نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 1811 - 2007 / 1 / 30 - 09:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الإبداع بالنسبة لنا نحن البشر مرتبط بالتجديد وعدم التقليد , ولكن ليس كل تجديد , بل فقط بالتجديد المفيد أو الممتع والجميل , والذي يتقبله الآخرين ويرغبون به .
لذلك الإبداع و الاختراع مرتبطتان باللعب , لأن اللعب غالباً يعتمد على التجديد وتحاشي المحاكاة والتقليد , فهو لعب بالخيارات المتاحة وإيجاد الجديد .
إن الإبداع والاختراع هما إيجاد أو تكوين لبنيات جديدة إن كانت مادية أم فكرية . و في الواقع نحن نعتبر الاختراع والإبداع هما خلق أو تكوين البنيات الجديدة والمناسبة لتحقيق هدف أو دافع أو وضع معين يرغب به كثيرون , أي هما إيجاد بنية أو آلية تلبي حاجة معينة وليس إيجاد أية بنية فهذا يحدث دوماً.
فالإبداع والاختراع هم إيجاد المفاتيح أو الطرق المناسب لتحقيق هدف معين أو حل مشكلة معينة . فالموسيقي الذي يؤلف مقطوعة موسيقية تبعث السعادة والفرح والنشوة لدى المستمعين هو يحقق بإبداعه هذا هدفه , وهو بعث السعادة لدى المستمعين , وكذلك الأديب والرسام والطاهي والمهندس والمفكر.....
فالإبداع والاختراع هم التعامل مع الخيارات المتاحة لتحقيق هدف معين وهم لعب , فالذي يخترع يلعب وذلك بتعامله مع الخيارات وخاصة الجديدة منها , والطرق والمجالات والخيارات كثيرة ومتنوعة وغير محدودة وهي التي تمكنه من ذلك.
ويقول كلاباريد: إن ألعاب الأطفال يتجلى فيها الإبداع و الاختراع , إن الطفل الذي يلعب لعبة إعداد العشاء لا يخترع الأطباق و الشوكات و الملاعق و حسب بل كذلك تمثيل المقبلات و الشواء.
و في ألعاب التركيب و التشكيل يتجلى على نحو واضح الإبداع والاختراع عند الطفل.
وعرف همفري التفكير والإبداع أنه فن (حيث هو سلوك حل المشكلات ) بأنه ما يحدث في الخبرة عندما تواجه عضوية ما( بشراً أو حيواناً) مشكلة ما و تتعرف عليها و على حلها, و يمكن القول بنشوء مشكلة كلما تعذَر الوصول إلى هدف مرتجى بصورة فورية.
وعليه فيمكن اتخاذ حل مشكلة ما كدليل على التفكير والإبداع إذا ما بدا أن الحل ينطوي على تلاعب داخلي بعناصر الموقف أو توفير إشارات من الداخل ذات حضور غير إرادي . لا يمكن أن نصل إلى تقدم أوفر في فهم الظروف التي تحدد اللعب إلا بالنظر إليه كمظهر للمجال الكلي للسلوك الإنساني والحيواني . اللعب يمكن الطفل من السيطرة على الحدث أو الموقف المثير للاضطراب عن طريق السعي النشط إلى إتمامه بدلاً من الوقوف إزاءه موقف المشاهد السلبي عديم الحيلة0 ويظل اعتبار اللعب وسيلة للسيطرة على الأحداث يلقى قبولا ًبين الكثيرين 0
نظرية بياجيه في اللعب ملتصقة عن قرب بتفسيره لنمو الذكاء , وهو يسلم بوجود عمليتين يعتقد أنهما أساسيتان لكل نمو عضوي 0 وهما "التمثل " و" المواءمة".
وأبسط الأمثلة على التمثل هو الأكل - الوجبة - فالطعام يتغير في أثناء عملية إدخاله للجسم ويصبح جزءا من الكائن العضوي0
أما المواءمة فهي توافق الكائن العضوي مع العالم الخارجي, كما يتضح مثلا في وضع الجسم, وفي تغيير الطريق لتجنب عقبة , أوفي انقباض عضلات العين في الضوء المبهر وتتكامل هاتان العمليتان وتتضمن كل منهما الأخرى , ويستخدم بياجيه مصطلحي التمثل والمواءمة بمعنى أوسع لكي ينطبق على العمليات العقلية . فيشير التمثل إلى كل عملية يغير بها الكائن العضوي المعلومات التي يستقبلها(أي تمثيلها ببنيات فكرية) بحيث تصبح جزءاً من التكوين الفكري أو المعرفي لديه , و على هذا النحو يكون التمثل هو هضم المعلومات.
