نشاط قوى صدام حسين بعد سقوط النظام
الحلقة الحادية والعشرون
الأهمية المتنامية لوحدة قوى الشعب في مواجهة تحديات القوى الفاشية والظلامية
إن السقوط السريع للنظام السياسي الفاشي العراقي غير المتوقع من جانب الإدارة الأمريكية أشعرها بالغرور والغطرسة وجعلها تتصرف وكأنها في بيتها وأن جيشها قادر على كل شيء قدير. وجمّل لها بعض الموالين لها والمتحمسين لاستمرار وجودها في العراق سهولة المهمة بعد السقوط. وكان هذا التصرف والتصور أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في الأشهر الأخيرة في العراق. إلا أن مسلسل الأخطاء لم ينقطع حتى اليوم. فبدلاً من إسراعها بالموافقة على مطلب الغالبية العظمى من قوى المعارضة بتشكيل حكومة انتقالية عراقية عبر عقد مؤتمر واسع للعراقيين, أصرت على تولي الحكم من خلال سلطة الاحتلال التي سمتها سلطة التحالف في محاولة للتغطية على طبيعة الاحتلال الفعلية وفق قرار رسمي للأمم المتحدة. وهكذا ألبت عليها تدريجاً الكثير من قوى الشعب التي كانت البهجة قد غمرتها بسقوط الفاشية في العراق. ثم اضطرت تحت ضغوط متزايدة إلى تشكيل مجلس الحكم الانتقالي مع برنامج موسع لمهمات, ثم وضعت قيداً عليه في أن للحاكم المدني الحق في نقض قراراتها. ويوماً بعد يوم تتراجع عما تقرره بالأمس. ولكن الخطأ الأكبر يبرز اليوم في ثلاث محاور لا بد من إصلاحها بسرعة وإلا فالمشكلة تتفاقم دون أن تمنح الشعب العراقي القدرة المطلوبة على مواجهة فلول وعصابات النظام السابق وكل من يريد فرض حكم استبدادي تحت أية واجهة كانت أو من يريد أن يمدد فترة الاحتلال إلى أجل مفتوح غير مسمى.
الخطأ الأول يبرز في أنها وافقت على تشكيل مجلس الحكم الانتقالي ولكنها عمت بصورة تجلب الحزن العميق في أنها وزعت أعضاء هذا المجلس على أساس طائفي. فعلى سبيل المثال لا الحصر اعتبرت السيد حميد مجيد موسى, سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي, ضمن قائمة الشيعة, واعتبرت السيد عدنان الباججي, ضمن قائمة السنة, وكلاهما علماني وأن اختلفا بالتفاصيل. وكان السيد الباججي قد رفض الالتحاق باللجنة السداسية في المؤتمر الذي عقد في أربيل بسبب الرغبة في احتسابه على السنة. لقد ضج الناس في العراق من الطائفية التي ميزت النظام الفاشي في العراق, رغم أن القهر لم يوجه ضد الشيعة فحسب, بل شمل السنة عرباً وكرداً وتركماناً في آن. ولهذا لم يكن نضال العراقيات والعراقيين يهدف إلى إعادة تقسيم السلطة على أساس طائفيو بل الخلاص من الطائفية وإقامة نظام حكم علماني ينصف الجميع ولا يميز بين الأديان والمذاهب على أساس ديني أو طائفي. ولهذا فالناس على حق عندما تنتقد هذا التوزيع الشكلي الذي يبدو وكأنه يريد تكريس الطائفية في العراق, في حين يفترض أن يرفض هذا, رغم ممارسة الطائفية عملياً في أغلب النظم القائمة في البلدان العربية, وخاصة في السعودية ذات المذهب الوهابي المتشدد الذي يدين به أسامة بن لادن وجماعته. ينبغي علينا تصحيح هذا الخطأ وإبعاد الانطباع الخاطئ وكأن الشعب العراقي يريد إقامة الطائفية في العراق وأن الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال تتجاوب معه. ومن هنا تنطلق أيضاً بعض الدعوات التي تقول: بما أن الحكم الراهن يسير على مثل هذا التوزيع الطائفي, فأن الأولى أن نكون في الحكم وليس غيرنا. وهذا ما يتحدث به مجلس علماء السنة من جهة والسيد مقتدى الصدر الذي يريد أن يتحدث باسم الحوزة العلمية الدينية في النجف.
الخطأ الثاني برز في إصرار الولايات المتحدة على عدم مشاركة الأمم المتحدة بشكل فعال وحقيقي في إنجاز مهمات فترة الانتقال التي يمر بها العراق. وهي التي ستعطي المهمة أبعاداً أفضل وتقلل من المجابهة المباشرة بين من أسقط النظام وبين من رفض الحرب ولكنه يشارك في بناء الديمقراطية في العراق. لا يمكن للولايات المتحدة أن تبقى مصرة على ما يرفضه العالم أو ما يريده, وبالتالي فالأفضل لها وبدلاً من تقديم تضحيات مستمرة في أفرادها أن تقدم على إعادة النظر بقرار الاحتلال ورفعه وتأمين صيغة جديدة لوجود قوات الأمم المتحدة في العراق, ويمكن لبعض القوات الأمريكية والبريطانية أن تكون جزء من قوات الأمم المتحدة التي تسعى على إقامة الديمقراطية وفق أسس الشرعية الدولية ولوائح الأمم المتحدة وحقوق الإنسان. إن هذا المطلب سيتصاعد في الفترة القادمة والضغط الدولي سينمو باستمرار وعليها أن تركن إليه قبل أن يفرض عليها. وارتبط بهذا الخطأ الفادح خطأ أخر لم تقدر الإدارة الأمريكية جوانبه السلبية وراحت تركض وراء الموالين لها والمؤيدين لاحتلال العراق حين تصور البعض أن يوم سقوط بغداد يعتبر يوم التحرير. والفارق بينهما كبير رغم أهمية هذا اليوم في التاريخ العراقي الحديث. وكان الأجدر بها أن تترك هذا الأمر ليكون يوم انتخاب المجلس التشريعي (النيابي) في العراق وانتقال السلطة إلى العراقيين تماماً هو يوم العيد الوطني لكل العراقيين. هناك جملة من القضايا الصغيرة التي تحتاج إلى حساسية كبيرة ترتبط بأسلوب تفكير ومزاج وتجارب العراقيين التي لا يدركها من ترك العراق أكثر من أربعة عقود أو يزيد. ورغم أن هذا الأمر كما يبدو لم يحصل إلا أن التفكير به واقتراحه أصلاً يعتبر خلالاً في التفكير والعقلية والروح العراقية.
