يجال) استغلوا خوف الناس ليقودوهم للفتنة، بينما صوّت العقلاء (كالب ويوشع) غُيّب وسط الجلبة.في أوقات الأزمة، يُمكن للجهلاء والمتآمرين أن يسرقوا صوت الجماهير إذا تأخر صوت الصادقين أو خُنق. السكوت عن الباطل يسمح له بالتجذّر.فالحلم لا يموت... رغم موت الأب، قرر شمعون أن يسير في طريقه لتحقيق الحلم. فالأحلام العظيمة لا تموت بموت أصحابها، بل تحيا في قلوب من يؤمنون بها. الوفاء الحقيقي ليس البكاء على الميت، بل إحياء ما كان يحيا من أجله. فهل التيه العقابي ليس جغرافيا فقط... بل نفسي وفكري؟
أربعون عاماً من الضياع، ليست فقط عقوبة مكانية، بل هي صورة لضياع داخلي وفقدان الاتجاه. التيه قد يكون تيهاً حضارياً أو فكرياً أو روحياً وأي مجتمع يرفض مواجهة مصيره، يُعاقَب بالتيه، حتى لو كان يملك أنبياء ومعجزات ولا دخول للأرض المقدسة بلا تطهير داخلي الجيل الرافض لا يُسمح له بالدخول، فقط الذين صدقوا وإيمانهم راسخ. الوصول إلى "الحلم" أو "الخلاص" يتطلب نقاء القلب والإيمان بالفعل. الجسد قد يمشي، لكن إن لم يصحب ذلك صدق ويقين، فلن يبلغ المرء الموعود. حرية الاختيار مسؤولية موجعة موسى لم يفرض الدخول، بل تركهم يختارون رغم علمه بخوفهم.
الحرية الحقيقية ليست في الكلام، بل في تحمل نتيجة الاختيار. والله يُمهل العقول لتختار، لكنه لا يُلغي الحساب. والعدل الإلهي لا يُجامل حتى نبيّه " حتى أنت يا موسى؟" .. "حتى أنا يا هارون" الله لم يستثنِ حتى نبيّه من العقوبة، إن لم يكتمل الامتحان. والرسالة التي نستنتجها بقوة أنه لا أحد فوق سنة الله. لا وساطة في حساب الأخطاء، حتى لو كان المرء نبيّاً أو قائداً أو ابن نبي. المعيار هو العمل. والخيانة تبدأ بالكلمة النقباء العشرة لم يخونوا بالسيف، بل "نشروا مذمّة الأرض". وهذا يعني ضمنياً أن الهزيمة قد تبدأ من كلمة محبطة أو دعاية كاذبة أو ترويج للخوف. لذا فالكلمة مسؤولية، وخيانة الكلمة قد تقتل أمّة. فهل البطولة الحقيقية صامتة، فردية، موجعة؟ شمعون، طفل يتيم، يقرر مغادرة الجميع ليحقق حلماً فردياً. فليس كل بطل يحتاج جيشاً. أحياناً، يكفي أن تقول "لا" وحدك في زمن الجُبن، لتكون أنت الأمة، وأنت البداية الجديدة. إذ حتى الحجر يشهد على خيبة الأمل " الحجر شاهد قبر"، لكنه يشهد على فشل الجيل، وسقوط الحلم قبل أن يولد. فالتاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالأحجار والقبور والندم. والخسائر الكبرى هي تلك التي يفوت أوان تداركها. و "الورقة العشرون" ليست فقط عن بني إسرائيل، بل عن كل أمة تعيش على أعتاب القرار، وتخاف من عبور الباب. الرسائل الخفية فيها تنطبق على الفرد، والمجتمع، والسياسة، والدين، وتجعل من هذه الورقة مرآة للواقع الإنساني، مهما اختلف الزمان والمكان. أما نقد السلطة الدينية بلبوس الشريعة لا تهاجم الدين صراحة في أوراق شمعون ، لكنها تُظهر كيف تحولت الشريعة (الناموس) إلى سلاح في يد السلطة، بُستخدم للقمع أكثر من الإصلاح وإلى وسيلة لإنتاج الذنب الجماعي وإلى لأداة لفرض الطاعة العمياء باسم الإله والرسالة هي " ليست كل شريعة عادلة، ولا كل ما يُنسب إلى الرب إلهياً بالضرورة..ثمة ما يُلفق باسمه ليقهر البشر" .. رواية مليئة برسائل خفية لا تُقال بشكل مباشر، بل تمرّر من خلال الإيحاء، والتكرار، والرمز، والمفارقة. وهذه الرسائل تُشكّل انكشافاً عن رؤية الكاتب للعالم، والدين، والإنسان، والتاريخ. التاريخ يُكتَب دائماً من وجهة نظر الأقوى ، فالحقائق تُطمَس، والحكايات الحقيقية لا يكتبها المنتصرون. فشمعون يسرد قصته بعدما ضاعت أوراقه، أي بعد أن سُرقت روايته. يشكّ في أن أحدهم قد يتلاعب بها ويعيد صياغتها لخدمة جهة ما (الجواسيس، السلطة...). فالكاتب يشير إلى أن التاريخ، خاصة تاريخ الضعفاء والمهمشين، ليس كما نقرؤه في الكتب، بل كما يعيشه الأفراد، وغالبًا يُدفن معهم دون أن يُكتب. فهل الدين الشخصي أنقى من الدين المؤسسي؟ وهل العلاقة الفردية بالله أصدق من الدين الذي تستخدمه السلطة أو المجتمع.؟ كما أن شمعون يتطهر كما تعلّم من "الشيخ عابر"، ويدعو الله كما علّمته أمه، ويُصلي في الخفاء، بينما المتدينون الظاهرون يسرقون ويتجسسون ويقتلون. فالدين في الأوراق ليس طقوساً شكلية، بل تجربة داخلية، حيّة، وشخصية. هذا يعبّر عن موقف نقدي من الرياء الديني والخلط بين الدين والسياسة. فهل المرأة ليست فقط كائناً محباً... بل قادرة على التكرار والخيانة أيضاً؟ رسالة ضمنية أخرى عن الرغبة وحدها لا تبني علاقة صادقة، والفتنة قد تكون قناعاً للخداع. شمعون يكتشف أن أروى لا تميّزه عن غيره، بل تعيد نفس الكلمات ونفس النظرات للجميع، ما يهزّ ثقته في الحب. فالراوي لا يُدين المرأة مباشرة، بل ينتقد مثالية الذكر العاشق الذي يُسقط رغبته وحنينه على وجه أنثى واحدة، ثم يُصدم حين يرى أنها ليست "الوحيدة". والهوية ليست شيئاً واحداً ثابتاً. فالإنسان مزيج من ثقافات ولغات وتجارب... والهوية الحقيقية مرنة. فشمعون "ابن رومانا"، يتحدث العبرية والمصرية، يصلّي لإله إسرائيل، ويأخذ طقوسه من شيخ مسلم. لكنه لا يجد مكاناً كاملاً ينتمي إليه. فهناك نقد ضمني لفكرة "النقاء العرقي" أو "الهوية المطلقة". فالأوراق تُظهر أن الانتماء ليس دائماً إلى الوطن أو العقيدة بل إلى التجربة والمشاعر. فهل الكتابة مقاومة ضد النسيان والاضطهاد؟ وهل الرسالة هنا من لا يكتب نفسه يُنسى، ويُكتَب عنه ما لا يريد؟ وهل شمعون يشعر أن الكتابة ضرورة وجودية، وأن ضياع أوراقه جعله يتيماً مرة أخرى.؟ الرسائل المخفية في الرواية تُعلي من شأن السرد والتوثيق، ويربطهما بالنجاة النفسية. هناك تشابه مع "أدب الشهادة"، حيث تصبح الكتابة وسيلة للتشبث بالهوية، والذاكرة، والعدالة. فالمكان ليس بريئاً... هو شريك في القهر أو الخلاص فالأمكنة لها ذاكرة، وبعضها يطردك، وبعضها يحتضنك. كما أن شمعون يرتحل من سيناء إلى بيزنطة إلى مصر، لكنه لا يشعر بالأمان في أي منها. السوق يضطرب، والمعبد يُحاصر، والحارة تُخترق بالجواسيس. فالمكان هنا ليس خلفية، بل فاعل في الحكاية، وتُستخدم جغرافيته لرسم حالة نفسية وسياسية. فماذا عن الصراع بين القدر والاختيار الحر؟ يعيش الإنسان في صراع دائم بين ما يُفرض عليه من أحداث (القدر)، وبين قدرته الظاهرة على اتخاذ القرار (الاختيار). ونلمس ذلك في قول الشيخ عابر: " القدر ألطاف لا تُدرك، والاختيار هو ما نراه، ولكن ليس ما يكون."هذا القول يعكس رؤية فلسفية ترى أن ما نظنه اختياراً قد يكون انعكاساً لقدَر محتوم، وأن الحقيقة تتجاوز ما تدركه الحواس. كما أن قوة الإنسان في مواجهة الألم والمعاناة رغم قسوة الحياة وتكرار الخسارات، تجعله يمتلك قدرة خفية على الصمود والمقاومة. وذلك مشهد شمعون وهو يجر العربة" رفع شمعون الألواح الثقيلة كأنما يحمل عبء كل أيامه، لكنه لم يستسلم." فالعربة ترمز للحياة المثقلة بالهموم، وشمعون يرمز إلى الإنسان الذي يقاوم ولا ينهار. فهل الحب مرتبط بالالتزام والتضحية؟ الحب الصادق لا يكتمل إلا بالتزام صادق، وغالباً ما يتطلب تنازلات مؤلمة. فرفض أروى لخطبة شمعون رغم حبها له عندما قالت :"لا أستطيع أن أكون لك، فأنا مرتبطة بغيرك."يُبرز هذا الموقف التوتر بين المشاعر الصادقة والقيود الاجتماعية أو الأخلاقية التي تكبحها. فالدين والإيمان ليسا مجرد طقوس، بل تجربة وجودية عميقة. إذ لا يقتصر الإيمان على أداء العبادات، بل يمتد إلى كيفية عيش الإنسان لحياته بتجرد وصدق. "الرسالة ليست كلمات، بل حياة تُعاش."هذا القول يدعو لفهم الدين كمنهج حياة متكامل، لا كطُقوس جامدة منفصلة عن الواقع. فهل الارتباط بالجذور والتقاليد يحدد مصير الإنسان ؟ أم أنه يشكّل الانتماء للقبيلة والتقاليد ركيزة أساسية في تشكيل هوية الفرد وتحديد خياراته. " تتشبث القبيلة بأرضها كأنها قلب ينبض تحت قدميها." هذا التصوير المجازي يعكس مدى التداخل بين الأرض، الهوية، والانتماء. وهذا يُشعرنا أن الكنوز الحقيقية في الحياة لا تُقاس بالمادة. إذ ليست الثروة الحقيقية في المال أو الذهب، بل في التجربة والمعرفة والقيم المكتسبة. " لكن الذهب الحقيقي لم يكن في الصندوق، بل في القوة التي أكتسبها من البحث." ويشير هذا إلى أن رحلة الاكتشاف، بما تحمله من دروس وتحوّلات، أغنى من أية مكافأة مادية. الصراع بين التقاليد والضرورة الواقعية عند الشيخ (دومة) وهو يتحدث بحنق وغضب عن الحرب القادمة والولاءات القبلية، بينما الشيخ (أواس) يحاول التفكير بمنطق أكثر واقعية ويقول إن رياح السموم بدأت من جهة الشمال (دلالة على الأزمات التي تتقدم ولا يمكن تجاهلها). ففي كل زمان، هناك صراع بين التشبث بالتقاليد أو الولاءات القديمة وبين ضرورة التكيف مع الواقع الجديد والمخاطر القادمة. هذا التوتر بين القديم والجديد، التقليدي والعملي، يعكس مرحلة تحوّل تاريخية واجتماعية. فهل الخطر القادم كرمز لانهيار قديم وبداية جديد؟ العاصفة الرملية التي تضرب يثرب ليست فقط حدثاً طبيعياً ، بل هي رمز للحالة المتوترة والعاصفة السياسية والاجتماعية القادمة، وانهيار النظام القديم وربما ولادة نظام جديد، وهذا تزامن مع ما يحدث في مكة وبصرى، ومناوشات بين القبائل. فالطبيعة تعكس تحولات البشر، وحين تهب العواصف، فهي تحذر من التغيير والاضطراب الكبير، وتنبئ بمرحلة جديدة مليئة بالتحديات. والولاء القبلي كمعضلة أخلاقية وسياسية في موقف (عمرو) الذي يرفض الهروب ويصمم على البقاء مع أهله رغم الخطر الشديد، يعبر عن الولاء المطلق للعشيرة والقبيلة، حتى على حساب الحياة.فالولاء القبلي يمكن أن يكون مصدر قوة لكن أحياناً يمثل عائقاً أمام النجاة أو التغيير، وهو يعكس النزاع بين الفرد ومجتمعه، وبين التضحية الشخصية والبقاء. لكن ماذا عن التحالفات والخيانات كجزء من لعبة السلطة؟ تكرار الحديث عن حلفاء وخيانات بين القبائل المختلفة (خزاعة، جرهم، بني إسماعيل، قيدار...) يُظهر أن الولاءات ليست ثابتة، وأن المصالح غالباً ما تتحكم في العلاقات أكثر من القيم. تعني أن السياسة القبلية متقلبة، والولاء يمكن أن يتحول بسهولة، مما يدل على هشاشة الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لكن العيش في التوتر والخوف المستمر ملموس في الاستعداد للعاصفة، الإقامة في المنازل الحجرية، وتأهب الجميع تحكي عن الحياة في بيئة من عدم اليقين والخطر الدائم ويُستنتج من ذلك أن الحياة في زمن النزاعات والحروب لا تعطي مجالًا للراحة، وينبغي الاستعداد المستمر لما هو أسوأ، وهذا يعكس واقع الشعوب التي تعيش في مناطق نزاع تاريخية. الرسائل المخفية في الرواية مهمة جداً لأنها تكشف عن العمق الحقيقي للكتابة، أي ما وراء السطور. النص لا يكتفي بالسرد، بل يزرع رسائل فلسفية ودينية وسياسية، تتسلل إلى عقل القارئ دون أن تُقال صراحة. الحرب لا تُشعلها الفقراء بل يدفعون ثمنها فالحرب يصنعها الطامعون في السلطة والمال، لكن ضحاياها هم المساكين من نساء وأطفال وجوعى. " لا يوجد أقسى من رؤية طفل جائع، حقاً إن الحروب لا تأتي أبداً بخير، لها لهيب يلفح كل من حولها، والعجيب أن من يشعلها هم الطامعون، ومن يكتوي بنارها هم المساكين!" فالجملة تصرح برسالة نقدية مباشرة للطبقات المتسلطة التي تفتعل الحروب بينما تترك الشعوب تعاني من الجوع والفقر. الطفل الذي صارع على ثمرة رمان يمثل الملايين من الأبرياء الذين تُسحق طفولتهم. وأيضاً القداسة الحقيقية ليست في الحجر، بل في السكينة التي تسكن القلوب. فالقداسة لا تأتي من الأساطير حول الأماكن، بل من السكينة التي يجدها الناس فيها. " أنا ما زلت غير موقن بأن ملاك الرب يتجلى على هذا البيت كما كان يتجلى على نبي الله موسى في خيمة الاجتماع، ولكني على الأقل موقن بأن رحمات الله ليست بعيدة عن هذا البيت."الراوي يفكك "القداسة الأسطورية" المبنية على المعجزات، ويعيد بنائها على أسس وجدانية وإنسانية ، أي أن المكان المقدس هو المكان الذي يجد فيه الإنسان سلامه الداخلي.
