[email protected]
22 تموز 2003
يبدو أن العراقيين قد ملوا التظاهر لصلح الحاكم، فعبر عقود القهر الأربعة أو ما يزيد، لم يكن العراقي يحق له التظاهر إلا إذا كان ذلك التظاهر دعما للحاكم، وغالبا ما كان يحدث قسرا. لذا ففي زمن الحرية لم يجد العراقي نفسه مضطرا للتظاهر مادام غير مجبرا على ذلك، وخصوصا في غياب المنظم للمظاهرة. هذا من جانب ومن جانب آخر، فالذين كانوا يتظاهرون دعما للنظام كونهم مستفيدين منه، نجدهم اليوم وهم من الخاسرين الكبار يتظاهرون ضد الحاكم أو من هم في السلطة وفي كلا الحالتين هم ليسوا مجبرين، ففي المرة الأولى دعما لسلطة تخدم مصالحهم وفي المرة الثانية ضد سلطة يجدونها ديمقراطية وبذات الوقت قد سلبت منهم العراق الذي كانوا يستأثرون به كاملا غير منقوص، وفي كلا الحالتين مسموح لهم في التظاهر، في حين نجد السواد الأعظم من العراقيين من المستفيدين من الوضع الحالي غير آبهين بما يجري إلا بما تمليه الضرورة ماداموا غير مجبرين على ذلك.
فنجد من جاء بالتغيير من أجلهم ومن أجل تحريرهم من ربقة نظام صدام حسين الدموي لم يتظاهروا دعما له ولسلطته، تلك السلطة التي تريد أن تصنع لهم عراقا ينعمون به هم وأجيالهم القادمة، نجهم غير آبهين بضرورات الدعم المطلوب هذه الأيام لمجلس الحكم الذي يواجه أعتى أنواع المعارضة من قبل الذين فقدوا مصالحهم وانتزع السوط من أيديهم وقبر نظامهم الدموي في مزبلة التأريخ، والذين نجدهم لا يفوتون فرصة إلا وخرجوا بمظاهرة ضد الاحتلال وفي واقع الأمر هي جزء من جهود متزامنة لإعادة الاعتبار لبقايا النظام المقبور وأزلامه، ويساعدهم بذلك نظام متكامل من الفضائيات التي تغني على ليلاها المتوازية مع مصالحهم.
إن التظاهر حقا للشعوب دعما كان أو بالضد لسياسة معينة أو حاكم أو حتى ابتهاجا وفرحا بمناسبة أو حدث. فالعراقي الذي كان يجبر على التظاهر بالأمس دعما لحاكم ظالم، وإذا لم يفعل ما يملى عليه، فالعقاب الذي ينتظره قد يصل حد القتل أو السجن مدى الحياة. هذا العراقي، كما يبدوا واضحا للعيان، يريد أن يأخذ قسطا من الراحة هذه الأيام ويثبت لنفسه إنه غير مجبر على شيء حتى ولو كان من مصلحته هو.
إن الأحزاب التي يدور حولها الحديث هذه الأيام من أنها جاءت من الخارج، وكأن الخارج كوكب آخر غير المهجر الذي عرفته شعوب الأرض جميعا في حالات القهر والظلم، هذه الأحزاب لم ترنا أي جهد يذكر حتى ولو كان من باب الدفاع عن النفس ورسم الصورة الحقيقية عن المعارضة التي شوهها نظام صدام سابقا والإعلاميات العربية لاحقا، فالمعارضة لم تختلف عمن اخرجوا من السجون العراقية، هذا تحت الأرض وذاك خارج الوطن يرقب من هم في الداخل لأنه لا يملك الوسيلة لإسقاط النظام الدكتاتوري.
الظلم واحد، هو ذات الظلم الذي لحق بالعراقي في الداخل والذي هرب للمهجر من الظلم، وأي ظلم، فهو ظلم صدامي معتق ومركز حد التصلب؟ لم تر البشرية مثيلا له من قبل. إن هذه الأحزاب التي نحاول إنصافها الآن عليها أن تكسب ثقة الجماهير وحبها وأن تخرج بهم من نفق العقد النفسية المظلم الذي دفعهم إليه النظام المقبور.