الخطأ الثالث الذي ترتكبه الإدارة الأمريكية وتواصل على ارتكابه بإصرار مرفوض هو هيمنتها على القرار الاقتصادي للعراق, لا وفق حدس معين من جانبي, بل هو مقتبس من مقالات وتصريحات الحاكم المدني العام السيد بول بريمر. كلنا يعرف بأن السياسة والاقتصاد وجهات لعملة واحدة, فليست هناك سياسة دون خلفية وأهداف اقتصادية, كما أنه ليست هناك سياسة اقتصادية دون خلفية فكرية وسياسية. والقوانين الاقتصادية لا تفعل في فراغ بل في إطار المجتمع وفي ظل نظام سياسي محدد. ولهذا عندما يترأس السيد بريمر وفداً عراقياً لمنتدى اقتصادي عالمي على شاطئ البحر الميت في الأردن عبر عن وجود قوة الاحتلال في العراق التي بيديها زمام الحكم السياسي. وقد اعتبر هذا الموقف استخفافاً بالقوى العراقية التي ناصبت النظام العداء وتجاوزاً لإرادتهم. ولم يكتف السيد بريمر بذلك فحسب, بل ولم يترك أي مجال للشك والمساومة حين قال بأننا سنستمع إلى آراء أعضاء مجلس الحكم بعناية, ولكننا نملك وحدنا حق اتخاذ القرارات الاقتصادية في ما يخص الاستثمارات الأجنبية ووجهة التطور الاقتصادي العراقي ومستقبله والموقف من خصخصة هذا الاقتصاد بما فيه قطاع النفط الخام. الذي احتفل الشعب العراقي كله عند تأميمه بغض النظر عن وجهات نظرهم السياسية ومواقفهم الفكرية وعدائهم الشديد للنظام الدكتاتوري, إذ أنه كان مطلب الشعب كله. وبسبب أهمية هذا الخطأ الذي ما زال يرتكبه السيد بريمر ويصر عليه لا بإرادته فحسب, بل وفق قرار متخذ من صقور السياسة الأمريكية الحالية وأكبر شركات النفط الاحتكارية وممثليها في هذه الإدارة, وهم معروفون على النطاق العالمي وكتب عنهم الكثير ولم يعد الأمر بحاجة إلى أي حدس أو تخمين في هذا الشأن.
ن التحليل العقلاني والجاد لميزان القوى السياسية في العراق من جهة, والجهود التي تبذل من الإدارة الأمريكية من خلال سلطة الاحتلال من جهة أخرى, والأحداث الجارية في العراق يومياً من جهة ثالثة, إضافة إلى تأثيرات الواقع العربي الراهن والدور الذي يمكن أن تلعبه مختلف المجاميع اللوبية الفاعلة في القوى السياسية والاجتماعية العراقية, يمكنه تقديم الدليل على صحة ما توقعته وتوقعه الكثيرون.
هناك مجموعة من المعطيات الجديدة في الواقع العراقي التي يفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار من جانب من يسعى إلى تحقيق عملية التغيير في المجتمع فعلاً وليس قولاً فقط. فأمامنا اليوم الحقائق التالية, وهي ليست حصيلة الساعة فحسب, بل وبالأساس حصيلة عقود طويلة, وبشكل خاص العقود الأربعة المنصرمة التي لم نبذل الجهد الكافي لتحليلها تحليلاً علمياً معمقاً وشاملاً, بل اكتفينا, كما أزعم, على مس السطح أو القشرة الفوقية للمجتمع. وهنا تحضرني تلك المقولة الرائعة لصاحب الفكرة العميقة والحديثة دوماً, لصاحب كتاب "مقدمة ابن خلدون" العلامة المبجل عبد الرحمن بن محمد بن خلدون, حيث جاء في مقدمته ما يلي:
"إنه لا يكفي أن تصف موج البحر, وظهور السفن, حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر .. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً, يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن, وثروات وركاباً .. وينزفون عرقاً, وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل, ينبغي أن تعطيني صورة كاملة, عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور".
حصل تفريط هائل بالثروة الوطنية العراقية من خلال مجموعة من السياسات الاستبدادية المغامرة والرجعية تتصدرها هيمنة الذهنية العسكرية والرغبة الجامحة في التسلح وإقامة صناعات عسكرية وإنتاج بعض أسلحة الدمار الشامل وخوض الحروب والتوسع والاستفراد في الحكم, والاتجاهات الخطرة والخاطئة في عملية التنمية الاقتصادية والسياسات البذخية في إقامة المشاريع الاقتصادية, وإهدار الأموال على الدعاية وشراء الذمم للدفاع عن النظام في مختلف بقاع العالم, إضافة إلى تهريب الأموال نحو الخارج ووضعها في حسابات فروع حزب البعث (القيادة القومية) في الخارج أو الأشخاص والأقارب وما إلى ذلك, إضافة إلى تدمير البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية من خلال الحروب.
أدت تلك السياسات إلى تدهور شامل في الحالة الاقتصادية العراقية وإلى تراجع شديد عن مستوى التطور الاقتصادي في العراق خلال الأربعينيات من القرن الماضي. وإذا كان العراق في الأربعينيات بلداً زراعياَ, فأنه في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين لم يعد حتى بلداً زراعياً قادراً على إشباع جزء من حاجات السوق المحلي, دع عنك قدرته على تصدير السلع الزراعية التي تردت إلى الصفر. ولعب الحصار الاقتصادي الدولي دوراً إضافياً في كل ذلك.
