|
نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 15:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة في سياق الجدل المستمر حول علاقة الدين بالدولة، ومعنى الحاكمية، ومصادر الشرعية السياسية في المجتمعات الإسلامية، وهي اشكالات عقيمة لا تنتهي، طالما الاسلام السياسي يجذب بالاتجاه الذي يرغب فيه، مع ذلك، تبرز ثلاث مقاربات فكرية شديدة التباين، تمثّل اتجاهات عميقة في الفكر الإسلامي الحديث: أطروحة السيد الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية"، ورؤية الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وتنظير السيد محمد مهدي شمس الدين لما سمّاه "ولاية الأمة على نفسها". هذه المقاربات لا تمثّل فقط اجتهادات فردية، بل تعكس صراعًا أوسع بين أنماط التفكير الإسلامي: بين من يرى في الإسلام مشروع دولة كاملة، ومن يفصل بين الدين والسياسة، ومن يسعى إلى صيغة توفيقية تدمج القيم الدينية بالشرعية الشعبية. فبينما يدعو السيد الخميني إلى إقامة دولة دينية تحت سلطة وليّ فقيه مطلق، يرى عبد الرازق أن الإسلام دين لا يتضمن نظرية للحكم، وأن الدولة شأن دنيوي خاضع لاجتهاد العقل البشري، ويشرّع ذلك ضمن قوانين مدنية، فيما يقترح شمس الدين صيغة وسطية تجعل الأمة هي مصدر السلطة، وتمنح الفقيه دورًا معنويًا لا حاكمًا. بمعنى أن السيد الخميني ذهب إلى أقصى اليمين، وعبد الرزاق أقصى اليسار، بينما شمس الدين وقف في المنتصف. إن مقارنة هذه الأطروحات لا تسعى إلى المفاضلة بينها، بقدر ما تهدف إلى فهم الأسس التي تنبني عليها، والسياقات التي نشأت فيها، والرهانات التي تعبّر عنها، سواء على مستوى النظرية أو الممارسة. ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث في تقديم قراءة تحليلية نقدية لهذه التصورات الثلاث، في محاولة لفهم حدود التوافق والتضاد بينها، وما تطرحه من أسئلة حول مستقبل الحكم في المجتمعات الإسلامية.
الحكومة الإسلامية يطرح السيد الخميني، في كتابه "الحكومة الاسلامية"، رؤية تحوّل جذرية في الفكر السياسي الشيعي، إذ أعاد من خلاله طرح العلاقة بين الدين والدولة بشكل مباشر وعملي، منتقلاً من التنظير الفقهي التقليدي إلى مشروع سياسي متكامل، ينتهي بإقامة دولة دينية تحت قيادة وليّ فقيه عادل، يتولى شؤون الحكم نيابة عن "الإمام المعصوم الغائب"، كما هو موجود في أدبيات الفكر الشيعي. الكتاب هو في الأصل مجموعة محاضرات ألقاها السيد الخميني في النجف أثناء منفاه، وقد أراد من خلالها أن يضع تصورًا واضحًا لشكل الحكم الإسلامي الذي يجب، من وجهة نظره، وأن يحل محل أنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي، والتي رأى فيها خضوعًا للاستعمار، وبعدًا عن الشريعة، وتهاونًا في تطبيق الأحكام الإسلامية، بحسب مبناه.
