عندما كنا صغارا على كراسي الجامعة، كانت الدنيا تمتلئ بالأحلام وفرح الأطفال. لكن ذلك لم يمنعنا من التفكير انسياقاً مع موجة العبث واللامعقول والوجودية التي كانت قد لفظت أنفاسها في شمال المعمورة دون أن تلاقي المصير ذاته في بلاد العرب بسبب تأخرنا المزمن في التقاط الظواهر وتقليدها ثم رميها جانباً. إذاً لم يمنعنا عالم الثورة والطموحات العريضة من التفكير في وجود الألم والشر، وفي أن العالم ربما يكون مفتقراً إلى المعنى بالفعل. وفي ذلك الزمن، أذكر أنني اقترحت على أحد الأصدقاء _ وقد كان فناناً تشكيليا سريالياً_ أن نأخذ إجازة من كل شيء لمدة خمسة أشهر ونتفرغ للبحث عن المعنى. فرد علي دون تردد: "ولكن يا أحمق إذا لم يكن هناك من معنى فماذا نفعل بعد ذلك، ننتحر؟" لقد قبلت في حينه بعد تلكؤ قليل أن أتخلى عن المشروع باعتباره ترفاً لا داعي له. لكن ترى هل أستطيع اليوم " بعد اللي كان، كل اللي كان" هل أستطيع هكذا ببساطة أن أطرح السؤال جانباً؟
يمارس الإعلام العربي المعولم رش الفلفل والملح على جراحنا متذرعاً بحرية الرأي والتعبير وما أشبه. ويمارس لغايات الإثارة المدروسة جيداً وعلى أعلى المستويات رفع سقف أحلام العرب إلى أعلى عليين ثم يقطع الحبل بنا وبأحلامنا، فتبدأ الناس مصدومة ومخذولة في طلاق همومها والتبرؤ من أبنائها وأحبتها. فهذا هو في الواقع مزاج الجماهير كما يعرف أي مبتدئ في علم الاجتماع أو علم النفس الجماهيري. ولهذا فليس مستغرباً أن قناة كالجزيرة تجعل الموقف من القضية القومية رأياً ووجهة نظر وتشجع الجمهور المهزوم والمخذول على الانتقام من نفسه بالتخلي عن قضاياه. تأتي نتيجة استفتائها أن من يعتبر القومية فكرة ميتة لا داعي لها يساوي نصف الناس بالتمام والكمال. والمواطن يا ولداه (بلغة المصريين الصعايدة) يعاني من كل شيء. لقد تبنى الأحلام التي قد تنقذه واحداً تلو الآخر دون أن يرى فيها تناقضاً حتى وإن كان أصحابها ومنظروها قد اختلفوا بعضهم مع بعض. المواطن تبنى بحماس واستعداد فعلي لدفع أغلى الأثمان، الموقف القومي العروبي: الناصرية والبعث وفكر حركة القوميين العرب. وتبنى الرؤية الإسلامية وخصوصاً عبر بوابة الإخوان المسلمين. وتبنى الشيوعية حتى أن الناس بأجسادها العارية وقفت تحمي قائد الثورة العراقية ضد الملكية "الزعيم" القريب من الشيوعيين عبد الكريم قاسم على الرغم من أخطاء وممارسات تصح أو لا تصح. وها هي آخر الطبخات تصل إلى السوق مدعومة بأجهزة التمويل والتعليم والإعلام وتحمل عنواناً جذاباً هو الديمقراطية، التي يكفي جرعة صغيرة منها للحصول على كل القوة والسعادة. وكما المصاب بالعنة الجنسية أو بالسرطان، فإن الناس جاهزة للالتقاط ما يتساقط على موائد الأغنياء الثمانية دون فحص المحتوى. فلا بد أن أهل الشمال أدرى بشؤونهم وشؤون الجنوب، وليس أهل مكة أدرى بشعابها؛ إذ بعد " اللي صار ، كل اللي صار" لا بد لكل ذي عقل وبصر أن يعقل ويبصر، وإلا طحنته المطحنة الأمريكية العملاقة التي تسير في طريقها لا تلوي على شيء. فماذا نفعل من أجل تحصيل السعادة والمعنى؟