وحصلت خلال العقود المنصرمة تحولات عميقة سلبية في البنية الطبقية للمجتمع العراقي بعد أن تعرقلت وتراجعت لسنوات طويلة العملية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي بدأتها ثورة تموز عام 1958, عرف المجتمع نمواً ثم تذبذباً وتوقفاً ثم تراجعاً في تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في الاقتصاد والمجتمع, وخاصة في مجال التصنيع المحلي والتحويل الرأسمالي للزراعة, في مقابل عودة العلاقات شبه الإقطاعية إلى سابق عهدها باستغلال أكثر شراسة لكادحي الريف, كما توقف إلى أبعد الحدود تطور العلاقات الرأسمالية في التجارة الخارجية وخاصة في العقد الأخير من القرن العشرين وبداية العقد الأول من القرن الجديد بسبب الحصار الاقتصادي الدولي. وكان هذا يعني توقف نمو الطبقة العاملة في المدينة والريف وفي بقية القطاعات الاقتصادية وتقلص سكان الريف وعدد الفلاحين المشتغلين في الإنتاج الزراعي لصالح الفئات الهامشية التي هجرت الريف واستقرت في مدن فقيرة مهمشة تماماً وبعيدة كل البعد عن المساهمة في إنتاج الدخل القومي, واتسعت البطالة بمقاييس كبيرة جداً غير معهودة وشملت نسبة عالية جداً من القوى القادرة على العمل بعد أن أغلقت الكثير من المعامل أو توقف الإنتاج الصناعي وتوقفت عملية إقامة مصانع جديدة لأسباب كثيرة, بسبب سياسات الحروب والإرهاب الحكومي وقلة توفر رؤوس الأموال والحصار الاقتصادي الدولي. وتقلصت خلال الفترة المنصرمة نسبة السكان التي تنتمي إلى الفئة المتوسطة وفئات البرجوازية الصغيرة القريبة منها نتيجة الجمود النسبي الذي شمل النمو الاقتصادي وحركة السوق والفقر العام في المجتمع وتراجع معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي إلى مستويات منخفضة جداً تضاهي مستواه في البلدان الأكثر فقراً في العالم, واشتدت ظاهرة البطالة في المرحلة الراهنة بسبب الإجراءات الأخيرة, بما فيها حل الجيش وتسريح أفراده, وبطء شديد في عملية إعادة الأعمار.
في مقابل هذا الواقع تعززت مواقع فئة الإقطاعيين وكبار المضاربين في السوق والعملة ودور السكن والعقارات فئة صغيرة من كبار النخبة الحاكمة والضباط. وإذا كان دور أقطاب النظام قد ولى إلى غير رجعة, فأن دور الإقطاعيين لم ينته بعد, بل سيستمر لفترة حتى يصطدم بالجهود التي تبذل لتطوير العلاقات الرأسمالية في الاقتصاد العراقي, ويتم تحويلهم إلى مواقع البرجوازية المحلية .
وفي مقابل تقلص دور وتأثير ومكانة الأحزاب السياسية العراقية التقليدية خلال فترة حكم البعث, نمت خلال الفترة المنصرمة مواقع الجماعات التالية: مجموعة صغيرة من النخبة الحاكمة وشيوخ العشائر وكبار ملاك الأراضي الزراعية من جهة, ومجموعة علماء الدين ورجاله من جهة أخرى, كما تعزز دور هذه الجماعات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية, رغم أن مجموعة النخبة السياسية الحاكمة قد ولت الآن, ولكن شبحها ما زال مخيماً وفاعلاّ بهذا القدر أو ذاك في الأوساط العراقية, حيث نسبة مهمة من السكان ما تزال تعيش الكوابيس التي خلفها النظام في نفوس الناس. وهذا يعني أن كثرة من الناس كانت تحسب لهذه القوى حسابها وتعتمد على مكانتها للحصول على ما يمكنها تمشية أمورها, وبالتالي تقدم لها الولاء والطاعة وتقبل بدورها الاجتماعي والسياسي لأنها كانت بحاجة إليها اقتصادياً ونفسياً. ورغم أن علماء الدين ورجاله انقسموا إلى ثلاث مجموعات مختلفة, إحداها ضد النظام, وأخرى مع النظام والثالثة فضلت الصمت. وإذا كانت المجموعتان الأخيرتان قد دفعتا بالناس عموماً إلى الغوص في الغيبيات والابتعاد عن السياسة والقبول بما هو مقسوم, فأن المجموعة الأولى قد حركت الناس ونظمت كثرة منهم وزجتهم في النضال ضد الحكم الدكتاتوري, ونقصد بالمجموعة الأولى حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي وبعض العلماء المستقلين والمتميزين مثل السيد محمد بحر العلوم. وعلينا أن نلاحظ بوضوح تحرك المجموعتين الثانية والثالثة حالياً لتنادي بشعارات يمكم أن تقود إلى تفتيت الشعب العراقي, كما في خطب وسلوك السيد مقتدى الصدر, أم تقود إلى الانسجام مع دعوات صدام حسين في أحاديثه الإذاعية المسجلة الأخيرة والتي تتجلى في خطبة الشيخ ضاري باسم جماعة علماء السنة, والتي تدعي الوحدة الدينية والتي تهدف إلى غير ذلك.
لقد نشأ في المجتمع العراقي وعي مزيف صارخ ساعدت عوامل كثيرة على نشوئه أبرزها سيادة الاستبداد والقهر والقمع والموت لأكثر من ثلث قرن في البلاد وتردي الأوضاع المعيشية للغالبية العظمى من السكان وخشيتهم من الحاضر وقلقهم على المستقبل واحتمال موتهم في كل لحظة كما مات الملايين منهم في الحروب أو بالإرهاب والقمع أو بغيرها. وأصبح الشغل الشاغل للناس لا يتجاوز العمل من أجل توفير لقمة العيش والدواء أو الحفاظ بكل السبل المتوفرة على حياته وحياة أفراد عائلته وعلى ما يملك. والوعي المزيف هذا ما زال بهذا القدر أو ذاك فاعلاً قوياً في العراق لم يتخلص الناس منه وسيبقى فاعلاً لفترة غير قصيرة, إذ يمكن أن يتحركوا بتأثيرات الماضي دون وعي منهم بما يمكن أن يحصل لهم أو أنه في غير صالحهم.