أما المواءمة فتعني, أيٌ توافق يكون على الكائن أن يقوم به إزاء العالم الخارجي حتى يتمثل المعلومات. ويرجع النمو العقلي إلى التبادل المستمر النشط للأدوار بين التمثل والمواءمة.
ويحد ث التكيف الذكي عندما تتوازن العمليتان أو تكونان في حالة اتزان, ولكن عندما لا تكونان كذلك فإن المواءمة أو التوافق مع شيء ما, يمكن أن يتغلب على التمثل, و هذا ما تنتج عنه المحاكاة.
وبالمقابل فإن التمثل قد يتغلب بد وره, كما تحد ث ملاءمة الانطباع مع الخبرة السابقة وتكييفها لحاجات الفرد و هذا هو اللعب, إنه تمثل خالص يغير المعلومات المحصلة لتتلاءم مع متطلبات الفرد, ويكون اللعب والمحاكاة جزأين متكاملين لنمو الذكاء, ويمران نتيجة لهذا بنفس المراحل .
ونظرية بياجيه تعتبر المحاكاة هي مقلوب أو نقيض اللعب ومكملة له, و تعطي نظرية بياجيه للعب وظيفة بيولوجية واضحة باعتباره تكراراً وتجربة نشطة (تهضم عقلياً)المواقف والخبرات الجديدة. وتقد م لنا وصفاً متماسكاً لنمو الأنشطة المتاحة ابتداء من هز الخشخيشة المعلقة , إلى إخراج القصص إلى حيز التنفيذ والألعاب الخشنة والصيد.
وإذا نظرنا إلى المواليد والأطفال فإننا نجد أن كل مولود مجبر على التعامل مع خيارات متنوعة جديدة, فالأشياء كثيرة وطرق تأثيرها متنوعة وليس له إلا التجريب والاختبار (اللعب) للوصول إلى الخيار الذي يعتبره الأفضل والأكثر فاعلية في تحقيق دوافعه , وهو مجبر على ذلك فكل المواليد مبدعون ومخترعون حتى مع وجود القيود والخيارات المفروضة عليهم من قبل والديهم وبقية الظروف والأوضاع, فهم يقبلون أو يرفضون هذه الخيارات حسب تعاملهم معها وتصنيفهم وتقييمهم لها .
صحيح أن أغلب إبداعاتهم تكون محددة ومفروضة نتيجة الظروف وقدراتهم المتاحة , ولكنهم يتعاملون أو يعالجون هذه الخيارات لكي يعتمدوا في النهاية طرقهم الخاصة بهم , وعندها تنتهي إبداعاتهم بالوصول إلى الخيارات المنظمة المحددة الثابتة .
إن أغلب الناس هم مقلدون تتعامل مع نفس الخيارات أو مع عدد محدود من الخيارات التي يتعامل معها بقية الناس , فأغلب الناس لا ينظرون إلا إلى نفس خيارات الآخرين فيقومون بتقليدها والتي تكون عادة قليلة ومحدودة , فإذا وجدوا أن أحدهم ربح في تجارة معينة سارعوا إلى تلك التجارة وإذا وجدوا أن بعضهم تفوقوا في صناعة معينة سارعوا إلى تلك الصناعة...الخ بينما هناك الكثير من الأهداف و المجالات الأخرى وفي كافة النواحي يمكن أن تحقق النجاح والتفوق.
إن أهم شيء في الإبداع والاختراع هو البحث عن الأهداف والخيارات الجديدة , وعن طرق وآليات ومناهج جديدة , وعدم التقيّد والالتزام بتبني الأهداف و المناهج والخيارات السابقة المحدودة, واعتماد التجديد في النظر والبحث و التفكير في كافة المجالات والطرق.
