|
قيس سعيّد بين بونابارتية الدولة التابعة والشعبوية اللقاحية: نقد ماركسي لمغالطة الفاشية
سامر بن عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 11:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المقدمة شكّل 25 جويلية 2021 نقطة تحوّل سياسي في تونس، حيث أقدم الرئيس قيس سعيّد على تجميع السلطات بيده تحت غطاء "الإجراءات الاستثنائية"، قبل أن يُعيد بناء النظام السياسي على أسس جديدة تُرسّخ سلطة الفرد وتُهمّش المؤسسات الوسيطة كالأحزاب والبرلمان اضافة الى ذلك فقد برزت مظاهر تركّز السلط، وتراجُع الحريات. من منظور ماركسي، لا يمكن فهم هذا النظام خارج سياقه الطبقي. فـما سُمّي بـ"تصحيح المسار" لم يكن سوى استجابة من الدولة لمأزقها التاريخي: عجزها عن تلبية المطالب الشعبية المتراكمة منذ 2011، وتفاقم التناقض بين عموم الكادحين من جهة، وتحالف البيروقراطية والبرجوازية الطفيلية والرأسمال العالمي من جهة أخرى تهدف هذه الدراسة إلى تحليل طبيعة نظام 25 جويلية باعتباره شكلاً سياسياً يعبّر عن محاولة البنية الطبقية الحاكمة إعادة إنتاج هيمنتها ما هو نظام الاستثناء نظام الاستثناء، كما عرّفه نيكوس بولانتزاس، هو شكل من أشكال الدولة الرأسمالية يظهر في فترات الأزمات البنيوية، حيث تعجز الأشكال الديمقراطية البرجوازية التقليدية عن ضمان استمرارية السيطرة الطبقية. يتميز هذا النظام بإزاحة جزئية أو كلية للمؤسسات التمثيلية، وتكثيف الطابع القمعي للدولة، واحتكار القرار السياسي ضمن الأجهزة التنفيذية أو الأمنية، تحت ذريعة "الضرورة" أو "الطوارئ". ويُعتبر هذا المفهوم من إبداعات بولانتزاس النظرية المهمة، إذ حاول أن يربط التحولات السياسية الاستثنائية بالبنية الطبقية وتوازنات القوى داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة لكن رغم عمق هذه النظرية، فإن تطبيقها على المجتمعات التابعة أو أشباه المستعمرات يتطلب تعديلاً حذرًا. فهذه السياقات لا تتسم بنفس البنية الطبقية ولا بدرجة تطور أجهزة الدولة كما في المركز الرأسمالي، بل كثيرًا ما تكون فيها الدولة نفسها أداة مباشرة لإعادة إنتاج التبعية الإمبريالية، مما يجعل طابعها "الاستثنائي" بنيويًا لا ظرفيًا. وعليه، فإن استلهام بولانتزاس في هذا السياق يقتضي إعادة صياغة النظرية لتأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الاستبداد المحلي والبنية الإمبريالية العالمية
انظمة الاستثناء في اشباه المستعمرات هذا ما يجعل من وجود الأنظمة البونابارتية المتخلفة أو الدكتاتوريات العسكرية في بلداننا مسألة بنيوية لا ظرفية، فهي ليست خروجًا مؤقتًا عن "القاعدة الديمقراطية"، بل تمثل نمطًا متجذرًا في بنية التبعية، يستمد ضرورته من موقع هذه الدول في النظام الرأسمالي العالمي. أما عن العلاقة بين هذه الأنظمة البونابارتية والديمقراطية الهشة، فهي علاقة جدلية؛ إذ تؤسس الأولى للثانية من حيث القمع وتفكيك الأحزاب واحتكار المجال السياسي. فالأنظمة البونابارتية تعمل على تنظيم الهيمنة الثقافية من خلال المركزية الصارمة، وتطيح باستقلالية الأجهزة الأيديولوجية كالنقابات والإعلام والمدرسة، مما يخلق فراغًا سياسيًا وفكريًا خانقًا لكن بفعل التهميش والفقر البنيوي الناتجين عن التبعية الاقتصادية، والتوحش الإمبريالي، وتحالف البرجوازية الكمبرادورية مع البيروقراطية المتضخمة، تنفجر انتفاضات شعبية تُسقط هذه الأنظمة، فيُفتح المجال أمام صيغ "ديمقراطية" مستوردة، تميل بطبيعتها إلى النحطاط بسبب غياب الوعي السياسي الجماهيري، وضعف الأحزاب الجذرية، وانعدام التجربة السياسية. في غياب مشروع ديمقراطي شعبي جذري، تعجز هذه الديمقراطيات الهشة عن تلبية المطالب الاجتماعية والسياسية، فتنهار بسرعة تحت وقع الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية وحين تَفشل القوى التقدمية في تحويل هذا المسار إلى أفق تحرري، تُعاد هيكلة السيطرة الطبقية من خلال عودة الأنظمة العسكرية أو البونابارتية، في محاولة لإعادة تنظيم أجهزة الدولة وهيمنتها ضمن أزمة تمثيل سياسي متفاقمة. وهكذا تستمر الدورة: استبداد يقود إلى انتفاضات، ثم ديمقراطية برجوازية هشّة، فعودة إلى حكم عسكري أو بونابارتي جديد، في تكرار مأساوي يُعيد إنتاج التبعية ويمنع بناء مشروع وطني