أدى كل ذلك إلى أن الغالبية العظمى من السكان نفرت من السياسة ولم تعد راغبة في العمل السياسي وتريد الابتعاد عن الأحزاب السياسية لأنها, كما ترى, قد جلبت لها أو تسببت بكل المصائب والمصاعب التي عاشها الشعب. وهو تقدير خاطئ بطبيعة الحال, ولكنه بحاجة إلى عمل فكري وسياسي واسعين مع الجماهير لتوضيح الأمر أو البرهنة على الضد من ذلك أو القبول بتحمل مسؤوليتها في الكثير من الأخطاء. ومن هنا تأتي أهمية ملاحظة مدى التدهور الحاصل في مصداقية الأحزاب السياسية لدى الشارع العراقي, وخاصة بالنسبة لتلك القوى التي اضطرت إلى مغادرة العراق والعمل ضد النظام من الخارج أو تلك التي تشكلت أصلاً في الخارج. ويجب أن ينتبه هذا الحزب أو ذاك إلى أن جمهرة من العناصر القديمة التي عادت للعمل, هي الأخرى قد استنفدت طاقاتها وتعاني من أو تحمل معها أمراض وأوجاع المجتمع المختلفة, وهي عاجزة موضوعياً عن تقديم ما هو مفيد للناس.
ونشأت في المجتمع مجموعة كبيرة من الأمراض الاجتماعية والنفسية منها تلك التي نشأت بسبب سياسات النظام وحروبه وعواقبها على المجتمع, ومنها تلك التي زرعها أو نمّاها النظام في نفوس أفراد المجتمع وكانت جزء من سياساته التثقيفية والتعليمية والإعلامية, أو ممارساته الفعلية. ويجب أن لا نستغرب لما حصل في أعقاب سقوط النظام من فوضى وتخريب ونهب وسلب وتدمير وقتل.
ثم جاء السقوط السريع للنظام تحت ضربات قوات التحالف الأمريكي - البريطاني ودخول قوات الاحتلال بغداد العاصمة وجميع أنحاء العراق. ويبدو لي بوضوح أن سلطة الاحتلال لديها مشروعات معينة جاهزة ضمن استراتيجيتها في المنطقة والعالم وتريد تنفيذها, رغم أنها ارتكبت الكثير من الأخطاء الفادحة منذ احتلالها بغداد حتى الآن والتي أشرنا إلى بعضها في بداية المقال. وهي تسعى إلى إرساء عدد من المسائل المهمة ذات الطبيعة المتناقضة, رغم أن بعضها يبدو معقولاً في ظروف العراق الراهنة, وهي:
1) وضع دستور وإقامة مجتمع مدني علماني في العراق, ولكنها تعتمد بصيغة ما على البنية الدينية والطائفية للبلاد والتي تجلت في محاولة توزيع العلمانيين, بمن فيهم ممثل الحزب الشيوعي العراقي تحت خيمة التقسيم الطائفي. ويفترض رفض مثل هذا التقسيم غير العقلاني وغير المناسب, والذي يحمل في طياته احتمال تحوله في كل لحظة إلى قنبلة موقوتة.
2) تأمين قوى أو نخبة سياسية جديدة تدين بالمحصلة النهائية بالولاء للولايات المتحدة الأمريكية, إذ ستبذل الجهود لتكريسها وبناء ما هو مقارب لما يجري اليوم في الولايات المتحدة من وجود حزبين وفق نهجين سياسيين متقاربين ومؤيدين للولايات المتحدة يتبادلان السلطة الفعلية بين دورة وأخرى. وهذه الوجهة بما تحمله من مشكلات يمكن أن تشكل بحدود معينة قنبلة موقوتة لتعارضها مع الجهد العراقي لإقامة نظام ديمقراطي اتحادي علماني متحرر ومتعدد الأحزاب يتم تداول السلطة فيه على أساس الانتخابات البرلمانية الحرة والنزيهة والديمقراطية.
3) وضع البلاد على طريق اقتصاد السوق الحر وفق منظور واتجاهات اللبرالية الجديدة وإلغاء كامل لدور قطاع الدولية وربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الأمريكي ومن خلاله بالاقتصاد والسوق الرأسمالي العالمي. وسيؤدي هذا إلى إهمال حقيقي لإرادة الشعب ومصالحه الأساسية. وفي ظروف العراق الاقتصادية والاجتماعية الراهنة يمكن أن تنشأ عن ذلك قنابل اجتماعية موقوتة كثيرة يمكن أن تتفجر في كل لحظة بسبب كونها ستؤدي إلى نشوء فجوات متسعة في الدخل ومستوى المعيشة ومستوى الخدمات, وستعمق البطالة والحرمان في المجتمع وتمنع عملياً الدعم الحكومي للسلع الأساسية. كل ذلك سيقود إلى تفاقم التناقضات والصراعات وتحولها تدريجاً إلى نزاعات سياسية.
4) وستؤدي هذه الأمور بدورها إلى الهيمنة الجدية على مقدرات البلاد ووجهة تطوره واستقلالية قراراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستثير إشكاليات جديدة داخل المجتمع وستكون سبباً في اشتداد دور وتأثير الظواهر السلبية في المجتمع. ومن بين أبرزها ظاهرة التطرف السياسي, الديني والقومي باتجاهات يمينية وعنفية, ولكنها ستقود أيضاً إلى بروز واشتداد التطرف اليساري.