المرتكز الأساسي الذي يقوم عليه الاطروحة هو نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وهي رؤية ترى أن الفقيه الجامع للشرائط – أي العالم بالدين، العادل، الشجاع، المدرك لقضايا الأمة – هو الأحق بقيادة المجتمع في زمن غيبة "الإمام المهدي". هذه النظرية أو الاطروحة، تمثل خروجًا واضحًا على الموقف الشيعي التقليدي الذي كان، في غالبه، يفضّل الانكفاء عن السلطة في زمن الغيبة، ويترك أمور الدولة للحكام القائمين. وخلاصة نظرية السيد الخميني يمكن أن نلخصها كالآت: - أن تطبيق الشريعة واجب دائم، لا يتعطل بغيبة الإمام المعصوم. - أن الفقهاء العدول هم الامتداد الطبيعي للسلطة الدينية التي كان يحملها المعصوم. - أن الإسلام ليس دين عبادة فقط، بل نظام شامل للحياة، بما فيها السياسة والحكم والاقتصاد. ويُظهر في اطروحته تصورًا واضحًا للدولة الإسلامية بأنها دولة تقوم على تطبيق الأحكام الشرعية – التي يضعها الفقهاء بحسب تفسيراتهم - في كل مفاصلها، بدءًا من قوانين الأحوال الشخصية، إلى إدارة الاقتصاد، إلى العلاقات الخارجية والداخلية، من تنظيم الجيش، إلى تنظيم الوزارات، ودوائر الدولة، بتفاصيلها. كما أن الدولة، في تصوره، يجب أن تُقاد من أعلى الهرم من قبل الفقيه، لا بوصفه موظفًا إداريًا، بل باعتباره المرجع الأعلى دينيًا وسياسيًا. لكن القراءة النقدية لهذه الاطروحة تكشف أن ما يقدمه السيد الخميني هو دمج تام بين الديني والسياسي، بحيث لا يُفصل بين الشريعة والحكم، بل يُجعل الدين مصدرًا مطلقًا للسلطة. هذا الدمج أثار جدلاً واسعًا، خصوصًا لدى بعض المفكرين الشيعة المعاصرين الذين رأوا في ولاية الفقيه المطلقة خطرًا على الفقه، والدولة، وحرية الأمة، بل وانقلابًا على روح الإسلام نفسه التي ترفض احتكار السلطة باسم الدين؛ يأتي ذلك وفقًا لباب الاجتهاد المفتوح عند الشيعة.
وقد أثّر هذا الكتاب تأثيرًا عميقًا على الواقع السياسي الإيراني، حيث صار المرجع النظري الأكبر لثورة 1979، التي أطاحت بالشاه وأسست الجمهورية الإسلامية بقيادة السيد الخميني، وهو ما جعل من نظريته هذه وثيقة تأسيسية للدولة الجديدة، والتي هي الآن قائمة، ومترامية الاطراف. أولًا: السيد الخميني – "ولاية الفقيه المطلقة" وقد وضحنا بداية أنه قدّم طرحًا يرى أن إقامة الدولة الإسلامية واجب شرعي، وأن الفقيه الجامع للشرائط هو الامتداد الطبيعي لسلطة النبي والإمام المعصوم. لذلك فإن قيادة المجتمع، في رأيه، يجب أن تُسلَّم إلى هذا الفقيه، لا لأن الناس اختاروه، بل لأنه يحمل الولاية الشرعية من الله. تقوم نظريته على نقاط، أهمها: 1- وجوب تطبيق الشريعة في كل مرافق الحياة. 2- عدم جواز ترك الحكم في يد الطواغيت. 3- السلطة ليست تفويضًا شعبيًا، بل تكليف شرعي للفقيه. والنتيجة المنتقاة: سلطة دينية عليا متفوقة على المؤسسات الأخرى، تُشرعن الحكم على أسس دينية بحتة. ثانيًا: علي عبد الرازق – "الفصل بين الدين والسياسة" في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذي نشره الكاتب لأول مرة عام (1925)، يذهب عبد الرازق إلى النقيض تمامًا من طرح السيد الخميني. فهو يرى أن الإسلام كدين لا يتضمن نظرية للحكم، وأن الرسول لم يكن حاكمًا سياسيًا بالمعنى المتداول، بل مبلّغًا للرسالة. وبعد وفاته، يرى عبد الرازق أن الخلافة كانت اجتهادًا سياسيًا بشريًا، لا ركناً من أركان الدين. ويقوم طرحه على ثلاثة نقاط مهمة: 1- الفصل التام بين الدين والسياسة. 2- رفض فكرة “الخلافة الدينية”. 