تتناقل الاخبار وبطريقة مبالغ بها، حسب بعض وجهات النظر، اخبارا عن اعمال مسلحة محدودة يسميها الاعلام العربي والدعاة لها مقاومة ويطلق عليها من يعارضها باعمال عنف محددة ومعروفة المصادر والغايات. ولكل طرف من هذه الاطراف، الداعي والمعترض، مسوغات لتوصيفه الذي يعتمده في تقييم حجم ولون هذه الاعمال المسلحة.
يعتبر الطرف المؤيد والمشجع لهذه المقاومة ، وهم بعض الفضائيات العربية المشكوك في صدقيتها ولها سوابق تورط مع النظام البعثي السابق وبعض الكتاب والمثقفين العراقيين ممن ارتبطت اسماءهم وجهاتهم باطروحات قريبة من فكرة المصالحة مع النظام البعثي او تاييد طروحات الدفاع عن الوطن طيلة مراحل الازمة العراقية، يعتبر هؤلاء، وبنسب متفاوتة المغالات، ان هذه الاعمال هي مقاومة يقوم بها الشعب العراقي ضد الاحتلال الامريكي للعراق وانها ليست من بقايا فلول النظام السابق كما يطلق عليها الطرف الاخر، ومن غير ان يكترثوا لاي اجراء تشريحي يحلل طبيعة هذه المقاومة او نوع القوى السياسية اوالعنصر البشري المنفذ لها وماهية دوافعه واهدافه. ويدينون اي اعتراض او توصيف اخر لهذه العمليات ويحيلونه الى مرجعية واحدة ومبرر واحد هو الارتباط بالمشروع الامريكي. ويذهب بعض هؤلاء في نقاشه وهجماته على الطرف الاخر برفض نسب هذه المقاومة الشعبية، حسب تعريفه، الى قوى النظام واعتبار هذا هدية مجانية وتنازل لهذا النظام في نسب هذا الفعل الوطني اليه، متناسين في تلك الحالة الوجه الاخر لهذه الفكرة او الاطروحة وهو ان نسب هذه الاعمال الى الشعب العراقي ودمغها بالاعمال المقاومة هو بذات الوقت هدية مجانية للنظام البعثي او بقاياه لاضفاءها صبغة الوطنية والجماهيرية على اعمال يفترض الكثيرون انها اعمال تخريب ومحاولة لخلخلة الموازين لصالح عودة النظام اولاجل فرض شروط اكثر مناسبة لصالح افراده في عودتهم للحياة الطبيعية.
الطرف الاخر، وهو متعدد الجهات والمشارب والخلفيات وزوايا النظر، الامر الذي يمنحه صدقية اكبر او يقربه اكثر من النظرة الموضوعية لتقييم الوقائع والظروف المحيطة بها، يعتبر ان هذه الاعمال هي ليست فقط من بقايا اتباع النظام وانما محركة ومدعومة من قبل جهات راديكالية متطرفة كتنظيم القاعدة ومجاميع من الاصوليين الاسلاميين واتباع المذهب الوهابي، والبعض يذهب اكثر فينسبها الى ابناء المذهب السني.
الحقيقة ان الطرف الاول ينطلق في توصيفه وتقييمه لهذه الاعمال من معايير رغبوية واسقاطية فيعتمد بذلك على الشعار والهتاف واللغة الاحصائية الجامدة التي لاتوصل الى جوهر العوامل والعناصر المحركة لهذه الاحداث. ويطلق معادلة عاطفية تتنافى مع حرارة الواقع وحيوية حراكه ويفسر الامر بالبداهات فيلجا الى المخزون التاريخي القريب، اغلب الاحيان، لتسويغ اطروحته مقيما ترابطا افتراضيا قوامه المعادلة القريبة من النزعة الغريزية في فهم التناقض: احتلال- مقاومة. فحسب هذا التصور ما ان يقوم احتلال حتى تتفجر مقاومة ضده تلقائيا غاضا النظر عن مبررات هذا الاحتلال ودوره الايجابي في تخليص الناس من كابوس قمع وهمجية انعدم نظيره في التاريخ ولا كيف ينظر الناس اليه اوكيف يتعامل معه الساسة والمثقفون. فاللحظة التاريخية التي قام بها هذا الاحتلال هي لحظة معقدة واستثنائية فرضت على العراقيين ان يقروا، فرحين او حزانى لافرق، بانه احتلالا تحريريا ان جازت هذه التسمية. وهذا لايقوله او يثبته انا او غيري من الناس بل تثبته الوقائع.