. البيت الحرام خبيئة الرب... لا مجد فيه إلا بالتجرد من الطمع فالكعبة ليست مكاناً للشرف الدنيوي، بل تمثل رسالة روحية خالصة، محفوظة في وادٍ لا يغري أحداً بشيء سوى بالتجرد. " لا شيء يغري في هذا الوادي المقفر... أشعر الآن أن هذا البيت هو خبيئة الرب، التي أمر نبيه بإخفائها في عمق الصحراء."في هذه العبارة، يُطرح فكرٌ مضاد للمنطق المادي وهو لماذا يبني الله بيته في مكان مقفر؟ الجواب: لأنه لا يريد للناس أن يعبدوه طمعاً في شيء دنيوي، بل رغبة خالصة فيه. هذه رسالة توحيدية عظيمة في عمقها. والطقوس الدينية قد تكون تأملاً، أو خشوعاً… الفرق في القصد والنقاء فالحركات الجسدية في العبادة، سواء كانت حركة وتأملاً أم طوافًا، لا قيمة لها بدون نية القلب. هناك نشوة "سقوط" ونشوة "رُقي". " كلاهما نشوة، ولكن شتان بين نشوة السقوط ونشوة الرقي!"فالشاذلي هنا يوجه نقداً ذكياً إلى طقوس بعض الشعوب الوثنية، ويضعها في مقابل الطقوس الإسلامية (كطواف البيت) بطريقة فلسفية، ليقول: العبادة ليست جسداً يتحرك بل روح تسبح.. كما أن التاريخ لا يُقدّس إلا الصادقين… أما التماثيل فمصيرها السقوط عبادة الأوثان أو تمجيد الأشخاص والقبائل على حساب شرع الله، هو انحراف عن جوهر الدين، ولو جاء من الآباء والأجداد. "وأقدح في آبائي وأجدادي إذا أتوا بما يخالف شرع الرب!" وهذه رسالة صادمة في سياق قبلي، حيث الفخر بالآباء هو الأساس. الشاب هنا يعلن تمرده على تلك التقاليد، ليضع الشريعة فوق النسب، وهي رسالة إصلاحية شجاعة في مواجهة سطوة العادات. فهل السلطة والذهب لا يجتمعان مع الطهر؟
المال حين يقترن بالسلطة لا يُستخدم للخير، بل يُبدد في الحروب والنزاعات. " لو استطاع (عمرو) أن يبدد الغزالتين لينفق بهما على حربه لفعل!" الغزالتان الذهبيتان رمزان للجشع والزينة الفارغة، والقول بأن عمرو كان لينفقهما على الحرب هو إدانة صريحة للتحالف بين المال والحرب. فالثقة أغلى من الذهب لأن الثقة أمانة ثقيلة، وهي أثمن من كنوز تُخفى في الصناديق، وقد تُفقد بكلمة. " شعرت بأنه أثقل الأمانة التي أحملها، وأشفق علي منها..." فالشيخ عابر لا يخشى على الذهب، بل يخشى على شمعون من ثقله. وهذا يكشف أن الأخلاق (الصدق، الأمانة) هي المحور الحقيقي للقوة، وليس ما يُخفى تحت قاع الصناديق. ومن أراد الخير، عفا وأصلح عند المقدرة فالدين ليس انتقاماً ولا تصفية حسابات، بل تسامح عند القدرة على الرد. "ذلك حديث الشيطان... من أراد الخير عفا وأصلح عند المقدرة." ورد الشيخ عابر هنا في غاية القوة الروحية. هو يعلم أن بإمكانه معاقبة أو فضح (دعس)، لكنه يختار الإصلاح والتسامح، وهذه ذروة الأخلاق النبوية. فالرواية ليست مجرد حكاية تاريخية ، بل هي مركّب روحي وفلسفي وتاريخي،تبني تصوراً عن كيف يُمكن للإنسان أن يكون نبيلاً وسط الجوع.و كيف تكون القداسة طريقًا للتجرد لا للتفاخر. و كيف تكون الطقوس جسوراً نحو السماء أو هاوية للسقوط. وكيف يكون الذهب فتنة، والصندوق رمزاً للحكمة أو الهلاك.
