تفترض الفكرة المطروحة في سياق السؤال ان العراق كمجتمع ونظام حكم ستؤول مقدراته بيد ابنائه ووفق اسلوب ديمقراطي تمثيلي يعكس راي ودور المواطنين بكل تلاوينهم في مصائر البلد السياسية والاقتصادية والامنية وغيرها. مع ان هذا الامر غير متحقق الان وهو براي يشكل النقطة الجوهرية الاولى في تقييم او رسم مستقبل علاقات العراق المستقبلية مع دول ومجتمعات محيطه القومي والجغرافي فسانطلق في المعاينة على اساس امكانية تحققه من دون الخوض في مبررات موضوعية وواقعية لهذا التحقق المشكوك في الكثير من اسسه وعناصره. لهذا سيكون طرحي نسبي وافتراضي من قياس حالة مثالية غير متحققة الان .
لو كان للمواطن العربي حق في تقرير الخطوط العامة للقرار السياسي في بلده لادى هذا الامر الى تنظيم متطور وحقيقي لعلاقة بلده بمحيطه القومي او الجغرافي. ولان هذا العنصر الاساس، اي دور المواطن في القرار السياسي، غائب فستبقى علاقات الدولة السياسية تعكس، بطريقة فجة، مصالح النخبة الحاكمة ويبقى الشكل الفوقي والطابع البيروقراطي هما السمتان اللتان تنتظمان علاقات هذا النوع من الانظمة ببعضها. هذا هو حال المنظمات العربية كجامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون والاتحاد المغاربي والاتحاد العربي الذي اقامه النظام البعثي في العراق مع مصر والاردن واليمن قبل ان ينفرط عقد عمره القصير باحتلال النظام الفاشي لدولة الكويت.
تشكلت هذه التنظيمات والاطر التنسيقية بين هذه المجاميع من البلدان كاستجابة لظروف خاصة في كل مجموعة ولتلبية مصالح معينة او لمواجهة قوة اقتصادية او سياسية محلية او ذات بعد عالمي كما هو حال الاتحاد المغاربي. وتاريخيا جاء قيام جامعة الدول العربية من اجل ان تلعب دورا في عملية بناء او محاولة احياء سيرورة متوقفة او مجهضة لبناء كيان سياسي- اقتصادي لامة ولقيام اتحاد قومي عربي يواجه تحدي المتطلبات التي فرضتها التحولات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية والتبدلات النوعية في اجواء العالم السياسية انذاك، وجاء التاسيس على خلفية الميل الخاص في تاسيس كيان تنظيمي عربي يعوض عن الفشل النوعي في الاتحاد ويقدم الارضية لمستقبل وحدوي. لكن هذه الجامعة قامت على اساس رغبات وتطلعات مراكز معينة، كمصر، كانت تطمح وتتطلع ابدا للعب دور قيادي للقومية العربية التي يمكن ان يتشكل كيانها كامتداد للطموح الكبير الذي دشنته اسرة محمد علي في مصر بداية القرن التاسع عشر بالتساوق مع ارهاصات حركة النهضة العربية،في محاولة لفك الارتباط بدولة الخلافة العثمانية ومن دون الوقوع تحت نفوذ الدول الاوربية بعد الاستعانة بها وبقدراتها واستثمار خلافاتها مع دولة الرجل المريض لتصفية تركته. ولان شكل نظام الحكم في البلدان العربية استبداديا ونخبويا وبلا مؤسسات تمثل الراي العام فقد صار شكل الرابطة المؤتلفة تحت خيمة الجامعة قائما على العلاقات الفوقية ومقصيا دور المواطنين والنخب المثقفة، الا في حدود ضيقة جدا، وطمح لان يكون اداة بيد الدول القوية والكبيرة داخل الجامعة للهيمنة او للعب دور اساس في توزيع القوة.
طبعا ستمر الجامعة العربية بعد مرحلة التاسيس الاولى باطوار وتحولات تستتبع التحولات في طبيعة الانظمة الحاكمة والقوى التي هيمنت على مقاليد الامور بها خصوصا بعد صعود التيار القومي في الخمسينات وهيمنة الشعار الوحدوي وبالطريقة القمعية والشمولية التي اوغلت اكثر في اقصاء المواطن والقوى السياسية وكل دور للمجتمع في الحياة السياسية.
مايمكن الوصول اليه كخلاصة لهذا المسار هو ان العيب ليس في الاطار التنظيمي من حيث الجوهر، سواء كان الجامعة العربية ام غيرها، بل في الصيغة والنوايا او المآرب التي ابتغاها هذا الطرف او تلك الجهة من هذا التشكيل.
ليس من العقل المراهنة على العزلة او عدم توظيف واستثمار الروابط الاضافية، مابعد الاقتصادية، والمصالح، كوحدة الجوار والانحدار الثقافي والديني والاصول الاجتماعية والتاريخية المشتركة كمصادر للتطور ولارساء قواعد للبناء الحضاري والنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي. لكن ذلك لايعني، بالنسبة للعراق، الارتماء في اي هيكل تنظيمي لاتتوافر فيه العناصر الضرورية المنسجمة مع الاطار السياسي والثقافي العراقي وبنية تطوره الحضري. فماذا سيقدم تجمع خليجي، كمجلس التعاون، قائم على اسس عشائرية ومكرس بالاساس لحماية وصيانة الانظمة العشائرية في تلك المنطقة، للعراق الذي يطمح لبناء مستقبله ببناء قاعدة ناضجة لتطور اقتصادي ونمو اجتماعي يعتمد بصورة جوهرية على رؤية عقلانية تريد تاسيس كيان اقتصادي واجتماعي قوي ومتماسك ويؤسس لبناء ديمقراطي يحقق المواطن داخله كيانيته الحقيقية؟.