لا بد أن الحصول على المعنى في هذا الزمن هو أخفى من كسب الأشاعرة ( كما كان أجدادنا يقولون) بالفعل. ولعل ما جرى في العالم اليوم قد أشعر المواطن " المعقد " قبل العادي والبسيط بأن الدنيا في آخر " وقت " بكل معاني الكلمة. وأن الساعة قد قامت وأن زمناً مسيانياً أمريكياً من نوع ما قد حل بالفعل. ولذلك فلعله ضرب من الجنون الحقيقي أن يفكر المرء في المقاومة حتى ولو بالبحث عن المعنى، خاصة إذا كان المعنى المقصود معانداً للمعاني الممولة والتي تتوافر بكثرة على قارعة الطرقات جميعاً، من كوريا شرقاً وحتى هندوراس غرباً، ومن أقصى رأس الرجاء الصالح حتى بلاد الإسكيمو. لكننا والحق يقال نتوهم أن الحقائق المسنودة من فورد فاونديشن ومن لف لفها وغنى على ألحانها، لا تستطيع إخفاء معالم المعاني التي تكاد تطل برؤوسها على الرغم من سمك جدران الدبابات الأمريكية العملاقة، وقوة جريان أموال المنظمات غير الحكومية في كل مكان تستهدفه الوكالات الكثيرة وعلى رأسها وكالة المخابرات المركزية. إن فلسطين في هذا الزمن مستهدفة بالتمويل، ومصر مستهدفة به، والدور الآن على العراق الذي لما يستقر رأي " الخبراء " الأمريكيين من مستعربين ومستشرقين وعملاء بخصوص ما يجب أن يصنع به: أيبقى تحت الاحتلال أم تدبر له إدارة كرزاي بشكل أو بآخر؟ خصوصاً بعد " خصخصة النفط " أي تمليكه للأمريكيين دون مقابل. إذ لا نعرف مالكا راشداً للنفط يمكن للمرء أن يذهب ليبتاعه كله منه موجوداته واحتياطه جميعاً. أرأيتم أبأس من هذا العصر المسياني الذي لا يرضى فيه السيد باستعباد الحاضر ونهبه، وإنما يطلب ارتهان المستقبل الموجود في عصر الغيب ذاته. ألا إن هذا قد شجع من شجع على أن التاريخ قد انتهى، لأن الزمن الأخروي والماورائي تنتفي فيه اللحظات: الحاضر والماضي والمستقبل، ويتحول وحدة واحدة شفافة ترى فيها كل شيء دفعة واحدة. وتتحرك على خط الحاضر والمستقبل في آن واحد لا انفصام فيه ولا تقطع. ترى أليس جديراً بالممولين بكسر الواو والممولين بفتحها أن يبدؤوا دروسهم في أبعاد الزمن وخصائصه بدلاً من التبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتربية المدنية وحل النزاعات دون عنف، على الرغم أن الحمل لم يستلق بعد في حضن الذئب والثعلب؟ اللهم إلا إذا كان حملاً ميتاً أو مقتنعاً بعبث محاولات النجاة، فيقول: أيها الذئب العزيز تعال، هلم إلي، افترسني وأرحني من عناء الدنيا ومشاقها.
لكن هل وصلنا تلك اللحظة البائسة بالفعل ؟ إذا كان ذلك كذلك فكل التحية لمشروع المنظمات الممولة فإن العيش مع المرض والتكيف بإغماض العيون لكي لا ترى الفساد والعفن يصل إلى داخل العظام يسهل على الأرجح مرور الألم بانتظار النهاية، لكن التاريخ لم ينته على الرغم من كل الأكاذيب والدعاية المضللة. هنا على وجه التحديد،على هذه الأرض، على وجه الدقة التاريخ ما زال فيه متسع لبض صفحات يجب أن تكتب.