إن التعامل مع الخيارات والتجريب الاستكشافي هو الطريق للإبداع في كافة المجالات , فالتجربة والخطأ أو التجريب, والاكتشاف والاستكشاف للخيارات الجديدة هو أساس الإبداع .
ويجب توفر قدرات مناسبة وكافية للتعامل مع هذه الخيارات وخاصةً في هذا الوقت فقد أصبحت الخيارات كثيرة بشكل هائل ولا يمكن الإحاطة إلا بجزء منها , ولا يمكن التعامل معها بكفاءة إلا بعد تصنيفها وتنظيمها وتخزينها بشكل مناسب , ويستلزم لذلك وقتاً ومجهوداً كبيرين .
فالخيارات اللا متناهية موجودة في الكتب والمراجع , ولكن الوصول إليها وإلى المناسب منها, وتنفيذ ذلك هو الصعب , وعندما تكون الخيارات هائلة يصعب التعامل معها فردياً , وكذلك يجب توفر ظروف مادية واجتماعية وفكرية ونفسية مناسبة .
إن قدرات الإنسان العقلية والمادية هائلة جداً, وتمكنه من الإبداع في ميادين ومجالات كثيرة , كما أن الميادين والمجالات و الخيارات واسعة جداً , ولكن معظم الناس يفكرون ويعملون مثل الآخرين , وهذا نتاج آليات متوارثة لها مبرراتها و عواملها و فوائدها , فالتقليد والمحاكاة لهما دور فعال في التكيف و النمو أيضاً .
فهم يبحثون في نفس الأماكن وبنفس الطرق كأنهم واحد , وعندما يأتي شخص مبدع بشيء جديد أو هام أو نافع تصيبهم الدهشة والتعجب, كيف توصل لذلك ؟ كيف فعل ذلك ؟ فهم لا يفكرون ولا يعملون مثله ولا يشاهدون ما يشاهد ولا يتنبؤن بما يتنبأ .
فقليل من العقول هي التي تنوع وتطور آليات تعاملها مع الخيارات , فهي تجرب آليات جديدة أو تطور القديمة , إنها غير محافظة , فهناك دوما خيارات وطرق جديدة يجب البحث عنها وإيجادها .
صحيح أن الكثير من الآليات الجديدة أو طرق الجديد بحاجة إلى خيارات وبنيات تحتية جديدة مناسبة لها ربما تكون غير متوفرة بعد ويجب إيجادها أولاً .
فالأجهزة المتطورة والمركبة الفضائية والغواصة النووية و حاملة الطائرات....., تحتاج إلى بنيات تحتية - خيارات متاحة مناسبة- بالإضافة إلى الآليات المتطورة الجديدة المناسبة لاختراعها .
فالإغريق والفراعنة كان من المستحيل عليهم أن يخترعوا السيارة أو الراديو أو الطائرة...... فالخيارات التي كانت متاحة لديهم غير كافية .
وهذا ما يستدعي إعجابنا الشديد بالمخترع الذي يخلق البنيات المطلوبة مع أن الخيارات المتاحة غير كافية فهو يوجد تلك الخيارات أيضاً , لأنه يوجد البنيات التحتية اللازمة لتشكيل اختراعه .
والمخترع الخارق هو الذي يقوم ببناء و اختراع عدة مستويات من البنيات التحتية لكي يحقق اختراعاً معيناً , واحتمال وجود هذا المخترع الآن أصبح ضعيفاً جداً نظرا لقدرات الفرد المحدودة ويمكن أن نجد الآن دولاً أو مؤسسات أو شركات.. الخ تحقق صفة المخترع الخارق .
والإبداع يفضل أن يقوم به فرد واحد , فهذا أكثر جدوى , لهذا صار الإبداع الفردي قليلاً ومحصوراً في مجال الفنون والأدب .
والاختراع وبعض الفنون المتطورة مثل السينما , تقوم به الآن جماعات أو مؤسسات كبيرة وبقيادة فرد أو مجموعة صغيرة , وذات قدرات واسعة مادية وبشرية .