أحياناً يقدم الشاذلي في الرسائل المخفية تضاداً جذرياً بين البيت الحرام باعتباره مركزاً للسكينة والعبادة، وبين القوى القبلية المتصارعة التي تحاول توظيف قدسيته لخدمة نزاعاتها. " أشعر الآن أن هذا البيت هو خبيئة الرب، التي أمر نبيه بإخفائها في عمق الصحراء...". تمثل "خبيئة الرب" هنا استعارة دينية و ميتافيزيقية، يُراد بها أن البيت لم يُبنَ ليكون شاهداً على صراع الجاه أو الثروة، بل ليكون ملاذاً روحياً للمهمشين والضعفاء. هذه الرؤية تُدين كل المحاولات التي تحاول احتكار الدين أو توظيفه لأغراض سياسية. كما أن تفكيك مفهوم الطقوس الدينية نلتقط فيه ما يُميّز بين جوهر العبادة وحركتها الظاهرة. ففي مشهد الطواف، تُقارن النشوة الروحية التي عاشها شمعون أثناء الطواف، برقصات الأحباش أمام آلهتهم "كلاهما نشوة، ولكن شتان بين نشوة السقوط ونشوة الرقي!" فهنا يقدّم الشاذلي ثنائية جمالية دينية دقيقة. إذ ليست كل طقوس تؤدي إلى الخلاص، فهناك نشوة "تُسقِط الإنسان في بهيمية"، وأخرى "ترفعه إلى صفاء التجرد"، ما يعيد للقارئ طرح سؤال: ما معيار الصدق في العبادة؟ أهو الشكل أم القصد؟
يرمز الصندوق في الرواية إلى خزينة الذهب التي ورثها شمعون من أمه المصرية، ويُشكّل مركزاً سردياً مشحوناً بالتوتر الداخلي والخارجي. لكن على عكس ما هو متوقع، لا يصير الذهب محور الطمع فقط، بل مجالًا لاختبار الأخلاق والنقاء. " فأمي مصرية!" " أخشى عليه من الأتربة، فهو كل ما بقي لي من ذكرى أمي." فالصندوق هو أكثر من مجرد وعاء مادي؛ إنه وعاء للهوية والذاكرة والأمانة. بينما يحاول "دعس" أن يتلصص عليه، يتشبث شمعون به كمن يتشبث بجذوره وماضيه وعقيدته. ثم تتعزز هذه الرمزية لاحقاً حين يقول الشيخ عابر: " لو استطاع عمرو أن يبدد الغزالتين لينفق بهما على حربه لفعل!" فالمقارنة بين ذهب شمعون وذهبية عمرو تكشف عن نموذجين في التعامل مع الثروة شمعون يحرسها بنقاء نية، وعمرو يوظفها في نزاع سياسي/قبلي. فماذا عن ثنائية الداخل والخارج والطهارة والبشاعة؟
ينتقد شمعون، بشكل غير مباشر، ازدواجية الوعي الديني الزائف الذي قد يُجمّل القبح تحت ستار الطقوس، ويخفي الفساد خلف الاستعارات المقدسة. يظهر ذلك جلياً في موقف الشاب (إياد بن المنذر) الذي يهاجم سدنة البيت " وأقدح في آبائي وأجدادي إذا أتوا بما يخالف شرع الرب!" هذه الجملة تكشف عن انفجار داخلي في البنية القبلية المتوارثة. فالنص يُعيد تأويل القداسة ليس بحسب النسب، بل بحسب العمل، ويُدين ازدواجية من ينتمون إلى البيت ولا يحترمون شرعه. كما أن التصعيد الأخلاقي عند شمعون الذي يمرّ بتحولات تدريجية، تبدأ بالدهشة، وتصل في نهايتها إلى مستوى أخلاقي رفيع؛ ليس فقط في الصبر أو النجارة أو حفظ الأمانة، بل في رفضه التحالف مع أهل البأس والجاه "قلت دون قصد أراك تميل إلى الصبر على جرهم، وتتوجس من أمر خزاعة، فلماذا لا تنضم إليهم في سقيفة عمرو بن الحارث؟" ورغم براءة السؤال، يكشف عن لحظة مفصلية، هل ينحاز الإنسان إلى الصوت الأعلى أم إلى القيم الأصدق؟ والجواب يأتي حين يقول الشيخ عابر: " خذني إلى سقيفة عمرو بن الحارث، يا شمعون."الموقف هنا لا يدعو للمهادنة بل للمواجهة، ولكنها مواجهة نابعة من الحكمة لا من العصبية.