ديمقراطي حقيقي و كملاحظة منهجية رغم أن الأنظمة البونابارتية والعسكرية في أشباه المستعمرات تمثل نمطًا بنيويًا مترسخًا في علاقات التبعية، فاننا نبقي على مصطلح الاستثناء كتسمية إجرائية وتحليلية، لا باعتباره انقطاعًا عن القاعدة المحلية، بل كوسيلة لفهم آليات عمل هذه الأنظمة وارتباطها بالتحولات في شكل الدولة ومهامها. إن الحفاظ على هذا المفهوم يسمح بإبقاء الصلة النظرية مع أطروحات نيكوس بولانتزاس حول الدولة الاستثنائية، مع توسيعها وتكييفها مع السياق المختلف جذريًا لأشباه المستعمرات فالاستخدام النقدي لمفهوم "الاستثناء" هنا لا يعني التسليم الكلي بمرجعية النموذج الماركسي الغربي و اعادة انتاجه مرة اخرى، بل يوفّر مدخلاً لفهم الطابع المركّب للدولة التابعة، وطريقة إدارتها للعنف والهيمنة في شروط غير ليبرالية وغير مستقرة. وهو ما ستسعى الدراسة لاحقًا إلى تفكيكه، من خلال تتبع المظاهر الملموسة لهذه الأنظمة، وتوضيح كيف تتشابك فيها العناصر السلطوية والبنى الطبقية التابعة والوظائف القمعية – في علاقة جدلية مع النظام الإمبريالي العالمي
ما هي البونابارتية البونابارتية، كما عرّفها كارل ماركس في كتابه الشهير الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت هي سلطة تنفيذية متمركزة، متضخمة، تنتصب فوق المجتمع المدني " البونابارتية نمط من أنماط السلطة يظهر اثر ازمة هيمنة تعصف بالطبقات السائدة، مما يتيح لشخص أو جهاز دولة أن يعلو فوق الصراع الطبقي ليبدو وكأنه يمثّل الأمة ككل، بينما هو في الحقيقة يحفظ مصالح الطبقة المالكة. لويس بونابرت (نابليون الثالث)، ابن شقيق نابليون بونابرت، جسّد هذا النمط: جاء إلى السلطة عبر موجة من الخطاب الشعبوي، محاطًا بأجهزة الدولة العسكرية والبيروقراطية، متظاهرًا بالدفاع عن "الشعب"، بينما في الواقع حمى مصالح الرأسمال الصناعي والمالي في القرن العشرين، طوّر ليون تروتسكي المفهوم، معتبرًا أن البونابارتية قد تتخذ شكلاً يمينيًا أو يساريًا، وأنها تنشأ حين تفشل البروليتاريا في قيادة المجتمع نحو الاشتراكية بينما تعجز البرجوازية عن الحفاظ على السيطرة بالديمقراطية البرلمانية. في هذا الفراغ، تنمو قوى الدولة لتلعب دور الوسيط القسري، مستخدمة القمع، فيظهر القائد البونابارتي كـ"منقذ" خارق، من الامثلة التي استخدمها تروتسكي نظام كيرينسكي الذي مثّل سلطة برجوازية مترددة بين الثورة والردة في روسيا عشية الثورة و الذي يُلغي الديمقراطية بحجة الوحدة الوطنية. أما أنطونيو غرامشي، فقد أضاف في ثلاثينيات القرن العشرين بُعدًا ثقافيًا وتحليليًا أعمق. في "دفاتر السجن"، يرى أن البونابارتية تُولد من "أزمة عضوية" عميقة، حيث تفقد الطبقة الحاكمة قدرتها على قيادة المجتمع أيديولوجيًا ("الهيمنة")، مما يفتح المجال لسلطة عسكرية-شخصانية تملأ الفراغ باسم "الوحدة" أو "المصلحة العامة"، لكنها تُبقي البنية الطبقية على حالها في القرن الحادي والعشرين، كما يشير المقال، عاد المفهوم للواجهة عبر صعود البونابارتية الجديدة في أشكال من الشعبوية السلطوية .هذه الأنظمة تعيد إنتاج منطق البونابارتية: قائد يتحدث باسم "الشعب"، يهاجم النخب التقليدية، ويقوّض المؤسسات الديمقراطية، لكن دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي. الجديد هنا أن هذه البونابارتية تعمل في سياق أزمة تمثيل ديمقراطي عميقة ، مما يمنح القائد مجالًا أوسع للعب دور القائد الملهم، لا كوسيط، بل كمجسّد لإرادة الأمة خصوصيات و اهداف الانظمة البونابارتية بالاستناد الى الواقع السياسي لاشباه المستعمرات و تحليله على ضوء كتاب حول الأيديولوجيا والسلطة لنيكوس بولانتزاس، يمكن فهم النظام البونابارتي في هذه البلدان كآلية يلجأ إليها النظام الرأسمالي التابع عندما تدخل شرعيته أزمة عميقة ولم تعد أدواته التقليدية كافية لضبط المجتمع. في مثل هذه اللحظات، لا يُعاد ترتيب السلطة فقط من خلال القمع، بل أيضًا عبر ضرب استقلالية الأجهزة الأيديولوجية مثل الإعلام، المدرسة، النقابات، والدين، التي تصبح خاضعة بشكل مباشر لجهاز الدولة عبر منظومة من الرقابة القانونية والسياسية إحدى المهام الجوهرية لهذا النظام تكمن تحديدًا في إعادة هيكلة العلاقة بين الأجهزة الأيديولوجية للدولة وأجهزة القمعية فبينما تحتفظ هذه