3- ترك شكل الحكم لاجتهاد الناس وزمانهم. والنتيجة: الإسلام لا يفرض نظام حكم معين، والسيادة للشعب، لا لرجال الدين، وهو طرح علماني يخالف الطرح الديني. ثالثًا: محمد مهدي شمس الدين – "ولاية الأمة على نفسها" شمس الدين – وهو رجل دين شيعي، ومفكر سياسي معتدل- يطرح رؤية وسطية، ترفض ولاية الفقيه المطلقة كما عند السيد الخميني، لكنها لا تفصل الدين عن الدولة كليًّا كما فعل عبد الرازق. بل يرى أن الأمة هي صاحبة السلطة والسيادة والقرار، وأن الفقيه ليس حاكمًا، بل مرشدًا وموجّهًا. وقريب من هذا الديمقراطية التي ترى أن الشعب هو مصدر السلطة. ويقوم طرحه على: 1- احترام دور الفقيه كمرجع ديني وأخلاقي، لا كحاكم سياسي. 2- إيمان بالديمقراطية، مع الحفاظ على المرجعية الإسلامية. 3- التفريق بين الشرعية (التي يمنحها الشعب) والمشروعية الدينية (التي تضبط الإطار القيمي). والنتيجة التي توصل إليها، هي: دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، تُدار بإرادة الشعب، لا بإرادة الفقيه الواحد، أو الفكر الواحد، لأنه في نظره يصبح الحكم بيد فئة معينة من الناس، أي أفراد بعينهم، يحكمون إلى أبد الآبدين. المصادر: 1-روح الله الخميني ،الحكومة الاسلامية، متوفر على الشبكة العنكبوتية، وفي عدة طبعات، النسخة التي اطلعت عليها موجودة على "شبكة الفكر الالكترونية" 2- علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، منشورات المدى- سلسلة كتاب للجميع لسنة 2004. 3-محمد مهدي شمس الدين، نظام الحكم في الاسلام، منشورات مؤسسة الجامعة للدراسات والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية لسنة 1991. 4- الدكتور محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الاسلام، الطبعة الثانية من دون ذكر سنة الطبع، دار الكتاب العربي – القاهرة، مراجعة حسين يوسف موسى.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
-
الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
-
الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
-
مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س
...
-
الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
-
المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
-
الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد
...
-
البُعد العاطفي والنفسي في قصيدة (أوراق مُعادن) للشاعر علي ال
...
-
الأسى وسطوة الفقد في نص (قشعريرة نبض) للشاعرة سوسن يحيى
-
الذات والهوية في نص (ليسَ غريباً عني) للشاعرة رجاء الغانمي
-
المُسحة الجمالية في (ارهاصات أنثى) للشاعرة ورود الدليمي
-
الاغتراب النفسي في أغنية (مرينة بيكم حمد) للكبير ياس خضر
-
رواية العمى: فلسفة انهيار المبادئ والقيّم
-
الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم
-
النسق وبناء النص عند الشاعرة فراقد السعد
-
عشرة كتب غيّرت قناعاتي الفكرية والمعرفية1/ 10
-
الجزالة والبُعد الوجودي في (مرايا البحر) للشاعرة السورية هوي
...
-
مفهوم الدين عند فويرباخ 1/ 2
-
هل الكتابة ابتكار؟
-
شعاع ابيضّ - نافذة سوداء تأسيس لسمو الإنسان للقاص حميد محمد
...
المزيد.....
-
المفكر الماليزي عثمان بكار: الكونفوشية والإسلام يشتركان في ا
...
-
“متابعة جيدة” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على النايل سا
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى
-
يهود الغرب والضغط الخانق على إسرائيل
-
فرنسا: إصلاحات تشريعية للحد من -خطر- الإخوان المسلمين؟
-
-غرفة انتظار الجنة-..هذه البلدة تحتضن المقر الصيفي للبابا لا
...
-
الاحتلال يدرس إعادة الوجود اليهودي الدائم في قبر يوسف بنابلس
...
-
مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
-
مدينة -بني براك- الإسرائيلية المركز الديني اليهودي الأكبر عا
...
-
الأردن يحاصر الإخوان.. إجراءات ضد -واجهات مالية- للتنظيم
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|