وبشكل عام يلزم للإبداع والاختراع توفر العناصر التالية:
1- قدرات عقلية كبيرة ومنظمة وقادرة على التعامل مع الخيارات المطلوبة, بتصنيفها وتنظيمها وتخزينها ومعالجتها بآليات متطورة ومتنوعة , واكتشاف النظام والمعاني الهامة , والسعي إلى الاختزال والتبسيط , والقدرة على اكتشاف المشكلات والمتناقضات, والتعامل مع الفوضى والتعقد الكبير .
2- توفر كمية الخيارات والمعلومات المطلوبة والمناسبة للمجال الذي يراد الإبداع فيه , كمية خيارات التي يستطاع تناولها وهضمها وتمثلها والتعامل معها بفاعلية , واستعمال سلاسل أسباب مترابطة طويلة .
3- قدرات جيدة على تصحيح الخيارات المناسبة للوصول إلى الهدف المطلوب سواء في البحث عن خيارات جديدة أو تعديل طرق معالجة هذه الخيارات , وبالتوافق مع الاختيار الفكري الأفضل , والتأكّد من التصحيح .
4- تذوق المتع الفكرية والمغامرات الفكرية والاهتمام بها , وتوفر دوافع وقدرات كافية للاستمرار والمثابرة والإنجاز , بامتلاك رغبة قوية قي اقتحام المجهول والغامض , والقدرة على الخوض في المسائل الصعبة غير المطروقة والتي يجفل الآخرون عن الخوض فيها .
5- استخدام أقل قدر ممكن من المحاكاة والتقليد والاعتماد على الطرق والآليات الجديدة , ومن هنا تنبع الأصالة والتفرد, وإذا تعذر ذلك فباستعمال الخيارات المعدلة والمتطورة.
6- معرفة أن هناك دوماً الأفضل والأصح والأدق
7- يجب أن تكون الغاية والهدف واضحان ومحددان بشكل جيد ودقيق ما أمكن ذلك.
فهناك دوماً مجال للعب والاكتشاف والاستكشاف وبالتالي الإبداع والاختراع , فالتجديد والتطور موجود في كافة المجالات . ففي الصناعة كل جهاز أو سلعة تصنع لها دور أو وظيفة أو هدف معين ويمكن أن يعدل ويطور هذا الهدف , وبذلك تنشأ خيارات واحتمالات جديدة لصنع جهاز جديد يلبي الحاجة الجديدة , ويكون ذلك بتصنيع جهاز جديد ( أي اختراع) لتحقيق هذا الهدف باستعمال خيارات ( عناصر وآليات) جديدة لإنتاج .
إن المجددين , هم المبدعون والمخترعون والمغامرين والمقامرون والمكتشفون , فهم يسعون إلى الخيارات الجديدة والبحث عنها أو تطويرها , وكذلك هم يعدلون أو يجددون أهدافهم وغاياتهم أيضاً . ولكن يظل أغلبنا محافظين والقليلون هم المجددون.
والإبداع أيضاً يكون بالإدارة والقيادة والسياسة وكافة المجالات ومناحي حياتنا الفكرية والنفسية والمادية .
أن كمية الخيارات والمعارف ونوعيتها التي يتم التعامل معها لها أهمية قصوى في الإبداع وإيجاد الجديد , فاستخدام نفس الخيارات غالباً ما يؤدي إلى نفس النتائج ، فإذا كانت الخيارات المناسبة لم تستخدم فهذا يجعل من المستحيل الوصول إلى الهدف أو تحقيق تجديد , وكذلك استخدام نفس الأسلوب أو الطرق والمناهج في التعامل مع الخيارات يؤدي غالباً إلى نفس النتائج وبغض النظر عن قدرة وذكاء هذه العقول المتعاملة بنفس الأسلوب مع هذه الخيارات .
فالمحاكاة والتقليد في القواعد والأنظمة تفرض أو تقرر النتائج التي يتم التوصل إليها ، فأي طبيب إذا أعطي ظواهر مرض أو حالات مريض معين غالباً ما يعطي نفس التقارير والأحكام إلا إذا كان يستخدم طريقة (آلية ) مختلفة صينية أو شعبية أو طريقة مختلفة خاصة به .