الأجهزة، في الظروف "العادية"، بقدر من الاستقلالية النسبية (كما في تصور غرامشي) يسمح لها بإنتاج توافق هيمني يبدو "طبيعيًا"، فإن النظام البونابارتي يسعى إلى تقييد هذه الاستقلالية لصالح مركزية السلطة. ويتم هذا عبر أ التقنين الشديد، الرقابة المباشرة، عسكرة الإعلام، وتجريم العمل النقابي والسياسي المستقل او خنقه، ما يحوّل هذه الأجهزة إلى امتداد مباشر للآلة القمعية للدولة اي انها تقوم بتعديل دور بعض الاجهزة الى حد تحويل طابعها من ايديولوجي الى قمعي او العكس و هو ما نشهده في الحضور المتكرر للبوليس و الاجهزة الامنية في وسائل الاعلام في السياقات التابعة، حيث التجربة السياسية هشّة، يكون تحييد الأحزاب والنقابات مسألة يسيرة، لأنها إما ضعيفة غير متجذرة في الجماهير و دون اي فكر سياسي أو مدمجة أصلاً في البيروقراطية التابعة للنظام، ما يجعل المقاومة الشعبية غالبًا محدودة أو غير منظمة، ويجعل من الرقابة والضغط الإداري أدوات كافية لتأبيد السيطرة. ولهذا السبب، غالبًا ما يندر الالتجاء إلى العنف الجسدي المكشوف، إذ يكفي الضبط الرمزي والإداري لإبقاء الأمور تحت السيطرة إن هذا النمط من الأنظمة، في سياق أشباه المستعمرات، يحكم أساسًا من خلال توسّع البيروقراطية، التي لا تنمو بوصفها جهازًا إداريًا محايدًا، بل كآلية للضبط السياسي والاجتماعي في ظل أزمة تمثيل مزمنة وتزايد في المركزية. وغالبًا ما يُترجم هذا التوسع في الواقع عبر تغيير في النظام الانتخابي، لا بهدف تحسين التمثيل، بل لإعادة ضبط قواعد اللعبة السياسية بما يضمن إعادة إنتاج الهيمنة. لكن، بخلاف ما يحدث في الدول الرأسمالية المتقدمة، فإن هذا الميل إلى ضبط التمثيل ليس مدفوعًا بالخوف من الطبقة العاملة أو تنظيماتها، إذ أن هذه الأخيرة، في بلداننا المتخلفة، إما غائبة فعليًا أو مدمجة ضمن البيروقراطيات النقابية والحزبية التابعة للنظام وعليه، فإن تحوير النظم الانتخابية وفرض المركزية الخانقة لا ينبعان من مواجهة حقيقية مع قوى شعبية مستقلة، بل يُعَدّان محاولة للتعامل مع الأزمة الإيديولوجية للنظام التابع، أي تلك الفجوة المتزايدة بين شرعيته المتآكلة وظيفيًا، واستمرار تبعيته البنيوية للمنظومة الكولونيالية العالمية. إن هذه التعديلات "الفوقية" على البنية السياسية ليست تعبيرًا عن حركية ديمقراطية، بل إجراءات بيروقراطية تهدف إلى احتواء الاحتقان وتفكيك أي إمكانية لولادة وعي سياسي تحرري لكن هذا لا ينطبق على بعض بلدان أمريكا اللاتينية، حيث للتجربة السياسية جذور أعمق، وللمقاومة الشعبية حضور أكثر تنظيمًا وفاعلية. في تلك الحالات، لا تكفي أدوات الهيمنة الناعمة أو الرقابة الرمزية، بل يتجه النظام نحو أنظمة ديكتاتورية عسكرية صريحة، كما حصل في تشيلي مع بينوشيه الذي أطاح بالحكومة المنتخبة بقيادة ألليندي، وأقام نظامًا دمويًا فتك بالشعب، أو كما حدث في الأرجنتين في ظل المجلس العسكري، الذي ارتكب مجازر ضد المعارضين. كما ان في هذه البلدان من اشباه المستعمرات يمكن ان تتحول هذه الانظمة البونابارتية الى فاشية عبر سلسلة من التغيرات و المراحل منها البونابارتية الوسيطة و المتقدمة و هذا يرجع لقوة التنظيمات العمالية و تجذرها في حركة التحرر الوطني في كلتا الحالتين، سواء كانت السيطرة عبر قمع ناعم في المجتمعات ذات التجربة السياسية المحدودة، أو عبر عنف دموي في المجتمعات ذات التقاليد النضالية العريقة، يظل الهدف هو نفسه إعادة إنتاج التبعية، وضمان استقرار النظام في ظل أزمة التمثيل واحتدام التناقضات الطبقية ولذلك، لا تشكّل الأنظمة البونابارتية استثناءً، بل تمثّل منطقًا مستمرًا داخل بنية الدولة التابعة. ومع استخدامنا لمفهوم "الاستثناء"، فإننا نفعل ذلك كأداة تحليلية تسمح لنا بفهم كيفية تكثيف القمع داخل إطار قانوني-شكلي من الشرعية، بما يتيح للنظام أن يقدّم نفسه كدولة "مدنية" رغم الطابع السلطوي العميق الذي يحكم آليات اشتغاله قيس سعيد و البونابارتية في السياق التونسي، يمثّل صعود قيس سعيّد تعبيرًا نموذجيًا عن نظام بونابارتي تشكّل في قلب أزمة تمثيل خانقة أعقبت الانهيار التدريجي للمسار الديمقراطي بعد 2011. فقد بدأت علامات التدهور تتراكم منذ حكومة يوسف الشاهد، التي تحوّلت إلى رمز للفساد والتفقير والتفكك المؤسسي، في ظل سياسات