الأحزاب الحقيقية لم تفعل شيئا من أجل ترميم جسور الثقة بينها وبين الجماهير ولم تدفع بها إلى التظاهر جهارا بإعلان تضامنها مع من يعمل من أجل مصلحتهم ويضمن لهم إن النظام المقبور قد انتهى به الأمر إلى مزبلة التأريخ. في المقابل وعلى العكس من ذلك نجد من راح يأتمر ممن يسمون أنفسهم بالأحزاب السياسية التي تعارض مجلس الحكم وهم في الواقع يريدون إن يأخذوا نصيبا من السلطة لعرقلة مهامها، فنجد إن عددا من الدكاكين العراقية التي أسستها الأنظمة العربية يوما ما لتكون بمثابة بوابات آمان للمتساقطين من نظام صام يوم يسقط، يعملون بجد، تلك الدكاكين التي تتألف من أربعة إلى خمسة أفراد مع جريدة من دولة عربية ذات مصلحة بمصادرة عراق بعد سقوط النظام الصدامي، نجد هذه الدكاكين تنظم المؤتمرات وتخرج بالقضية إلى الجامعة العربية وربما سيكون العالم أجمع. في حين نجد الأحزاب الحقيقية تراقب ولا تفعل شيئا يذكر وكأن الذي يجري مشروعا أو من مصلحة العراق!
إن التظاهر حق للشعوب وعلينا أن نستفيد منه للتنديد والتعارض من ناحية والتأييد والدعم من ناحية أخرى لأن كلا النشاطين التأييد والتنديد مطلوبة ولها ذات الأهمية. نجد اليوم إن الأحزاب المؤتلفة الحقيقية والداعمة لمجلس الحكم لا تفعل شيئا يذكر لدعم المجلس الذي تزداد صورته تشوها يوما بعد يوم وهو لم يتشكل إلا قبل أيام قلائل بل وحتى إن التشويه قد أبتدأ من قبل تشكيل المجلس أصلا. فالتشويه إذا ليس عبارة عن حكم على النتائج وإنما هو هدف بحد ذاته وجزءا من برنامج يهدف إلى إفشال العراقيين ومنعهم من بناء الديمقراطية ومؤسساتها في العراق، تلك الديمقراطية التي تهدد الأنظمة العربية المنخورة والدكتاتورية حتى النخاع.
إن المشروع العراقي ببناء الديمقراطية لا يتضمن فقط إقامة مؤسسات الحكم المدني، فهو عملية متكاملة تبدأ بالأمن وتوفير الخدمات للمواطن العراقي وتنتهي بالدفاع عن النظام ودعمه جماهيريا وإعلاميا، فمن يقوم بهذه المهمة إن لم تكن الأحزاب العراقية الوطنية ذات الأهداف النبيلة والتي رهنت نفسها من أجل التضحية والعمل من أجل الشعب حتى الرمق الأخير؟
فالتظاهر ليس مجر حق وإنما مسؤولية يجب أن تضطلع بها أحزابنا ومنظماتنا الوطنية لتؤدي الدور المنوط بها وأن لا تترك الساحة للمرتزقة والمأجورين والنصابين والمتآمرين على هذا البلد الذي ذاق الأمرين مما فات والآتي أعظم.
يجب أن لا تنسى أحزابنا من أن الإعلام العربي الذي يشوه الحقائق ويقلبها ويصول ويجول في الساحة العراقية دون وازع ولا رقيب يجب أن يواجه بفعل إيجابي من قبل أحزابنا ليقلبوا الطاولة عليه رأسا على عقب. إن هذا الإعلام المغرض ما تمكن أن يصل إلى ما وصل إليه إلا من تراخي أحزابنا التي يجب أن تنظم الجماهير باتجاه مشروعها المشترك والمتمثل بالعراق الديمقراطي المنشود.