مثال : في إصلاح الأجهزة عندما يصعب على فني كشف عطل معين ويطلب من غيره محاولة إصلاحه يفضل في هذه الحالة أن لا يستخدم خيارات أو طريقة من سبقه لأنه سوف ينزلق ويتوصل إلى نفس النتائج السابقة وبالتالي لن يستطيع كشف العطل . فالمطلوب لكي نحقق نتائج جديدة في تعاملنا مع الخيارات:
1 - إما أن نغير ونعدل بالخيارات المتعامل معها
2 - أو نغير ونعدل طريقة وآلية معالجتنا لهذه الخيارات وهذا ما يجب أن نفعله في أي تجارب نجريها ( لأي هدف كان ) , ولكن غالباً ما نعد ل بالخيارات وليس آلية وطريقة التعامل مع هذه الخيارات فهذا صعب جداً على الكثيرين -وهنا أساس الإبداع - .
إن هدف العلم والبحث العلمي هو إيجاد الخيارات بالدرجة الأولى , والتعامل مع الخيارات يستدعي تصنيفها وتنظيمها عند تخزينها ليسهل استرجاعها والتعامل معها بسهولة، والتصنيف يجب أن يراعي بالدرجة الأولى المعنى ، والمعنى للخيارات هو دورها أو وظيفتها المتوقعة - وحسب استعمالها - ، وكذلك يجب أن يراعي تسلسل وترابط الخيارات من السهل البسيط إلى الصعب المعقد , ويجب أن يراعي توضيح أصول ومصادر هذه الخيارات، وطرق أو آليات نشوئها وتشكلها ، ومن أوجدها وطورها - تاريخها - .
إن احتمال تحقيق أي هدف متناسب طرداً مع كمية الخيارات المتاحة ولكن بشرط التمكن من التعامل معها ومعالجتها , وكمية الخيارات هي بمثابة قوة , ويمكن أن تقارن بالقوة المحركة ، فالمعرفة والمعلومات قوة كما لاحظ أغلبنا . وقد ثبت أن المعلومات يمكن أن توجد الثروات, ويمكن أن تساهم في تحقيق الأهداف، ويمكن أن تنتج السلع وتحقق الأهداف باستعمال القليل من العناصر والطاقة المتاحة.
إن الإلهام والوحي والإبداع هم حصيلة اكتساب وتحصيل ومعالجة مناسبة- شعورية أو لا شعورية- أي هم نتيجة تغذية وتلقي مناسب لما يتم تمثله أو استيعابه , والذي يمكن من إنتاج العمل الإبداعي .
لابد لكل مبدع – في أيٌ مجال كان إبداعه - من تغذية مناسبة لإبداعه , فالإبداع لا يأتي إلا من تغذية سابقة تم هضمها وتمثلها , ففي مجال الفكر والفلسفة نجد كافة المفكرين المبدعين قد تلقوا - أو تناولوا- الأفكار من الذين سبقوهم فهضموها وتمثلوها وأنتجوا أفكارهم الجديدة فسقراط , وأفلاطون , وأرسطو , وديكارت , وكانت , و هيوم ... , كل هؤلاء ما كان لهم أن ينتجوا أفكارهم إلا بعد أن تلقوا أفكار من سبقوهم.
وكذلك الإبداع في الموسيقى , فشوبان , وموتزارت , وبتهوفن , .... أبدعوا بعد تلقيهم وهضمهم موسيقى الذين سبقوهم , وكذلك الرسامون , والرياضيون , والمخترعون , وكافة الفنانون , وكل الأدباء ما كان لهم أن يبدعوا أدبهم إلا بعد أن تناولوا و هضموا الكثير من الأفكار , وامتلكوا قدرات فهم واستيعاب مشاعر و نفسيات الناس الذين تعاملوا معهم , وفهموا العلاقات والظروف المتحكمة فيهم .
فالإبداع والتجديد لا ينتج إلا من تغذية سابقة تم تناولها وهضمها وتمثلها , فالعقل أو الجسم لا يمكنهما الإنتاج الإبداعات من ذاتهما فقط , لابد من الاتصال والتلقي والتغذية , أي يجب أن يزودا بالمدخلات المناسبة إن كانت أفكار أو مهارات أو معارف ومعلومات يتم هضمها واستيعابها بشكل مناسب حتى يستطيعوا تحقيق أنتاجهم و إبداعهما .