نيوليبرالية عمّقت التفاوتات الاجتماعية. تفجّرت أزمات متتالية، أبرزها مقتل عمر العبيدي، مشجّع النادي الإفريقي، وفضيحة العثور على جثث 15 رضيعًا في صناديق بأحد المستشفيات، ما عمّق فقدان الثقة في مؤسسات الدولة وزاد الوضع اختناقًا مع برلمان تحوّل إلى سيرك سياسي، تستعرض فيه النخب الحزبية صراعاتها الفارغة، في قطيعة تامة مع هموم الجماهير، إلى جانب اتحاد شغل بيروقراطي، وأحزاب فاقدة للشرعية، قائمة على المال السياسي الفاسد، وإعلام مأجور رهين الصراع السياسي، ودين استُخدم من قبل حركة النهضة سياسيًا، فاستُغلت المساجد وسُلّمت للسلفية الجهادية للتحريض على العنف المجتمعي، قبل أن يُستوفى هذا الدور، ليُحوَّل الدين لاحقًا إلى سلعة استهلاكية تُقدَّم في برامج الرداءة دون أي تأثير حقيقي على الناس. فقد تحوّل الدين من سيف في معركة الهوية التي فرضها الإسلاميون، إلى بضاعة إعلامية، ففقد أي دور في إعادة إنتاج الهيمنة، أمام تزايد الاحتقان الشعبي. فالتخدير لم يعد كافيًا. باختصار الى جانب التهميش و التدهور الاقتصادي شهدت الدولة ازمة حادة على مستوى اجهزتها الايديولوجية(الاحزاب-النقابات-الاعلام-البرلمان-المسجد-القضاء-المدرسة...) التي فشلت في اعادة انتاج الهيمنة بل وفقدت شرعيتها (بالنسبة لفقدان الشرعية نتحدث اساسا عن الاجهزة الايديولوجية السياسية) ملاحظة قبل ان نكمل التحليل يجب ان نشير الى ان في النظرية الماركسية للدولة الاجهزة النقابات و الاحزاب هي اجهزة ايديولوجية للدولة و ان ما سظهر من معارضة في عملها السياسي تمثل نسبة استقلالية هذه الاجهزة ازاء النظام..في النظام البونابارتي تقلص استقلالية هذه الاجهزة و يعاد توزيع ادوارها نعود الان فأمام هذا التدهور، انطلقت الاضطرابات الاجتماعية في ديسمبر 2021 و لو بشكل طفيف مع تركز اساسي في الاحياء الشعبية، لكن هذه المرة، لم تفاجئ الانتفاضة النظام كما حدث في 2011. بل إن الطبقات السائدة استبقت الحدث، واستوعبته من داخل الأزمة، عبر تهيئة الشروط لظهور سلطة "منقذة" تنقضّ على المسار الديمقراطي الشكلي و الهش باسم "تصحيحه". هكذا أُعيد إنتاج السيطرة، لا عن طريق آليات التمثيل، بل عبر شخصنة الحكم وتفكيك الوسائط السياسية ومع فشل الأجهزة الأيديولوجية — من إعلام ونقابات وأحزاب — في تشكيل توافق جديد، أصبح اللجوء إلى شكل بونابارتي من الحكم ضرورة لإعادة تنظيم الهيمنة و طمس التناقضات الطبقية و اعادة توزيع المهام في الاجهزة الايديولوجية مع التعديل في دورها. لكن الأهم هو أن هذا النظام لم ينشأ خارج الصراع الطبقي، بل انبثق منه تحديدًا ليخفيه إن اللحظة البونابارتية، كما نراها في 25 جويلية، لا تُعبّر عن قطيعة مع ما قبلها، بل هي استمرارية داخلية للبنية الكولونيالية التابعة، أعادت إنتاج أدوات السيطرة بشكل أكثر تركيزًا وقمعًا. لذلك، فإن الحديث عن "تصحيح المسار" ليس سوى أسطورة تأسيسية تُستعمل لتبرير مصادرة السياسة، وتجميد الصراع الاجتماعي، في حين أن الواقع يشهد على تكثيف السيطرة لا تفكيكها إن 25 جويلية ليست لحظة تحرر و اصلاح مسار، بل مواصلة لمسار التبعية الكولونيالية ضمن وحدة جدلية مع ديمقراطية هشة لم تنجح أصلًا في بناء سيادة شعبية حقيقية
خصوصيات الانظمة البونابارتية يمكن للبونابارتية، بحسب السياق الطبقي والسياسي، أن تتخذ طابعًا يمينيًا كما في حالة نظام بورقيبة في تونس، حيث احتكرت الدولة السلطة باسم التحديث والاستقلال، لكنها أعادت إنتاج الهيمنة البرجوازية عبر بيروقراطية تكنوقراطية محافظة قمعت التنظيمات الشعبية واحتكرت الفعل السياسي. في المقابل، قد تتخذ البيروقراطية طابعًا يساريًا كما في تجربة بيرون في الأرجنتين، إذ تبنّت الدولة خطابًا شعبويًا وعدالة اجتماعية شكلية، وروّجت لتمثيل العمال، لكنها في الواقع منعت التنظيم الذاتي للطبقة العاملة واحتكرت التمثيل باسمهم ضمن جهاز بيروقراطي فوقي. وعلى هذا النحو، يمكن فهم تجربة قيس سعيّد كبونابارتية يسارية، حيث تختبئ السلطة البيروقراطية وراء شعارات مكافحة الفساد والبناء القاعدي و القطع مع صندوق النقد الدوليé ، وتُروّج لنمط من المجالس المحلية الشكلية التي لا تمكّن الطبقات الشعبية من السلطة، بل تحوّلها إلى قاعدة دعم بيروقراطية فوق المجتمع، مانعة الصراع الطبقي من أن يتخذ شكلاً