ليس بالتظاهر وحده نستطيع أن نواجه هذه الهجمة الإعلامية الشرسة من العرب والتي ترعاها الجامعة العربية المنحازة ضد أبناء شعبنا وباقي أبناء الشعوب العربية وإن كانوا لا يعلمون ذلك منساقين كقطيع وراء إعلاميات وسياسات مضللة لهم دون أن يعوا إنهم يعملون ويتصرفون ضد مصالحهم كشعوب يجب أن تنعم بالحرية، ليس بالتظاهر وحده نستطيع أن نواجه هذا المد العرم من التشويه لقضيتنا، فهناك المؤتمرات والندوات والصحف وتأسيس الفظائيات التي تعمل بالضد. ربما يقول من قائل إن النشاطات التي تعمل بالضد ممولة بالكامل من قبل أجهزة وحكومات غنية، هذا الأمر صحيح، ونحن أيضا نستطيع أن نفعل الشيء نفسه بعد تحرير العراق من ربقة النظام المقبور، فلدينا الكثير الذي نستطيع أن نعمله وليس إعادة العمل الإعلامي برموز الإعلام الصدامي، فهم بلا شك سيثبطون العزائم ويئدون أي مشروع واعد بالخير في هذا المجال، فالإعلاميين من الأحزاب الوطنية الحقيقية كثر والعراقيين الذين لديهم أموال، والدول التي تجد من مصلحتها في مساعدة على العراقي على إنجاز مشروعه كثر أيضا، ومن يريد أن يعمل عليه أن يخلق المستحيل وليس الجلوس منتظرا للفرج أن يأتيه على يد "ضحاك من الشرق قابل".
إن الحكومات والدول التي وقفت بجانب العراق، وإن كانت أيضا تسعى لمصالحها، هي الأخرى تواجه ذات الهجمة الشرسة ممن فقدوا مصالحهم بنظام تنجست به مزبلة التأريخ، إن لهذه الدول مصلحة كبيرة بإنجاح المشروع العراقي بإقامة الديمقراطية ومواجهة الحملة الإعلامية التي نتكلم عنها. فمن من أحزابنا قد سعى لمهمة من هذا النوع؟ وما هي النتائج التي توصل إليها؟ لا شيء يذكر إن كان هناك جهد أصلا.
دعوني أذكركم بالقرار رقم 688 لمجلس الأمن والقاضي بنزع العراق لجميع أسلحته للدمار الشامل، ففي ذات الوقت يحمل هذا القرار فقرات ملزمة للنظام المقبور بالإقرار بحقوق العراقيين وإقامة الديمقراطية في البلد، هذه القرارات التي ترجمها صدام إلى مقابر جماعية على مرأى ومسمع من العالم أجمع، والآن وبعد أن كشفت تلك المقابر ولم تعد بحاجة إلى إثبات، أليست هي بحد ذاتها عبارة عن أسلحة دمار شامل كانت تهدد ما بقي من أبناء شعبنا حسب تعبير أحد الأخوة الكتاب؟ هذا فضلا عن إنها مشمولة بالقرار ذاته.
السؤال أي من أحزابنا ومنظمانتا من قدم الدعم لتلك الحكومات أمام شعوبها والعالم وهي التي تواجه اليوم ذات الهجمة العاتية بسبب إسقاطها النظام المقبور والذي نتمنى أن لا يخرج لنا من تحت التراب؟ فأنا أتذكر يوما ما وأنا طفلا ذلك الذي خرج من قبره بعد الدفن في مقابر النجف العميقة، لذا فقد بقي الخوف من خروج الأموات من قبورهم يرعبني ويشكل لي عقدة نفسية كما يقول الأطباء.