5) وسيكون العراق معرضاً في مثل هذه الأحوال إلى تأثيرات كبيرة من الدول المجاورة وإلى التزام قوى سياسية معينة يمكن أن تقود إلى احتمال نشوب صدام سياسي وتكوين تحالفات سياسية جديدة لا يمكن تقدير عواقبها في الوقت الحاضر, إلا إن مثل هذه الصراعات ستكون مبرمجة سلفاً ومنذ الآن.
إن هذه الظواهر المهمة هي التي تدفعنا إلى التفكير بالسبل التي يفترض السير عليها لمواجهة الواقع الجديد واستلهامه في وضع المهمات وصياغتها واختيار السبل والأدوات المناسبة لهذه المرحلة دون غيرها. إن العاجزين هم وحدهم الذين يكتفون بما لديهم إذ بالنسبة لهم "ليس في الإمكان أبدع مما كان", وهي رؤية كانت وما تزال تشكل مصيبة على حامليها, إذ أنها تسبب جمود الفكر وزحف الحركة أو حتى جمودها النسبي.
ستشهد الفترة القادمة بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي اصطفافات جديدة في القوى السياسية والاجتماعية, وربما ستشهد أيضاً اندماجات حزبية جديدة لتحقيق مواقع قوة لها أمام هذا الكم الهائل من الأحزاب والقوى والكتل السياسية, كما ستشهد محاولات جادة من سلطة الاحتلال لتكوين نخبتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية التي تستوجبها طبيعة المرحلة وتحاول تأمين تحالفاتها المناسبة. وفي داخل المجلس ستنشأ مواقف وصراعات حول مختلف القضايا الصغيرة منها والكبيرة ويمكن في داخله أن تنشا تحالفات معينة ومراكز قوة للبت بأهم القضايا الخلافية, وستسعى سلطة الاحتلال إلى تعزيز مواقع الذين تساندهم أكثر من غيرهم. كما أن الصراع بين سلطة الاحتلال والمجلس سيبرز على سطح الأحداث وستكون الحاجة إلى مثل تلك التحالفات في داخل المجلس وخارجه ضرورية لحسم الأمور.
إن الدعوة إلى وحدة مجلس الحكم الانتقالي ضرورية ومهمة ولا بديل لها في الوقت الحاضر, ولكن علينا أن لا ننسى بأن درب المجلس مليء بالألغام وانفجارها يمكن أن يحدث في كل لحظة عندما تصطدم المصالح الضيقة لهذا الفريق أو ذاك بالمصالح العامة للشعب. ومن هنا يأتي قول الإمام علي بن أبي طالب في محله تماماً عندما يقول: "أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". إن المراهنة على وحدة نضال الشعب ضرورية, ولكن لا تكفي المراهنة عليها دون العمل من أجلها ودون وضع المزيد من صمامات الأمان لحماية مكسب سقوط الدكتاتورية الفاشية, حيث بدأت بعض القوى القومية اليمينية والمتطرفة على المستوى المحلي والعربي تلطم الخدود وتذرف الدموع عليها.
ومن هنا كانت وما تزال الرؤية الواعية للأحداث الجارية تتطلب إعادة النظر بالموقف من المبادرة التي طرحتها حول موضوع الحوار حول وحدة أو أشكال التعاون بين قوى اليسار الديمقراطي العراقي وتحالفاته مع القوى الديمقراطية العراقية, عربية كانت أم كردية أم من الأقليات القومية. إنها لمهمة كبيرة أن نبدأ الآن قبل أن يكون الوقت متأخراً ونعض على النواذج وعندها يصدق فينا قول الشاعر العراقي عدنان الصائغ:
لن يطرقَ بابكَ ثانيةً
فإلامَ ستجلس منتظراً
في الدار
توهمكَ
الصدفةُ
بالتكرار.
إن هذا الاستعراض السريع يضعنا إذن, وفق قناعتي الشخصية, أمام مهمة البحث في تأمين مستلزمات العمل الفكري والسياسي لاستيعاب الوضع وفهم العوامل الفاعلة فيه والقوانين المحركة له, وبالتالي السلوك أو المنهج المطلوب ممارسته. وانطلاقاً من فهمي للواقع اقترح من جديد الإقدام على دعوة قوى اليسار الديمقراطي العراقي لعقد لقاء حواري يستهدف التمعن في ثلاثة مسائل عقدية:
تقديم تحليل مكثف وواضح لكل طرف حول الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفق منظوره للأمور, ثم تقديراته لاحتمالات التطور ومهمات القوى اليسارية الديمقراطية.
الأساليب والأدوات السلمية والديمقراطية التي يراد ممارستها لضمان تحقيق مسيرة ديمقراطية للعراق ودور قوى اليسار الديمقراطي في هذه المسيرة الديمقراطية المنشودة.
الأشكال التنظيمية المناسبة للفترة الراهنة والقادمة بالنسبة لقوى اليسار الديمقراطي من جهة, وإمكانية تكوين تحالفات أوسع على صعيد مختلف القوى الديمقراطية في العراق من جهة ثانية, بهدف المشاركة الفعالة في التحولات الديمقراطية التي يفترض حصولها وفي إنهاء الاحتلال مع انتهاء فترة الانتقال. والبحث في وحدة أو تحالف قوى اليسار الديمقراطي والقوى الديمقراطية بشكل عام لا يعني بأي حال التفريط بالتعاون القائم حالياً أو عدم التفكير بتعزيزه وتوسيعه بحيث يشمل قوى إضافية يمكن أن يكون لها دورها في هذا النضال.