والآن يمكن صنع الاختراعات وحتى الإبداعات , فعن طريق التمويل والإدارة المناسبة يمكننا تحقيق الكثير الكثير من الاختراعات والإبداعات , وذلك باختيار الأشخاص المناسبين وتجهيزهم بالإمكانيات المناسبة إن كانت معرفية أو مادية , لتحقيق ما نريد من إبداعات واختراعات .
إن صانع أو منتج أي إبداع أو اختراع بحاجة أيضاً إلى من يريد أو يطلب و يتذوق هذا الإبداع , فأكبر عبقري في الأدب أو في الموسيقى أو في الرسم أو في الطبخ أو أي فن آخر هو بحاجة إلى الذي يفهم ويتذوق إبداعه , وسوف يفشل أي إبداع فني إذا لم يوجد متلقي له قادر على فهمه وتذوقه ويشعر ويدرك عبقرية إنتاجه .
لذلك فإن أنواع وطبيعة المتلقين أو المستهلكين هي التي تحدد و تقرر أي الإبداعات تنجح وتنتشر, فالفنان مهما كان مبدعاً ولكن لا يستطيع أن يسوق إنتاجه هو مبدع غير مؤثر ويبقى مهملاً , يمكن أن يأتي من يتذوق إنتاجه بعد زمن , أو ينجح إنتاجه في مكان آخر .
وبناءً على ذلك المتلقين هم من يقررون أي الأعمال أو الاختراعات أو الانتاجات الفكرية والفنية هو الذي ينجح ويطلب , ويوصف بالإبداع
لذلك يجب على أي مبدع إذا أراد أن لا يهمل إنتاجه , وأن ينجح في تسويقه ونشره , أن يقدم ما يمكن أن يقبل ويهضم ويتم تذوقه من قبل المقدم لهم , فأي إبداع أو اختراع مهما كانا مفيدين أو ممتعين لا يمكن تسويقهم إذا لم يوجد متلقي لهم ويقبل أن يدفع مقابلهم .
والآن أصبح هناك من يملك المهارة والقدرة التي تمكنه من تسويق ونشر أغلب المنتجات والإبداعات والاختراعات وبغض النظر عن طبيعتها , فقد أصبح الآن للتسويق علم يتحكم به وبغض النظر عن قيمة أو نوع السلعة المراد تسويقها, فالتأثير الإعلامي المتاح الآن في التسويق يمكٌن مستخدميه من تسويق أغلب المنتجات سواء كانت فكرية أو فنية أو مادية .
ويمكن تشبيه التجديد أو الإبداع أو الاختراع بطفرات الجينات الوراثية عند الكائنات الحية , فالمناسب والمتوافق مع الأوضاع والظروف هو الذي يمكن أن يبقى وينتشر , ويمكن أن يصبح هذا غير مفيد إذا تغيرت الأوضاع .
وقد قال بوبر أن آلية التكيف والتطور هو ذاته في المستويات الثلاثة , التكيف والتطور الجيني والسلوك التكيفي ( أي المخزون الفطري من أنماط السلوك المتاحة للكائن الحي ) والكشف العلمي ( أي الحدوس الافتراضية أو النظريات العلمية السائدة ) .
إن غالبيتنا تعتبر أن الإبداع والاختراع هما دوماً مفيدين والتقدم لا يحدث إلا بهما , وهذا غير دقيق فيمكن أن يكونا ضارين , إلا في مجال المعرفة والعلوم الدقيقة فالإبداع والاكتشاف هو دوماً تقدم .
نحن الآن في ما يشبه الانفجار في تسارع ظهور الإبداعات والاختراعات , وفي مجالات لا حصر لها .
فهناك الدول و آلاف المؤسسات وملايين الأفراد ينتجون إبداعات لا حصر لها وفي مجالات أيضاً لا حصر لها , وهذا ما أنتج هذا التطور غير المسبوق و اللا معقول الذي نشهده في كافة مناحي حياتنا .
والذي نعجز عن استيعابه ومجاراته نفسياً و بيولوجياً واجتماعياً .
وهذا يظهر أن للمحافظة وممانعة التجديد السريع التي نملكها غريزياً لها ما يوجبها .
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