ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 14:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إنَّ سيرورة النخبة العراقية التغييرية لا تنمو داخل شروط موضوعية متماسكة، ولا تسير وفق قانون الضرورة التاريخية كما قد يتوهم البعض. ففي واقع الدولة الريعية المشلولة والتكوين الاجتماعي الممزق، كثيرًا ما تنفلت المبادرة من رحم الصدفة لا من رحم الضرورة. هكذا تظل هذه النخبة أسيرة فجوات عابرة: انتفاضات غير مكتملة، تصدّعات طارئة في السلطة، أو لحظات احتجاج تتخلق فيها الإرادة فجأة ثم تتبدد بلا رصيد تنظيمي متين. إنَّ كل محاولة لتفسير حركتها بوصفها نتيجة حتمية لقوانين التاريخ أو لشروط البنية تغفل الطابع الهش للمجال السياسي العراقي، حيث تبقى الإمكانات مفتوحة لكنها غير متراكمة. إنَّ الصدفة هنا ليست انقطاعًا عن الفعل الثوري، بل هي أحيانًا الحاضنة الوحيدة الممكنة لولادة لحظة التغيير في واقع معطوب.
ولهذا حددنا «اللايديولوجية» كسمَة أساسية في بنية النخبة التغييرية العراقية؛ إذ إن تموضعها خارج الاصطفافات المسبقة ليس تخلّيًا عن اللوغوس أو محتوى الفكر، وإنما هو شكلٌ من أشكال الممانعة المقصودة ضد أسر الهوية المبكّر. فالإصرار على تأجيل إعلان الأيديولوجيا يمنحها هامشًا أوسع للمناورة وسط واقع هش ومفتوح على الاختراق. إن النخبة هنا تدرك أن إشهار الهويات الصلبة قبل تراكم أدوات الفعل قد يُحوّلها إلى هدف سهل للاحتواء أو التصنيف أو التشظي. من هنا يصبح اللايقين الأيديولوجي تكتيكًا واعيًا — يسمح لها بأن تبقى مستعدة لالتقاط الفرص الصدَفية التي قد تتيحها البنية المختلّة، دون أن تُحاصرها التزامات فكرية مُعلنة قد تكون عبئًا أكثر من كونها أداة فعل.
وما يزيد من أهمية هذه اللايديولوجية أنها تُتيح للنخبة التغييرية أن توفّر أرضية مشتركة عابرة للهويات التقليدية — الطائفية والقومية والحزبية — التي طالما مزّقت المجتمع العراقي وأجهضت أي فعل جماعي متماسك. فهي لا تلغي اختلاف الهويات، لكنها تؤجّل حسمها لصالح أولوية الفعل؛ فتتحوّل من سؤال «من نحن؟» إلى سؤال «ما الذي ينبغي فعله؟». هكذا تُبنى جبهة مرنة، تحتضن شتات الفئات الناقمة والطبقات المهمّشة دون أن يُربكها التنافس الأيديولوجي المبكّر. لكن بقاء هذه الأرضية رهين بقدرة النخبة على صيانتها من محاولات الاختراق والاستقطاب، وربطها بمصالح اجتماعية حقيقية؛ كي لا تتحوّل اللايديولوجية إلى فراغ هش أو تكتيك عابر بلا ذاكرة.
خاتمة:
إنَّ المراهنة على الصدفة وحدها لا تصنع تاريخًا، لكن إدراك هشاشة الواقع وبناء تكتيك «اللايديولوجية» كجسرٍ عابر للهويات قد يكون الفرصة النادرة لولادة كتلة تغييرية أكثر تماسكًا ومرونة. وفي النهاية، يظل الرهان الأكبر على قدرة هذه النخبة على تحويل اللحظة العابرة إلى مسار متراكم، كي لا تظل أسيرة الصدفة إلى الأبد
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