إن المهمة التي تواجه قوى اليسار الديمقراطي طرح البديل أو النموذج المناسب في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية, وليس خارجها, إذ لا وجود لبديل خارجها في المرحلة الراهنة ولسنوات طويلة قادمة, فالاشتراكية غير مطروحة على بساط البحث حالياً أو في الأفق المنظور. هذا لا يعني أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية هي نهاية التاريخ, ولكنها هي المهمة المباشرة في المرحلة الراهنة. وفي هذا الإطار توجد أطياف أو نماذج كثيرة يمكن أن يتحرك عليها التطور الرأسمالي في العراق, بحيث يكون من الناحية الاجتماعية أكثر قبولاً. إن المجتمع العراقي واجه منذ اليوم الأول لاحتلال بغداد, وسيواجه خلال الفترة القادمة إصراراً أمريكياً - بريطانياً على السير في طريق واحد قررته الإدارة الأمريكية للعراق عبر خبرائها المعروفين المنحدرين من مدرسة اللبرالية الجديدة التي تكرست بشكل ملموس منذ النصف الأول من العقد الثامن وتواصلت طيلة الفترة المنصرمة. وإذا كانت قد حققت أرباحاً هائلة للاحتكارات الرأسمالية المتعددة الجنسية وأكبر الاحتكارات الأمريكية على نحو خاص, وبقية الاحتكارات في الدول الرأسمالية السبع الكبار, فأنها في المقابل نشرت المزيد من الاستغلال والفقر والفاقة والحرمان في الغالبية العظمى من بلدان العالم النامي, وبشكل أخص في البلدان الأكثر فقراً في العالم. وهذا أحد الأسباب المهمة جداً لنمو التطرف والإرهاب في العالم, والذي ترفض الولايات المتحدة الاعتراف به كسبب مباشر, في حين تقره الكثير من الدول الأوروبية.
كتب الحاكم المدني لسلطة الاحتلال في بغداد عدة مقالات أو مقابلات صحفية شخص فيها ثلاث مسائل جوهرية:
أولاً: الواقع الاقتصادي الذي خلفه النظام ورأسه المخلوع بعد 35 سنة من هيمنة الدولة على الاقتصاد والمجتمع والعواقب الوخيمة التي تسببت بها سياسات النظام الاقتصادية. وهي تشخيصات دقيقة وصحيحة ويمكن الموافقة, بما فيها تلك التي تمس طبيعة نشاط قطاع الدول وأهداف النظام والإدارة البيروقراطية الفاسدة فيها.
ثانياً: حدد المهمات التي تواجه الإدارة الأمريكية والشعب العراقي في الفترة القادمة التي حددها لا بإعادة إعمار العراق فحسب, بل بخلق تنمية مستدامة وتنشيط العملية الاقتصادية وضرورات تعبئة كل الإمكانيات المتوفرة داخلياً ودولياً لهذا الغرض وربطها بعملية دمقرطة البلاد. أي أنه ربط بين الجانب الاقتصادي والجانب السياسي في ما أطلق عليه بالحرية السياسية التي لا تنفصل عن الحرية الاقتصادية. وإذ يمكن الاتفاق على بعضها تبرز نقاط تباين أيضاً, خاصة في فهم طبيعة هذه الحرية ومن المستفيد منها ولمصلحة من تتجه وتعمل.
ثالثاً: الأدوات والأساليب الضرورية لعملية البناء الاقتصادي والنموذج الذي يراد انتهاجه في عملية البناء الاقتصادي في العراق. وقد شخص لهذا الغرض نموذج اقتصاد السوق الحر. وأكد على دور الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال في حسم التوجهات الاقتصادية للعراق والعقود والاتفاقيات والامتيازات التي يراد عقدها والاستثمارات التي يراد جلبها. وحرم مجلس الحكم الانتقالي وكذلك كل العراقيات والعراقيين من التدخل في هذا الأمر ومنحهم حق تقديم المشورة, أي عمد إلى عكس ما يفترض أن يكون عليه الحال حتى في فترة الاحتلال. وهنا ينشأ الخلاف الرئيسي بين ما أراه وما يراه بريمر. ففي الوقت الذي لا أمتلك سوى حق مناقشة الأفكار يمتلك هو إصدار القرارات ووضع الخطط وتنفيذ ما يراه مناسباً. وحسب تصريحات بريمر سوف لن يكون حال مجلس الحكم الانتقالي يختلف كثيراً عن حالي في المسألة الاقتصادية. وهو أمر غير مقبول. وعلينا أن نتعاون من أجل إيجاد حل لهذه المعضلة.
إن ما يطرحه النموذج الأمريكي للعراق لخصه السيد بول بريمر في مقال له نشر في 21/6/2003 في جريدة السفير اللبنانية وعشية مشاركته في مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي في منطقة البحر الميت في الأردن. وهو يختلف عن التصور الذي يمكن أن تدعو إليه القوى الديمقراطية العراقية, ومنها قوى اليسار الديمقراطي العراقي.
ففي الوقت الذي يمكن الاتفاق معه على أن القطاع الخاص يفترض أن يلعب الدور الرئيسي في العملية الاقتصادية في العراق, فأن هذا لا يعني حرمان قطاع الدولة من النشاط الاقتصادي الذي تستوجبه طبيعة المرحلة والمهمات الكبيرة التي يفترض النهوض بها وأهمية توزيع الأعباء بما يسهل النهوض بها والتكامل في ما بين نشاط قطاع الدولة والقطاع الخاص وكذلك تنشيط القطاع المختلط في إطار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. ويمكن أن يتم الاتفاق معه على أهمية وضرورة ولوج الرأسمال الأجنبي إلى الاقتصاد العراقي, ويبقى السؤال كيف وأين. وهي مسالة ليست شكلية ولكنها مفيدة للاقتصاد العراقي. فالعراق بحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية خلال العقدين القادمين, وعليه فتح الأبواب لا للاستثمارات الأمريكية فحسب, بل للاستثمارات الأخرى أيضاً, ويفترض أن تحدد الاتجاهات الأساسية التي تخدم الاقتصاد الوطني في تطوره القادم. فالخلاف هنا ليس في وجود الرأسمالية وتطورها في الاقتصاد العراقي, بل في وجهة هذه الرأسمالية وفي النموذج المناسب للعراق في المرحلة الراهنة وللعقدين القادمين على سبيل المثال لا الحصر. وكذلك الخلاف ليس في قبول الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد العراقي, بل أن العراق بأمس الحاجة لها, ولكن المسالة الخلافية, هي: هل ينبغي للولايات المتحدة أن تتحكم بالاستثمارات, أم أنها مهمة مجلس الحكم الانتقالي في فترة الانتقال وفي ظل الحكومة الشرعية القادمة, وكذا الحال بالنسبة للنفط الخام وعقد الامتيازات وما إلى ذلك؟
وفي الوقت الذي نتفق على أهمية تنشيط التجارة الخارجية والانفتاح على العالم, إلا أن هذا يفترض أن لا ينسى أهمية تنمية الصناعة الوطنية التي دمرت خلال الحروب المنصرمة وحمايتها من المنافسة الأجنبية الشديدة التي يصعب على الصناعة المحلية الوقوف بوجهها, وهي ضرورية لتطور الاقتصاد والمجتمع, وخاصة قضايا التشغيل وإغناء الدخل القومي وخلق الفائض الاقتصادي وتعظيمه والاستخدام الفعال لموارد العراق الأولية في عملية التنمية وليس في تصديرها فقط, إضافة إلى أهمية العناية بالتخطيط الإقليمي لإقامة المشاريع لضمان تطورها المتوازن ووفق حاجاتها الملحة وما تعرضت له من تخريب وما تمتلكه من موارد أولية وقوى عاملة.