سياسيًا مستقلاً وهنا تحديدًا، ينبغي تحذير اليسار التقدمي والتيارات الشيوعية من الانخداع بهذه الأنظمة أو الانغماس في دعمها تحت وهم أنها أنظمة منقذة أو حاملة لمشروع شعبي، إذ أنها تمثل شكلًا من البونابارتية اليسارية التي تُقصي الجماهير باسمها، وتُعيد إنتاج التبعية من موقع سلطوي فوقي. كما أن مسألة دعم هذه الأنظمة أو معارضتها لا ينبغي أن تُفرض من فوق، بل تُبنى على أساس تحليل ملموس لتناقضات الواقع الطبقي والاجتماعي. وحتى في حال تبنّي موقف داعم ظرفي لهذه الأنظمة، فإن هذا الدعم لا يكون إلا نسبيًا ومؤقتًا، ويُدرج ضمن تكتيك سياسي واعٍ، يُوظّفها كخطوة ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى بناء بديل جذري. لكن لا بد من التأكيد على أن هذه الأنظمة، رغم شعاراتها، تمثل استمرارًا لبُنى التبعية الكولونيالية، وتشكل خطرًا على وعي المجتمع وتنظيمه. لذلك فإن الهدف على المدى البعيد يجب أن يكون الإطاحة بها، و لكي يتحقق هذا الهدف يجب على الكتلة التاريخية، بتعبير غرامشي، من التشكّل وقيادة الانتفاضة القادمة، وإلا فإن سقوط هذه الأنظمة في فراغ تنظيمي وطبقي لن يؤدي إلا إلى العودة نحو ديمقراطية برجوازية هشة، تعيد إنتاج نفس البنية التابعة بأشكال أكثر خداعًا قيس سعيد و الخطاب الشعبوي شعبوية قيس سعيّد تمثّل تعبيراً واضحاً عن أزمة الدولة التونسية في لحظة انهيار التمثيل السياسي وتفكك المنظومة ما بعد 2011، لكنها لا تفتح أفقاً تحررياً، بل تُعيد إنتاج نفس البنية التسلطية بصيغة "شعبوية قانونية" تُخفي التناقضات الطبقية خلف خطاب أخلاقي محافظ. في سرديته، يغيب الصراع بين الطبقات ليُستبدل بثنائية زائفة بين "شعب نقي" و"نخبة خائنة"، وهو ما ينسجم تماماً مع الشعبوية كأيديولوجيا برجوازية صغيرة تعيش التذبذب والتشويش وتسعى إلى الخلاص من فوق. يعمّق هذا التوجه غيابُ أي برنامج اقتصادي أو اجتماعي متكامل؛ فالشعبوية لا تقدّم رؤية واضحة للتغيير، بل تتعمّد الغموض لتستوعب تناقضات الجماهير دون المساس بأسس النظام القائم. وقد عبّر سعيّد عن هذا المنطق بوضوح حين صرّح لصحيفة الشارع المغاربي الديمقراطية النيابية أفلست، ونحن اليوم بحاجة إلى مفاهيم جديدة مختلفة عن ثنائية اليسار واليمين، وأيديولوجيا اليوم هي إرادة الشعب . هذا التصريح يلخّص بدقة جوهر الشعبوية: نفي الصراع الطبقي، رفض التقسيمات الأيديولوجية، وتقديم "إرادة الشعب" كمصدر شرعية مطلق وعائم، يبرّر كل ممارسة سلطوية باسم وحدة وهمية تتجاوز الواقع الاجتماعي المادي. سعيّد يقدّم نفسه كمنقذ فوق الطبقات، باسم "الإرادة الشعبية"، تماماً كما وصف ماركس البونابارتية، لكنه لا يطرح أي قطيعة فعلية مع الرأسمالية التابعة ، بل يعيد إنتاج التبعية في شكل سيادي لفظي. غياب الحزب، غياب القاعدة الاجتماعية المنظمة، وتعويله على مؤسسات الدولة والبيروقراطية يزيد من طابع حكمه الفردي، ويجعل من مشروعه صيغة سلطوية مغلقة توظّف القانون كأداة قمعية باسم الشعب. بهذا المعنى، لا تمثّل شعبوية سعيّد خروجاً عن النظام، بل استمرارية له في شكل أكثر تركيزاً، وهي تعبّر عن محاولة للهيمنة من داخل الأزمة لا لتجاوزها، بل لإدارتها بشكل عمودي يضمن إعادة استقرار النظام الاجتماعي القائم دون تغييره
ما هي الشعبوية اللقاحية الشعبوية اللقاحية تمثل نمطًا من الخطاب السياسي يستدعي في الظاهر نموذج "اللقاحية" كما تبلور تاريخيًا في الثقافة العربية الإسلامية، أي ذلك النموذج المناهض للترف السلطاني، الرافض للوراثة، المتقشّف، القريب من العامة، الزاهد في الامتيازات، والمشبع بفكرة أن الحاكم خادم للشعب لا متسلط عليه. وقد تناول هذا النموذج بإسهاب الدكتور هادي العلوي في كتابه في محطات التاريخ والتراث حيث قدّم اللقاحية كتيار ثقافي واجتماعي يعكس روح التمرّد الشعبي على الحكم الوراثي او الذي يستند الى سلطة وأشار إلى أن هذا التراث اللقاحي يمكن أن يشكّل محركًا ثقافيًا ورمزيًا للمشرقيين في بناء اشتراكية قاعدية قائمة على حكم شعبي يقطع مع الامتيازات ويعيد السلطة إلى عمقها المجتمعي. غير أن هذا الاستدعاء قد يتحول إلى أداة فارغة من المضمون التحرري حين يُفصل عن شروطه الطبقية والتاريخية، ويُعاد توظيفه داخل خطاب شعبوي محافظ وهذا ما نلاحظه في حالة قيس سعيّد، الذي استحضر