صحيح أن الاستعمار الأمريكي لا يشبه أي شيء سابق، وهو ما لا نرغب في إضاعة الوقت في البرهنة عليه بسبب من تسابق أجهزة الإعلام المعولم ووكلائها في العالم العربي في العمل على إثباته على مدار الساعة. لكن آفاق المقاومة ربما لأسباب غير بعيدة عنا هي في أشد أحوالها اتساعاً. وحركة عالمية شعبوية تنتظم الآن الناس في كافة أرجاء الدنيا. وعلى الرغم أننا أكثر من يدفع ثمن تعولم رأس المال، فإننا ما نزال أبعد ما نكون عن أخذ موقعنا في صفوف العولمة الشعبوية المعادية للغطرسة الاستعمارية. وهذا معنى لا بد من البحث عنه في مستوى أعمق من قارعة الطريق.
يقف أناس مثل الصينيين على عتبة الانطلاق العملاق. وهو ما يجعل ارتهان المستقبل البشري كله أمريكيا أضغاث أحلام. وحتى أوروبا، لا يبدو أنها لقمة سائغة تماماً للاحتواء النهائي من قبل الوحش الأمريكي. هل يمكن القول أن نوعاً من التحالف بين القوى الاستعمارية لاقتسام الجنوب أمر ممكن؟ نعم يمكن ذلك دون أدنى شك، ولكن ألم يكن هو الحال ذاته أيام الاستعمار القديم الذي سبق ولادة المعسكر الاشتراكي؟ السوق لا يستطيع رغم المزاعم المتكررة أن يضبط نفسه، والنتيجة المتوقعة دائماً هي انفجار الرأسمال العالمي من داخله أو من خارجه لتسوية صراعات غير قابلة للحسم بغير النزاع الساخن برغم الحزازير الكثيرة وآلاف الرسائل الجامعية حول حل النزاعات دون عنف. ليست الولايات المتحدة قدراً راهناً ولا مستقبلياً. وعلينا أن نلاحظ موقفها الضعيف نسبيا في مواجهة كوريا الشمالية، وعلينا أن نلاحظ أن هناك جيوب مقاومة حقيقية في كل مكان: مثل الشيشان والقاعدة والمقاومة العراقية التي استبقت أكثر التوقعات تفاؤلاً،ومنها توقعات كاتب الورقة الذي ذهب إلى القول بأنها لن تنهض وتنفض عنها الغبار قبل مضي ستة أشهر على الاحتلال.
ها نحن معشر العرب على وجه الخصوص نفتتح بسرعة موال المقاومة العراقية المسلحة التي تبدي من الفاعلية ما يجعل المحتل الأمريكي يتخبط في مشاريعه تجاه تلك البلاد. فبعد أن كان يتجه بوضوح وجهة تكريس الاحتلال إلى زمن غير منظور وغير محدد تراه يتحدث بنفس مختلف عن أشياء أخرى لسنا بصدد طرح فحواها أو مناقشة مدى جديته بخصوصها، فهو بالطبع وكما أثبتت تجربة حزب الله يصبح واقعاً فعلياً عند تشتد ضربات المقاومة إيلاماً لكنه يضعف عندما تبهت آليات الكفاح المسلح. وفي فلسطين تجري وقائع معركة أخرى لا تقل أهمية عما يجري في العراق. لسنا في معرض التفاؤل والتشاؤم أو توزيع الابتسامات لكننا نظن انطلاقاً من تحليل المعطيات ودون إسقاط الرغبات والآمال على الواقع أن هناك ما يسمح بالتفكير في أن زمناً جديداً من أزمان المقاومة في طور التدشين وأن الأيدي العربية إضافة إلى مساهمات أخرى سوف تصنع واقعاً بشرياً أفضل. ربما يجب علينا دون شك الحفر عميقاً من أجل استخلاص أقرب المعاني والدلالات على درب بناء عالم جديد.