وفي الوقت الذي نتفق بأن الشعب العراقي لا يريد ولا يمكن أن يبتلع نفطه, بل عليه أن يبيعه في السوق الدولية, فأن ما نختلف عليه هو الموقف من خصخصته أو استمرار وجوده في إطار قطاع الدولة وتصبح موارده جزء من الميزانيتين الاعتيادية والاستثمارية, بما في ذلك دعم نشاطات القطاعين الخاص والمختلط وقطاع الدولة الاقتصادي. ويفترض أن يباع النفط الخام في الأسواق الدولية بكل حرية وبالتعاون والتنسيق مع منظمة الأوبيك (منظمة الدول المصدرة للنفط) من خلال عضويته فيها وليس الانسحاب من هذه المنظمة التي بادر العراق إلى اقتراح تشكيلها وكان من مؤسسيها. كما يفترض أن توظف الكثير من رؤوس الأموال في قطاع النفط الخام وفي مصافي النفط والصناعات البتروكيماوية وفي سلسلة من الصناعات الأخرى التي تنسجم مع حاجات وضرورات الاقتصاد العراقي والمجتمع وتشغيل جيش العاطلين عن العمل وكذلك مع البيئة. لقد أصبح قطاع النفط خلال العشرين سنة المنصرمة مهملاً إلى ابعد الحدود بسبب سياسات الدولة والحصار الاقتصادي, وهو بحاجة إلى المزيد من الاستثمارات والتحديث لمنشآته وإدخال التقنيات الحديثة لتأمين رفع إنتاجية العمل وتقليص تكاليف الإنتاج وزيادة المردود الاقتصادي أو الفائض الاقتصادي, إلا أن من الواجب أن يتم كل ذلك بالتنسيق مع مجلس الحكم الانتقالي وليس بعيداً عنه أو بغيابه.
وإذ نتفق بأن اقتصاد السوق الحر هو النموذج المطروح حالياً للعملية الاقتصادية في العراق, ولكن هذا الموقف ينبغي له أن لا يغمض العينين عن رؤية ما سينتهي إليه وضع الجماهير الشعبية الكادحة والقوى العاملة من عواقب وخيمة عندما تترك الحرية التامة لقوى السوق العمياء, وهي كما نعرف سوف لن تكون حرة تماماً بسبب هيمنة القطاع الخاص على الاقتصاد وتحكمه بكل شيء, وبالتالي سيتحكم بالأسعار والأجور وتحديد مستوى الأرباح وغيرها. ولهذا لا بد من التفكير في وضع بعض القيود الاجتماعية على "عفوية" عمليات اقتصاد السوق الحر من خلال ما يطلق عليه باقتصاد السوق الحر الاجتماعي, أي وضع ضمانات قانونية لحماية الطبقة العاملة والفلاحين وسائر الكادحين وبقية بنات وأبناء المجتمع من شدة الاستغلال التي سيتعرضون لها عبر آليات اقتصاد السوق الحر وسياسات المهيمنين على رؤوس الأموال وحركة الاقتصاد العراقي. ولهذا لا بد من وضع أسس معينة بشأن الأسعار والأجور وضمانات اجتماعية وصحية وتعليمية وحدود دنيا للأجور وتحديد ساعات العمل وآليات ديمقراطية لحل مشكلات العمل بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال, وحماية القطاع السلعي الصغير وتنشيطه وتطويره, وكذلك قوانين خاصة بالضرائب تأخذ بمبدأ الضرائب المباشرة التصاعدية على الدخول بدلاً من فرض ضرائب عالية غير مباشرة على السلع والخدمات, وكذلك تأمين دعم لمجموعة من السلع الأكثر ضرورية وأساسية لحياة الناس جميعاً, وخاصة الكادحين منهم, ولكي لا تبقى نسبة عالية من الكادحين المحرومين تستجدي الأغنياء المتخمين على قارعة الطريق, مثل دعم أسعار الخبز وبعض السلع الأساسية والمهمة الأخرى وأجور الكهرباء والماء والنقل العام ووضع نظام خاص للمعالجة الطبية عبر صندوق المرضى الحكومي أو الخاص. أي ينبغي أن لا تعتمد هذه الفئات على رحمة رأس المال الذي لا يعرف الرحمة بحكم طبيعته دع عنك جشع الرأسماليين لمزيد من الأرباح حتى لو حصل ذلك مقابل تهديد حياة الرأسمالي.
وهكذا يمكن تبيان الجوانب المختلفة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية بين النموذج الذي تطرحه الإدارة الأمريكية للعراق وعبر عنه بلا مواربة السيد بريمر, وبين ما تطرحه القوى الديمقراطية العراقية, وخاصة قوى اليسار الديمقراطي. وليس المطلوب هنا تقديم نموذج يستحيل تحقيقه في ظروف العراق الراهنة ويعبر عن صيغة تعجيزية, أو ينطلق من المبالغة والهروب إلى أمام كما يعبر المثل الشعبي العراقي بدقة حين يقول: "الهور مرك والزور خواشيك".