الشاذلي يُعيد كتابة التاريخ لا من منظور القادة والساسة، بل من منظور إنسان بسيط هو "شمعون"؛ رجل من عامة الناس، لكنه يمتلك بوصلة روحية حادة. عبره، نكتشف أن العظمة لا تحتاج إلى نسب، ولا الذهب يصنع النبل، ولا البيت يصير مقدساً إلا بمن يسكنه من القلوب النقية.في نصٍ كهذا، نحن لا نقرأ فقط سرداً، بل نشهد محاكمة للزمن والدين والمجتمع. وفي النهاية، يتركنا الشاذلي أمام سؤال مركزي: "ما القيمة الحقيقية الذهب الذي يلمع، أم اليد التي تحفظه طاهراً؟" فهل هذا يشكل صوت الفرد أمام التاريخ ؟
أما الصراع بين التقدم والرجعية الدينية فهو يحمل رسالة مخفية أيضاً حول صراع الإنسان بين فكرة التقدم والتجديد، وبين التمسك بالمعتقدات القديمة والأصنام. هذا الصراع يظهر جلياً في شخصية عمرو الذي يمثل الدين التوحيدي الجديد، وظهور تمثال بعل كرمز للأصنام القديمة والرجعية التي تحاول العودة والسيطرة. " خرج تمثال الأحمر العملاق بعل من كنعان، ... تحركت الأحباش، تتبع بعل بحركات رقص مهيبة وطبول... تخرج على القوم في القافلة تمثال الأحمر العملاق" هذا المشهد يعبر عن عودة قوى قديمة محاربة لكل محاولة للتغيير، مما يرمز إلى صراع الحضارات والأفكار. فوحدة الفرد في مواجهة القمع تظهر تماماً في عمرو، رغم أنه يمثل الصوت الحق، إلا أنه وحيد في مواجهة هذه القوى. هذه رسالة عن معاناة الفرد أو القائد في المواقف الصعبة، وكيف يمكن أن تكون مقاومته وحيدة، وغير مدعومة من المجتمع خوفاً أو تردداً " قال عمرو بن لحي، ونحن نرفع أصواتنا، نصل إلى جموع القوم، من غير أن نجد منهم ناصراً لنا"و "عمرو ينظر باتساع من حوله، لكنه يجد الخوف على وجوه من حوله" هذا يعكس الوحدة التي قد تواجه من يدافع عن الحق أو التغيير. كما أن الرمزية الطبيعية كمجاز للحياة والمحنة تظهر جلياً في المطر والسيول في الأوراق وهذه ليست فقط ظاهرة طبيعية، بل رمز لمحنة وتجديد. فالسيول تحمل دماراً مادياً، لكنها تعبر عن تطهير داخلي ومواجهة التحديات. " بدأ المطر بالهطول، وارتفعت السيول... تقطع الطرق، تجرف المنازل..."هذه الرمزية تعكس الرسالة بأن التجارب الصعبة جزء من دورة الحياة التي تؤدي في النهاية إلى التجديد. أما التحذير من العودة للجاهلية فهو في ظهور تمثال الأصنام وطقوس الأحباش يمثل تحذيراً ضمنياً من الوقوع في العودة إلى الجهل والتخلف، والتمسك بالمظاهر الخارجية فقط دون الجوهر الإنساني والتطور. " الأحباش يزفون التمثال، ويهتفون بعل، بعل، بعل..."" تحتفل القبائل بعودة التمثال، رغم أنه جلب الخوف والفقر" هذه إشارة إلى أن الظاهر المظاهر الدينية أو الثقافية قد تكون فخاً إذا فقد المجتمع وعيه الحقيقي. رسالة أخرى خفية هي عن التضحية من أجل الحفاظ على القيم والمبادئ، حيث لا يتخلى عمرو عن معتقداته رغم المخاطر، ما يشير إلى قيمة الثبات على المبدأ. " قال عمرو بن لحي، ولا يثنيني عن ديني ريح ولا مطر..."هذا يعكس الإصرار والتضحية من أجل المبدأ فعمرو، الذي لا يثنيه المطر أو الرياح عن التمسك بدينه وقيمه. هذه الرسالة تحمل أبعاداً أخلاقية وفلسفية تحث على المثابرة في وجه المحن، وتؤكد أن التغيير الحقيقي يتطلب إصراراً وتضحيات جسام. فالرواي لا يكتفي بسرد أحداث أو تصوير رموز، بل يقدم قراءة عميقة في صراع الإنسان مع ذاته، مع ماضيه، ومع محيطه الاجتماعي والثقافي. من خلال الرموز والرسائل المخفية، يعكس الراوي واقعاً إنسانياً خالداً، يجعل من الصراع بين القديم والجديد موضوعاً فلسفياً وأدبياً غنياً، يستحق التوقف والتأمل. فهذه الرسالة شهادة على أهمية الوعي، والشجاعة في مواجهة التحديات، وضرورة التمسك بالمبادئ في زمن تتلاطم فيه أمواج الجهل والجمود. إذ يظل الإنسان، مهما كانت الظروف، قادراً على التغيير والبناء من جديد.