الروح اللقاحية العربية لتسويق صورة "الرئيس الشعبي"، لكنه أقام في الجوهر نظامًا بونابارتيًا كما بيّنا سابقًا، يقوم على الهيمنة الفردية عبر مؤسسات شكلية. فنراه يُكثر من الجولات الميدانية في الجهات، ويزور الأحياء والعمادات في استعراض دائم للقرب من "الشعب" كانه الخليفة في العصور الاسلامية، دون أن تترجم هذه التحركات إلى سياسات أو تحوّلات فعلية. كما أنه، في فترته الأولى، واصل السكن في منزله بالمنيهلة بدل قصر قرطاج، في مشهد أقرب إلى الزهد الاستعراضي منه إلى قطيعة حقيقية مع منطق السلطة. كذلك أقام مجالس محلية تفتقر إلى أي مضمون ديمقراطي أو قدرة تقريرية فعلية، بما يجعلها مجرّد مؤسسات شكلية وهنا يتجلّى التناقض الجوهري في تجربة قيس سعيّد: فهو يقود نظامًا بونابارتيًا شديد المركزية والهيمنة الفردية، لكنه يُغلّفه بخطاب شعبوي لقاحي يُقدّمه كرئيس زاهد، نقي، ابن الشعب، وتجسيد مباشر لـ"الإرادة الشعبية"، في حين أن هذه الإرادة تُختزل عمليًا في شخصه وخطبه وظهوره الإعلامي. بهذا يصبح الخطاب الشعبي مجرد غلاف رمزي يُخفي مشروعًا سلطويًا مُحكمًا، يُفرّغ الديمقراطية من مضمونها ويعيد تشكيل الاستبداد في ثوب شعبي
هل قيس سعيد فاشي توصيف قيس سعيّد بـ"الفاشي"، كما تروج له بعض القوى اليسارية الانتهازية كحزب العمال التونسي، لا يصمد أمام التحليل الماركسي الجاد، بل يكشف عن فقر نظري وتوظيف سياسوي سطحي للمفاهيم. ظهرت الفاشية في أوروبا، خاصة في إيطاليا و المانيا، في فترة كانت فيها المجتمعات تعيش على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية حادة بعد الحرب العالمية الأولى. في تلك اللحظة، كانت هناك موجة ثورية تجتاح عدّة بلدان، مستلهمة من الثورة الروسية، حيث خرج العمال والفلاحون إلى الشوارع وطالبوا بتغيير جذري للواقع، بل حاولوا في أماكن مثل ألمانيا والمجر أن يبنوا سلطتهم الخاصة من خلال المجالس العمالية. لكن هذه المحاولات لم تنجح، وتم قمعها بعنف شديد، ما فتح الباب لصعود قوى الثورة المضادة في هذا السياق، جاءت الفاشية كأداة عنيفة لإعادة فرض النظام القائم، لكن هذه المرة بوجه أكثر توحشًا. كانت تخدم مصالح كبار الرأسماليين، حتى وإن ادعت العكس، ومهمتها الأساسية كانت القضاء على التنظيمات العمالية التي تهدد سلطة الطبقات المالكة. فمثلاً، في إيطاليا، قام الفاشيون بقيادة موسوليني بالاعتداء على مقارّ النقابات، وحرق غرف العمل، وقتل قادة العمال. وفي ألمانيا، بعد أن وصل هتلر إلى السلطة، تم حظر الأحزاب العمالية وتفكيك النقابات، وتم تعويضها بجهاز فاشي خاضع للسلطة هكذا، لم تكن الفاشية مجرّد حركة عنصرية أو قومية متطرفة فقط، بل كانت في جوهرها ردة فعل طبقية عنيفة على فشل الثورات، وأداة لتأديب المجتمع وإعادة السيطرة عليه بالقوة فـالفاشية ليست تهمة جاهزة بل لحظة تاريخية دقيقة في تطور الصراع الطبقي، كما بيّن ليون تروتسكي، حين اعتبرها الردّ الأكثر عنفًا من طرف الرأسمالية على خطر الثورة البروليتارية، ووسيلة لتحطيم التنظيمات العمالية وسحق الحركة النقابية لصالح الرأسمال المالي. من جانبه، يرى نيكوس بولانتزاس أن الفاشية تنشأ عندما تدخل الدولة أزمة عضوية حادة، وتفشل الطبقة الحاكمة في قيادة المجتمع، فتُستبدل الهيمنة بالعنف، ويُعاد تنظيم الكتلة الطبقية الحاكمة من خلال نظام استثنائي يعتمد على تعبئة جماهيرية من البرجوازية الصغيرة الخائفة من الثورة. أما غرامشي، فقد شدّد على أن الفاشية لا تنشأ إلا في وجود قوى ثورية منظمة صاعدة و ليست مجرد تحركات عفوية في بعض المناطق تهدد المنظومة الرأسمالية، فتأتي الفاشية كردّ مضاد عنيف، لا كبديل سلطوي معزول لكن نعت الأنظمة البونابارتية بالفاشية أصبح ممارسة رائجة عند بعض أحزاب اليسار كوسيلة للتهويل وخلق حالة طوارئ سياسية مفتعلة. وقد رأينا ذلك في حالة بولسونارو بالبرازيل، حين سارع بعض اليساريين إلى وصف حكمه بـ"الفاشي"، رغم غياب الشروط الاجتماعية والسياسية للفاشية بمعناها التاريخي. مثل هذا التوصيف الخاطئ يؤدي إلى كوارث على المستوى الاستراتيجي، لأنه يضلل الفهم ويشوّش أدوات المواجهة. وفي تونس، لنا أن نسأل حزب العمال أين هي قوى الثورة المنظمة الصاعدة التي تستدعي ردة فعل فاشية؟ أين هو الصراع الطبقي المحتدم أين هي التنظيمات العمالية التي تمثل خطرًا على الرأسمالية حتى تستدعي تدميرها عبر تعبئة البرجوازية الصغيرة؟ أين هي هذه البرجوازية الصغيرة المنظمة أصلاً؟ طبعا المغفلين منهم ممكن ان يحتج بتراجع دور الاتحاد العام التونسي للشغل في ظل حكم قيس سعيد هل تظنون حقًا أن الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تهيمن عليه البيروقراطية النقابية، هو تنظيم عمالي يهدد النظام الطبقي ويعبّر عن قوى الثورة؟ هل تصدقون فعلًا أن قيس سعيّد دمر هذا الاتحاد لأنه يمثّل خطرًا على الطبقة السائدة؟ الحقيقة أن هذا الاتحاد انهار دون تدخل قيس سعيد فقد أصبح هيكلًا هزيلاً نتيجة صراع بيروقراطي داخلي، وفقد ثقة قاعدته نتيجة انتهازية قياداته وتواطئها، لا نتيجة هجوم طبقي منظم. إذن، وصف سعيّد بالفاشي هو تحليل كسول ومضلل، يحجب عنّا طبيعة سلطته البونابارتية، ويعطل بناء استراتيجيات مواجهة حقيقية قائمة على تحليل طبقي دقيق الفاشية لا تهبط فجأة من السماء، بل تمرّ عبر سلسلة من التحولات السلطوية التي تُمهّد لها الطريق، وعلى رأسها البونابارتية. فكما بيّن ماركس وتروتسكي، تظهر الفاشية في لحظة تاريخية دقيقة حين تفشل الثورة وتكون الطبقة العاملة منظّمة وتهدّد النظام الرأسمالي القائم، فتتدخل الفاشية كقوة مضادة تسحقها. أما البونابارتية، فهي شكل وسطي سابق، يطفو فيه "منقذ" فوق الصراع الطبقي، ويحكم باسم "الأمة" أو "الشعب"، في محاولة لتجميد التناقضات ومنع انفجارها. هذا الشكل يمكن اي بتحول يتحوّل إلى فاشية تفجر هذه التناقضات حين تواجه الرأسمالية خطرًا حقيقيًا من أسفل(هنا نقول التحول ممكن ان توفرت الشروط الموضوعية و لكن ليس حتمي و حتى ان حدث هذا التحول فلا يمكن ان يحدث اثر سقوط برجوازية هشة ادت الى نفي السياسة عند مختلف مكونات الشعب). في الحالة التونسية، لا وجود لأي من هذه الشروط: لا أحزاب عمالية ثورية جماهيرية منظمة، لا نقابات مستقلة تعبّر عن مصالح الكادحين، لا حراك شعبي منظم يحمل مشروعًا تحرريًا و لا برجوازية صغيرة مرعوبة من قوة الطبقة العاملة و منظمة في ميليشيات فاشية. لذلك، فإن الحديث عن "فاشية" في تونس اليوم ليس فقط خطأً نظريًا، بل نوع من الهراء السياسي الذي يخلط بين المراحل، ويعكس عجزًا عن فهم طبيعة السلطة القائمة، التي تظل في حدود البونابارتية التابعة، لا الفاشية الكلاسيكية حزب العمال يجسد مقولة مرة كماساة و اخرى كمهزلة يمثّل حزب العمال التونسي اليوم تجسيدًا حقيقيًا لمقولة "مرة كمأساة و اخرى كمهزلة". فمن مأساة الفشل في تأسيس قواعد اجتماعية صلبة، وعجزه عن فهم ديناميكيات الواقع التونسي المتحوّل، وسقوطه في ثنائية مبتذلة بين "الديمقراطية والاستبداد الى مهزلة نعت قيس سعيّد بـ"الفاشي"، دون أي تحليل طبقي أو سياقي جدّي. هذا النعت ليس بريئًا، بل تحركه عدة دوافع، أولها الرغبة في تضخيم صورة العدو وخلق فزّاعة تجذب الانتباه، لما تحمله كلمة "فاشية" من شحنة رمزية وتاريخية مرعبة في وعي الجماهير لمواصلة الايهام بلعب دور في الحياة السياسية التونسية. وثانيًا، يعكس هذا الخطاب الفقر النظري العميق داخل الحزب، وخاصة بين صفوف شبابه، الذين يسهل عليهم التماهي مع أدوار نضالية جاهزة و جذابة، فيتخيّل المنتمي لـ"اتحاد الشباب الشيوعي التونسي" أنه يقاوم "الفاشية" كما لو كان في شوارع روما في مواجهة موسيليني، فيتحوّل الفعل السياسي من تحليل الواقع إلى فرض التزييف و التماهي معه وما يزيد هذا الوضع خطورة هو أن هذا السقوط في التوصيفات الإسقاطية يعكس غيابًا شبه تام للنقاشات الفكرية والنظرية الجادة داخل الحزب؛ فلو وُجدت مثل هذه النقاشات على ضوء المادية الجدلية، لما تمّ الوصول إلى هذا الاستنتاج المسقط والهشّ. والأسوأ أن هذا التوصيف له كوارث استراتيجية، إذ يحيد بنا عن التشخيص الواقعي للسلطة القائمة، ويمنعنا من بناء أدوات فهم مستندة إلى تحليل ماركسي عيني للواقع التونسي. وتمامًا كما تمّ استيراد صفة "الفاشية" من قوالب نضال غربي جاهزة، فإن الحلول المقترحة ستُستورد بدورها، في انسلاخ تام عن الواقع الحزب بات فعليًا يعيش في عالم موازٍ، كـ"قندس" سياسي يتظاهر بالماركسية على مستوى الخطاب، بينما يتخلى عنها على مستوى الممارسة والتحليل ليواصل الظهور على الساحة، ما يؤدي إلى جمود نظري وشلل سياسي، لا يتجاوزه إلا بالتشبث اللفظي بالماركسية من خلال شعارات مثل "ضد الفاشية"، كمحاولة بائسة لإثبات الجذور الثورية. والنتيجة ليست فقط خطابًا يفتقد الاتساق، بل حالة تثير الشفقة أكثر مما تحفّز على التعبئة وكأن لسان حاله يقول: "لن نطوّر فكرنا، لكن سنواصل ترديد كلمات كبيرة مثل فاشية لنبدو جذريين وثوريين". النتيجة؟ جمود نظري، خطاب ممل، وعزلة عن الواقع، تثير أحيانًا الشفقة أكثر من الحماس