نحن الآن أمام مرحلة تتميز بالكثير من التعقيد وتحفها الكثير من المصاعب والمخاطر. وهي لا ترتبط بالتنوع القومي أو الديني والمذهبي في العراق فحسب, ولا ترتبط بكثرة الأحزاب السياسية وتعدد اتجاهاتها الفكرية والسياسية واختلافها الشديد في جملة من الأمور الأساسية فحسب, ولا ترتبط بالأجواء المعقدة التي تحيط بالعراق والتدخلات الكبيرة في شؤونه الداخلية من بعض الجران فحسب, بل ترتبط بالأساس بطريقة سقوط النظام التي تمت بالقوى الأجنبية التي حاربت النظام وأسقطته واحتلت على إثر ذلك العراق كله. وهي بالتالي تجد نفسها في مواقع متقدمة ومتفوقة من حيث الإنجاز على قوى المعارضة العراقية السابقة, وبالتالي, تريد لنفسها تحقيق مكاسب على القوى السياسية العراقية التي لم تكن طرفاً في الإسقاط المباشر للنظام, رغم دورها المستمر والمديد في إضعاف النظام وعزله جماهيرياً. ولهذا فمهمة القوى السياسية العراقية في المرحلة الراهنة معقدة جداً لا تحسد عليها. ويزيدها تعقيداً الطريقة التي تعامل بها حتى الآن السيد بول بريمر, إذ يصعب عليه, كما يبدو, تقديم التنازلات عما رسمه في مخططه إلا تحت ضغط عالمي وإقليمي ومحلي متصاعد تماماً كما حصل في تشكيل مجلس الحكم الانتقالي من جهة, والدور الذي تقوم به عصابات صدام حسين وقوى الإسلام السياسي المتطرفة وعصابات الإجرام الأخرى من جهة ثانية. وما يحصل اليوم في بعض مناطق العراق دليل على تنوع القوى التي تقوم بعمليات إجرامية واسعة بما في ذلك ضرب قوات الاحتلال وقتل الناس والاعتداء على البيوت ..الخ.
ولهذا فنحن نحتاج إلى جبهة ديمقراطية داخلية قوية ومتينة ومتماسكة وتعرف ما تريد وما تسعى إليه, وجبهة ديمقراطية خارجية, على الصعيدين الدولي, الرسمي والشعبي, تدعم مطالب القوى الديمقراطية الداخلية. والجبهة الديمقراطية الداخلية يفترض أن تعرف كيف تعمل مع الجماهير الواسعة وكيف تنظمها وتعبئها وتتفاعل معها للدفاع عن السياسات التي تتبناها. إن حركة الجماهير الواعية والمنظمة هي القادرة على تحقيق النجاحات المنشودة. ليس الهدف من هذا إثارة الصراعات مع سلطة الاحتلال, بل العمل من أجل إقناعها بما نعتقد بكونه نافعاً للعراق وما يفترض أن يتحقق.
استناداً إلى كل ذلك وغيره أطرح من جديد أهمية البدء بحوار ديمقراطي منفتح حول موضوع وحدة عمل أو نشاط أو تحالف قوى اليسار الديمقراطي العراقي. ويأمل أن يتم التفكير لا وفق مصالح آنية خادعة أو مضللة, بل وفق المهمات الفعلية ذات المدى الأبعد والرؤية الواعية لتعقيدات ومخاطر العملية الجارية في العراق.
إن الأخطاء التي ارتكبت حتى الآن من جانب الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال قبل وبعد الحرب حتى الوقت الحاضر, وكذلك الأخطاء التي ارتكبتها القوى السياسية العراقية في البلاد, كلها تصب الماء في طاحونة القوى العدوانية المناهضة للتغيير الذي حصل في العراق وللرغبة في إقامة الديمقراطية وإنهاء الاحتلال, وكلها تسمح لقوى صدام حسين على التحرك وكسب الأنصار, كما ترحك قوى الإسلام السياسي المتطرفة وقوى جديدة تريد الالتحاق به من خلال دعوتها إلى حكم الحوزة العلمية في النجف أو تشكيل جيش المهدي أو نشاطات جماعة علماء السنة. إنها ألغام في طريق مجلس الحكم الانتقالي وعليه أن يدرسها بعناية كبيرة.
إن إسقاط جهود أعداء الديمقراطية من فاشيين وظلاميين لا يمكن أن تنجح دون وحدة الشعب العراقي وقواه السياسية ودون إيجاد لغة جديدة وقواعد عمل منظمة للعلاقة مع قوات الاحتلال إلى حين خروجها وطرح جديد بأمل كسب الأمم المتحدة للعمل في العراق. إن عوامل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية متزايدة ومتشعبة وينبغي الاستفادة منها لصالح تعزيز الخط الذي ندعو إليه وتعزيز دور مجلس الحكم الانتقالي غير الطائفي في العراق. إن على القوى الوطنية العراقية أن لا تضيع هذه الفرصة الثمينة بانتظار فرصة أخرى وأن تنتبه بأن الفرصة التاريخية لن تتكرر بالضرورة وأن نبذل كل شيء الآن في سبيل ذلك قبل أن يكون الوقت متأخراً ونعض على النواذج وعندها يصدق فينا قول الشاعر العراقي المبدع عدنان الصائغ:
لن يطرقَ بابكَ ثانيةً
فإلامَ ستجلس منتظراً
في الدار
توهمكَ
الصدفةُ
بالتكرار.
ولأهمية التحرك وفهم العوامل الضاغطة على النظام أعيد نشر المخطط الخاص بتلك العوامل الفاعلة في التأثير على مواقف وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق السياسي.
برلين في 19/07/2003 كاظم حبيب
لاحظ المخطط التالي:
مخطط يشير إلى واقع الضغوط المتزايدة على الإدارة الأمريكية بصدد الأوضاع في العراق
المدخلات - المخرجات وأهمية الاستفادة منها لصالح العراق وتطوره الديمقراطي اللاحق