صراع محوري بين رموز التقدم والتجديد، ممثلة في شخصية عمرو بن لحي، ورموز الرجعية والجهل ممثلة في تمثال بعل وطقوس الأحباش. هذا الصراع يُعد استعارة لمواجهات تاريخية بين القيم الجديدة المتجددة والقوى التقليدية الرافضة للتغيير.تُشيرالأوراق إلى أن التمسك بالماضي دون نقد أو تحديث هو تهديد حقيقي للحضارة، ويدعو إلى ضرورة الاستنارة والتجديد. إذ يتحرك تمثال بعل كرمز للأصنام القديمة التي ما زالت تلاحق المجتمعات، محاولة إعادة فرض هيمنتها على الوعي الجمعي. هذا الصراع يحمل بعداً فلسفياً ينطوي على جدلية التغيير والثبات، حيث يصور الشاذلي الثورة الفكرية والثقافية كضرورة حتمية للنهوض بالمجتمع.من خلال شخصية عمرو، كما تعكس أوراق شمعون تجربة الفرد الذي يتحمل أعباء التغيير وحده، دون دعم أو مساندة من المحيط الاجتماعي، الذي يختار الصمت أو الخوف. هذه الرسالة تعكس واقعاً مألوفاً في مجتمعات تعاني من جمود فكري أو قمع سياسي، حيث يتحمل المفكرون والرواد عبء التغيير في عزلة. كما يظهر عميقاً نقد السلطة المستبدة والتقديس الزائف.إذ ينتقد الراوي بشكل خفي من يسوّق لنفسه كقائد "روحي" أو "ساحر" يوهم الناس بأن الجن والقدر معهم، بينما هو يمارس طغياناً خفياً. " رأيته في يوم الخروج على رأس القافلة، وإلى جواره (طريفة) العرافة التي أنبأته بأن علاج ما ألم به من مرض موجود في أرض كنعان... تعجبت من أن الجن قد عجزت عن علاجه في (بكة)!" إذ يُظهر كيف يستخدم "عمرو بن لحي" الدين والخرافة كغطاء سياسي لتثبيت سلطته، ويوهم الناس أن رحلته أمر "مقدّس"، رغم أنها بدافع المرض والطمع، وهي إسقاط على بعض الحكّام عبر التاريخ الذين يستخدمون الدين لتبرير قراراتهم. والنقد الضمني للسلطة المتلبسة بالقداسة، حيث تُستعمل الطقوس، والعرافة، والجن كأدوات لإضفاء شرعية على حكم "عمرو بن لحي". إن المشهد الذي يصور خروج "عمرو" من بكة برفقة "طريفة" العرافة، وإشاعة أن الجن أرشدوه إلى أرض كنعان لعلاج مرضه، هو صورة فاضحة لنمط الحاكم الذي يُقنع شعبه بأن قَدَرَه مقدّس، بينما يخفي خضوعه للضعف الإنساني. " ظني أن (عمرو بن لحي) يجيد نشر هذه الأخبار التي تزيد من رهبته عند الناس وتضمن خضوعهم" في هذا التوظيف، يستعيد الشاذلي من خلال أوراقه نقداً توراتياً قرآنياً لرمز “بن لحي” المعروف تاريخياً بأنه أول من أدخل الوثنية إلى مكة، مما يفتح الباب لتأويل الأوراق كأداة تفكيك للسلطة الزائفة وفضح تواطؤها مع الخرافة والتجهيل. في إزدواجية النظرة للمرأة هو يمرر نقداً للمجتمع الذكوري الذي يحتقر الأنثى في المعتقد، لكنه يعتمد عليها فعلياً في الحياة والبقاء. "تؤمن مثل قومها بأن الذكور يأتون بسعة في الرزق، وأن البنات يجلبن ضيق الرزق، رغم كونها أنثى... ثم يشكين ظلم الرجال بعد ذلك!" والمفارقة هنا لاذعة! المجتمع يفضل الذكور، لكنه لا يرى حجم تضحيات الأمهات والنساء مثل "أروى" و"أم السعد" و"ميمونة". المشهد يعكس هذا التناقض ويجعلك تراه دون أن يصرّح به، فيكون وقع النقد أقوى. فهل . الحرية مقابل القيود الاجتماعية هي رسالة أيضاً ؟ شخصية "هوى" تمثل الحنين للحرية والخروج من أطر القيد الاجتماعي، بما فيها الزواج والتقاليد. " شعرت بقلبها يخفق... سوف أرافقكم إلى هناك، وإن شئتم اتركوني هناك وحدي!" فمعنى "اتركوني هناك وحدي" ليست عابرة، بل تعكس رغبة في الانفصال عن النمط المعتاد. "هوى" تسير "كالمسحورة" إلى بيتٍ على الشاطئ رمزياً، هي تذهب إلى "مكانها"، الحلم الذي لا تحدده القيود. لكن الفقد كمنشأ للكتابة، والتوثيق، والرواية، تأتي من تجربة الفقد والحزن. "قررت أن أكتب عن تلك الرحلة فصلا في كتابي..." "كنت أدون كلماتي وأسطر أوراقي حتى فرغ مني الحبر..." فالراوي لا يكتب للعرض أو المجد، بل يكتب كي يفهم، وكي يُشفى. حتى مشاهد الولادة، الفقد، والرحيل، كلّها تدفعه للتدوين وهذا تعبير عن رسالة مهمة الكتابة هي شكل من أشكال البقاء والمقاومة. قدر وحيرة وجودية رغم الإيمان به، يُقدم هنا كقوة غامضة تُربك الإنسان أكثر مما تهديه. "ولكن الأمور سارت كما اختارها القدر لي ولم تكن لي حيلة في ذلك، اختيار القدر ألطف بلا شك، ولكنها النفس تتوق للاستئثار بكل شيء..."