الغريب والعجيب حقا ما نراه اليوم في النجف الأشرف! نفس تلك الجموع التي كانت مدادا لمقابر صدام الجماعية عندما كانت تتظاهر ضده، هي ذاتها وليس غيرها تخرج اليوم للتظاهر ضد نفسها ومشروعها لإقامة الديمقراطية دون أي تدخل من الأحزاب الدينية الحقيقية والتي لها مصلحة بدولة العدالة والحق! أليس هذا يستدعي منا وقفة ولو لبرهة كي نفهم معنى ذلك اللغز الذي تحير بحله حتى السحرة وعلى رأسهم آصف إبن أرخيا الذي عنده علم الكتاب؟ كيف نفهم ما حصل والمسألة تتعلق بشخص واحد فقط؟ ألم يستطع أحد من تحييده أو ضمه للجموع المتعطشة للحرية وهو نفسه من كان يبحث عنها بعد هروبه إلى إيران بعد أن صفى النظام الصدامي أهله؟! ماذا يريد هذا الرجل؟ أن يكون في مجلس الحكم مثلا؟ فلو كنت أملك مقعدا بهذا المجلس لتنازلت له عن مقعدي غير نادم على شيء. وإذا كان هذا الرجل لديه كل هذه القوة وباستطاعته أن يخرج كل هذه الجموع من البشر، إذا فهو جديرا بأن يأخذ دورا في بناء المستقبل وأن يكون له مقعدا في مجلس الحكم. إذا كان الأمر غير ذلك لابد أن يكون هناك حل، خصوصا وإنه كان قد وقف على الحياد منذ أكثر من شهرين ولم يفعل شيئا يذكر.
نعم إننا لا نريد للمحتل أن يبقى في العراق ولو لحظة واحدة بعد أن ننجز ذلك النظام الحلم، وليس هناك في العراق من يريد ذلك، وحتى المحتل نفسه يجد إن بقاءه في العراق بآي ذريعة كانت مكلف جدا. ماذا يريد هو؟! إننا نفهم إن فلول النظام الصدامي تحارب وتعبث بمقدرات الشعب وأمنه والغاية من ذلك معروفة جدا، وهو إن هذه العناصر قد غرقت بالدم حتى آذانها ولم تجد لها مكانا في عراق المستقبل وهذا متوقع منذ اليوم الأول، ولكن هذا الرجل ماذا يريد وهو من كان من الضحايا ومن حقه الآن أن ينعم بعراق خال من صدام قاتل أبيه أخوته، فماذا يريد؟! أخبروني بالله عليكم!!!!!!!!!!
لقد استغلت فلول النظام المقبور هذه الفوضى التي خلفها هذا الشاب من تشكيل ما أسموه بحكومة الظل، أي ظل صدام، وبكل وقاحة أعلنوا هذه الحكومة ومن كان ضحية ومن هو المستفيد الأكبر يثير الفوضى والتظاهر ضد مصالحه. للمراقب الحق بالنظر للمشهد المضحك المبكي مما يحدث، أين القوى التي كانت تقول نحن فقط نملك الشارع؟! وأي شارع؟! يبدو أن الشوارع كثيرة ولكل شارع لونا خاصا به، وحتى العجائبي منه والذي لا نراه حتى في مدن ألف ليلة وليلة.
إن مجلس الحكم يمثل الحد الأدنى للمطالب الوطنية العراقية الساعية لإنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال الوطني للبلاد وإقامة حكومة ديمقراطية منتخبة، وهو حكومة لا تتمتع بكامل الصلاحيات وليست ذات سيادة تامة على شؤون البلاد، فالصلاحيات التنفيذية والتشريعية التي منحت لمجلس الحكم يمكن أن تكون مهمة جدا من الناحية السياسية وحتى الأمنية، المهم لدينا هو الصلاحيات الواسعة التي لديها لوضع دستور عراقي وإجراء انتخابات بالإضافة إلى النواحي الأخرى من أمنية وخدمية وما إلى ذلك من أمور، فلو دعم الشعب العراقي هذا المجلس وليس التشكيك بقدراته والتشكيك حتى بولائه الوطني، فلو دعم لأستطاع أن يصل بالعراق إلى شط الأمان. ما المانع لو منح من يملك الشارع ويستطيع تحريكه أن يأخذ مكانا في المجلس مادام يستطيع أن يحرك قوى فاعلة على الساحة ولها مصلحة حقيقية بالتغيير؟
المجلس نفسه لماذا لا يضع ناطقا رسميا باسمه يتحدث مرة أو مرتين في اليوم، بل وثلاثين مرة في اليوم؟! فالديمقراطية والتعتيم لا يتفقان تحت كل الظروف والأحوال.
المشهد عجائبيا يرقى على مشاهد ألف ليلة وليلة، يبدوا أن بغداد لن تنسى يوما إن كل مشاهدها عجائبية!!! العجب العجاب يا بغداد!