بالمقارنة التاريخية بلحظ ان هناك تفاوت نوعي بين مستويات البنية الحضرية يفصل بين بلدان الخليج والعراق. مع ان بلدان الخليج ادخلت عناصر تحديث واسعة وعميقة في بلدانها لكن هذا التحديث لم يستجلب لمجتمعاتها الحداثة، مما ابقى هذه المجتمعات تعيش في انساق سياسية وادارية مغلقة وبنوع من التحجر الاجتماعي فهي موحدة الشكل للفرد في كل شيء حتى في اللباس. من غير ان يمنع ذلك، بطبيعة الحال، من الاقرار ببعض الفوارق النسبية وبدرجات مختلفة فيما بين هذه البلدان كما نلحظ بعض مستويات التغلغل الحداثي في المجتمع الكويتي والبحريني وبدرجة اقل منهما في قطر والامارات.
اما العراق فمع غلبة وكثافة سيطرة الثقافة العربية في الوعي العراقي الا ان المجتمع العراقي كيان مركب ومطعم من عناصر غنية ومتمايزة عن المجتمعات العربية الاخرى التي هي الاخرى لها خصوصياتها وجذورها المتعددة المشكلة لشخصيتها الوطنية. والشخصية الوطنية العراقية مشحونة بكم غير قليل من الغنى والتنوع. فتعدد العناصر الثقافية من دينية وقومية- رغم الميل القسري للتقوقع وحلحلة الارتباط العضوي هذا من قبل عناصر وفئات داخل المكون الجماعي العراقي- اغنى ويغني خصائص الشخصية الوطنية العراقية ويجعل افقها الحضاري مفتوحا على مديات عميقة تهيء لها الاستعداد على تقبل قيم الحداثة اكثر من مجتمعات الخليج اسيرة التركيب القومي والديني والمذهبي الاحادي وهو من الامور التي ادخلتها في دوامة اللهاث وراء خصوصية اصيلة تفهم التنوع والتجدد بالهجانة والانحراف.
عليه لايجدينا نفعا ان يتشكل رفاهنا على اسس مغلوطة وبعلاقات وروابط تحبط تطلعاتنا وامالنا. لكن ذلك لايعني الابتعاد عن هذه البلدان وهذا التجمع بل العكس فمن الضروري جدا الاقتراب وبناء روابط وتثميرها ولكن بطريقة تجعل للعراق دور في وضع وتحديد شروط هذه العلاقة من منطلقات الواقع الوطني العراقي، لان الانضمام للمجلس سيعني الالتزام بخططه الامنية والاقتصادية وهذا سينعكس على نوع القرار الوطني العراقي ويؤثر في مضامينه.
العراق، كما اي بلد او كيان جغرافي- ثقافي اخر، بحاجة الى محيطه والى تنظيم علاقة متوازنة به والدفع باتجاه تصفية الاثار السلبية التي لحقت بالعلاقات بهذا المحيط من اثر التركة الثقيلة للنظام الفاشي ولجميع الاخطاء التي عاشتها المنطقة بل مطلوب من العراق ان يلعب دورا ايجابيا، وهو مؤهل لذلك، في اعادة تنظيم وترتيب العلاقات في داخل المحيط العربي وفي ومع دول الجوار على اساس المصالح الوطنية المشتركة بعيدا عن الدعاوى والهستيريات الايدلوجية والشعاراتية ومن غير المس كذلك بالثوابت الوطنية العراقية بعد بناء هذه الاسس والثوابت بطريقة سليمة وبجهد وطني جماعي مشترك ياخذ بنظر الاعتبار مصالح الوطن العراقي بجغرافيته والمواطن العراقي بكل تنوعه الثقافي والديني والقومي بمنطلق اساسي عنوانه حرية الوطن واستقلالية القرار.
ان البديهية الحياتية التي تقول بان ادراك الحقيقة يتطلب شيء من الوقت يمكن اعتمادها معيارا لتاسيس موقفنا كعراقيين ازاء مامارسه معنا العرب من جفوة وانعدام للتفهم لمصائبنا ولمواقفهم الهابطة والخاطئة حول علاقتنا بالنظام البعثي الفاشي وصمتهم المخزي ازاء بربرية النظام البعثي الهمجي ومنتوجاته من المقابر الجماعية، فمن مصلحة العراقيين كما هو من مصلحة العرب ان تدرك الحقيقة ويعاد ترتيب الاولويات وان تزال غشاوة سوء الفهم والتفاهم القائمة والتي ندرك جميعا ان لها اسبابها المتنوعة وان يعاد تاسيس علاقاتنا بمحيطنا وباسس جديدة وسليمة لكي لاتتكرر الماسي، فتصحيح الاوضاع يجب ان يكون شاملا ويمتد الى المحيط الخارجي لاننا لايمكننا، كما كل الشعوب الاخرى، ان نعيش منعزلين ولايجب ان يصيبنا الانكفاء وان تغلبنا العاطفة وشعور الغبن فنقيم العوازل مع الاخرين ونكرس مشاعر العداء فيما بيننا.
ليكن توجهنا هو الانفتاح على الجميع ومنطلقنا الاول هو مصالحنا الوطنية ولكن من دون السقوط في النفعية والانتهازية وضيق الافق فنتحول الى مجتمع اناني يسعى فقط الى اشباع حاجاته على حساب مواقفه الانسانية بمعنى يجب ان يقيم مجتمعنا ودولتنا اسس علاقاتهما وتحالفاتهما على احترام قيم التضامن والايمان بوحدة المصير البشري وان نكون مجتمعا منفتحا يسعى لدور حضاري في الحياة.
السويد
10-07-2003