رسالتي لشباب اتحاد الشباب الشيوعي التونسي لا تتقبلوا أفكارًا لم تُفكروا فيها بأنفسكم. ناقشوها، فككوها، وجرّدوها من وهجها الخطابي، وعودوا إلى الواقع، لا بوصفه معطى بل كمادة للتفكيك و اعادة البناء، مستنيرين بتراثنا الماركسي، لا بالشعارات المستوردة من تجارب لم نعشها
الخاتمة في هذا المقال، حاولنا أن نقرأ نظام قيس سعيّد بعيدًا عن الشعارات الجاهزة والتوصيفات المتسرعة. انطلقنا من تحليل واقعي ومادي لمسار الرجل، فاستنتجنا أنه لا يقود نظامًا فاشيًا كما يروّج البعض، بل نظامًا بونابارتيًا يُخفي مركزيته الصلبة خلف واجهة "شعبوية لقاحية" مستمدة من المخيال الثقافي العربي حول الحاكم الزاهد القريب من الناس. هذه الشعبوية ليست إلا قناعًا يُستعمل لإخفاء طبيعة السلطة الحقيقية: فردانية، فوقية، بلا برنامج، وتعيش على إدامة لحظة استثنائية فارغة فندنا خلال النص خطاب الفاشية، لا دفاعًا عن النظام، بل دفاعًا عن التحليل الجدّي الذي يرفض الاستسهال و الضحك على الذقون. وختمنا بنقد لحزب العمال التونسي، الذي تحوّل من حامل لطموحات كبرى إلى كيان يعيش في عالم من التصنيفات المستوردة، فاقدًا للبوصلة النظرية، مُكتفيًا بلعب أدوار بطولية لا وجود لها في الواقع في النهاية، تبقى المعركة الحقيقية ليست في الكلمات التي نطلقها على خصومنا، بل في مدى قدرتنا على فهم العالم كما هو، من أجل تغييره بوعي لا بشعارات وفي المقال القادم، سنحاول التقدم خطوة أخرى إلى الأمام، من خلال طرح مسألة مهام القوى التقدمية في المرحلة الحالية، وخاصة مهام الوطنيين الديمقراطيين، في أفق بلورة بديل فعلي، لا يكتفي برفض الموجود، بل يعمل على تجاوزه المراجع كارل ماركس – الثامن عشر من برومير لويس بونابرت ليون تروتسكي – الفاشية: ما هي وكيف نحاربها أنطونيو غرامشي – دفاتر السجن نيكوس بولانتزاس –الايديولوجيا و السلطة نموذج الدولة الفاشية هادي العلوي – في محطات التاريخ والتراث Bibliografía La izquierda diario-PTS: ¿Qué es el bonapartismo? Apuntes para pensar los nuevos sentidos comunes y el populismo de derecha - Roberto Acuña Bonapartismo y fascismo-Leon Trotsky ¿Fascismo o bonapartismo? Lecciones de Trotsky para Brasil- André Barbieri Entrevista a Francesca Antonini autora de “Bonapartismo y cesarismo en el pensamiento de Gramsci”
#سامر_بن_عبد_السلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا للتدخل الاجنبي
-
حزب العمال والديمقراطية: أسطورة القندس
-
ضد الشاشة المستعمِرة: في راهنية مشروع الطاهر شريعة وتجاوز حد
...
-
اسطورة العداء بين البرجوازية الوطنية والامبريالية : النظام ا
...
-
الاسد ووهم الممانعة كيف حوَّل اليسار الستاليني الطغاةإلى أبط
...
-
حركة النهضة والطبقات الاجتماعية في تونس: قراءة ماركسية في مس
...
-
البيروقراطية في تونس بين الجذور الاستعمارية والفشل الإصلاحي:
...
-
الثورة الدائمة و يوغسلافيا - ميشال بابلو
المزيد.....
-
بالصور| إتلاف أسلحة حزب العمال الكردستاني في كهف -جاسنه- بال
...
-
حزب العمال الكردستاني يباشر تسليم سلاحه..متى يحل السلام؟
-
فيديو.. مقاتلو حزب العمال الكردستاني -يحرقون أسلحتهم-
-
أول تعليق تركي على تسليم حزب العمال الكردستاني سلاحه
-
مقاتلو حزب العمال الكردستاني يبدأون تسليما رمزيا لأسلحتهم في
...
-
من قلب المركز إلى هامش العالم.. كيف تعيد الرأسمالية إنتاج ال
...
-
محطات انتقال العمال الكردستاني من دعوة أوجلان إلى تسليم السل
...
-
حزب العمال الكردستاني يبدأ تسليم سلاحه
-
من قلب المركز إلى هامش العالم.. كيف تعيد الرأسمالية إنتاج ال
...
-
محطات انتقال العمال الكردستاني من دعوة أوجلان إلى تسليم السل
...
المزيد.....
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
المزيد.....
|