يبدو هنا أن الإيمان بالقدر ليس راحة كما يُقال، بل تسليم فيه مرارة، وشعور بالعجز. هذا استبطان لفكرة فلسفية عميقة حول العلاقة بين الحرية والقدر في النفس البشرية. فما هي الدائرة المغلقة في الرحيل والعودة ؟ وهل الحياة أشبه بدائرة تخرج، تعود، تبحث عن شيء لم تفقده، وكأنك تهرب من نفسك. " كانت هذه هي أفضل ليلة أولى لي، منذ خروجي من قادش برنيع..." فالراوي يفتح بقوة على مأساة الرحيل من الوطن، ولكنه يظل يعود إلى الذاكرة الأولى. شمعون ما زال عالقاً في سؤال الهوية، وكأن كل الطرق ... من بكة إلى كنعان إلى الشعيبة... تعيده إلى نقطة البداية.
الرواية تحمل الكثير من الرسائل الخفية التي رصدت بعضها وليس كلها كالنقد الاستبداد والسلطة المزيفة وازدواجية المجتمع تجاه المرأة والحنين للحرية والهوية ومعنى الكتابة كعلاج للفقد والقلق الوجودي تجاه القدر والحياة كرحلة بلا نهاية كلها ممزوجة في سرد حيّ لا يرفع شعارات مباشرة، بل يمرر فكرته بهدوء، ويجعل القارئ يراها لا يسمعها فقط.
طرابلس-لبنان الإثنين 7 حزيران الساعة السادسة مساءا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سردية اعترافية لراوٍ عاشق ومقاوم في رواية
-
عبء الماضي ومهمة المستقبل في قصة الشامة ل ميخائيل شولوخوف
-
-حياة غير مكتملة-: حين يُبعث الغفران وسط رماد الحزن
-
بارتلبي ورفض عالم هيرمان ميلفل الحديث والكئيب
-
تيار الوعي بين الحب والصداقة والعالم الهش في رواية قلب ضعيف
...
-
صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب
-
سردية القهر والانتحار في هلوسات ترشيش للروائي حسونة المصباحي
-
بنية القلب الواعي في هندسة العلاقة الإنسانية
-
الطيار الذي أسقطه الزمن ق في رواية -لا لون هناك-لمحسن الغمري
-
نسمات أيلول- كوميديا اجتماعية تسلط الضوء على تقلبات الحياة ا
...
-
رواية -عزازيل و الانتقال بين العوالم المادية والروحية
-
-عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة
-
الغيرة الناعمة في الفضاء الثقافي
-
هل يمكن للمرأة أن تكون حرّة حقًا في مجتمعٍ لا يتقبل إلا ما ي
...
-
هل عالم الصيحات هو عالم التآكل الأنساني؟
-
الجرس الأخير وصراع الذات والحب في عالم مشوش
-
وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-
-
-وادي الفراشات- لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد
-
الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ
-
الحياة في ظل قناع رجل
المزيد.....
-
2000 حرفي وفنان عملوا على مجموعة أزياء هندية في أسبوع باريس
...
-
الأدب والألم: كيف يولد الجمال من رماد البؤس؟
-
التحول الكامل.. قصة الفنان الذي يعيش حياة المشاهير في باريس
...
-
الأدب والألم: كيف يولد الجمال من رماد البؤس؟
-
الأغلى على الإطلاق.. لحظة تحطيم حقيبة الممثلة جين بيركين للأ
...
-
ظهور نتيجة الدبلومات الفنية في هذا الموعد «التجارة- السياحة
...
-
عارف: لا مكان لكلمة -الاستسلام- في ثقافة ايران السياسية والد
...
-
استعداد إيراني لتوسيع العلاقات الاقتصادية والثقافية مع السعو
...
-
على شكل وعاء.. ناثان فيليون يدافع عن تسريحة شعره في فيلم -سو
...
-
نتيجة الشهادة الفنية بالرقم الجلوس فقط.. استعلم عن نتيجتك بس
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|