الاعتراض المنطقي على هذا الطرح والقائل بان المقاومة هذه لايمكن او يجب ان تصب بالضرورة في صالح بقايا النظام المنهار هو اعتراض واقعي وصحيح، لكن الان والان بالذات هذا الشكل من المقاومة غير مقبول موضوعيا حيث لم تتوفر له بعد كل المستلزمات الضرورية ولم تتهيء له لا العقول ولا النفوس بالاضافة الى انه وحسبما ساحاول ان اعرض بعد قليل لايمثل في شكله الحالي واهدافه المضمرة باي شكل من الاشكال راي وتوجه الشعب العراقي.
حين نريد ان نعرف من هي هذه القوى التي تقوم بالعمليات العسكرية علينا ان نتبع طريقة منطقية في الكشف عنها ولنبدا اولا بالبحث داخل القوى السياسية التي كانت في معارضة النظام الفاشي المنهار فسوف لن نجد اي حزب سياسي او تنظيم ما رفع شعارا او نادى بالعمل العسكري او حتى ابدى تاييده له. وهذه الاحزاب في عمومها متنوعة الارضيات والايدلوجيات من علمانية، يسارية وقومية، ومن مختلف القوميات العراقية، الى احزاب وتنظيمات دينية الخ.
ولم نعرف حسب الانباء والمعلومات المتوفرة عن اي تنظيم سياسي كان ينشط او له وجود في الداخل واعلن الان المقاومة. وبهذا السياق لايمكن اعتبار مايقوم به انصار الصدر مؤخرا انه يصب في اطار المقاومة للاحتلال بقدر ارتباطه بنزعة هذا التيار الى الهيمنة واحتكار تمثيل الشيعة سياسيا وفقهيا في العراق بضغط من وسواسه العصابي في الدولة الدينية، وردة فعل على عدم حضوره داخل هيكل مجلس الحكم الجديد.
كذلك نعرف جميعا ان المراجع الدينية الشيعية لم تصدر اي فتاوى ولم تحبذ العنف ولامواجهة الاحتلال في هذه الظروف وهذا يفسر نسبيا الهدوء الذي يعم المناطق الجنوبية او المناطق التي يسكنها الشيعة كمدينة بلد مثلا. واستباقا للامر اقول ان ابناء السنة بعيدون عن هذه الاعمال الا في حدود ضيقة ويمكن الاستدلال على ذلك ان مدينة الموصل التي تقطنها غالبية سنية لم تقم باعمال مقاومة، ويسكن البصرة الكثير من ابناء هذا المذهب فلماذا لم يقاوموا اذا كانت هذه المقاومة خاصة بالمذهب السني مطلقا؟.
واذا ظهرت في الايام الاخيرة دعوات متشددة من ائمة المساجد السنة للمقاومة ورفض التعاون مع مجلس الحكم فان ذلك ارتبط بصورة اساسية برد فعل على تشكيل مجلس الحكم العراقي وكاحتجاج من منطلق طائفي ضيق لوجود نسبة اعلى للشيعة في هذا المجلس.
رغم ان نقد رموز المذهب السني لشكل المجلس وتركيبته سليم الا انه كلام حق يراد به باطل.
نلاحظ ان الطرف الرافض لاعتبار هذه الاعمال مقاومة يستند في رفضه هذا على تحليل عام لطبيعة هذه الاعمال والى اماكن انتشارها والى بعض المعلومات الوثائقية التي كشفت عنها وسائل الاعلام وتتعلق بتعليمات حددها النظام السابق لاعوانه ينشرون بموجبها الفوضى بعد سقوط النظام اضافة الى التحليل الرئيسي الذي يشتمل على معرفة بعقلية النظام ورؤوسه المدبرة التخريبية والتآمرية.
البقعة الجغرافية التي تركزت فيها العمليات العسكرية< تكريت والرمادي> تعرف تاريخيا بانها ركيزة النظام العائلية والقبلية وكان النظام قد شكّل، من ابنائها بصورة اساسية، النواة الصلبة لاجهزته القمعية، وصارت هذه المناطق مأوى لافراد النظام وراسه الهاربين، مستغلين، بالاضافة الى روابطهم الخاصة في ابناء تلك المناطق، التقاليد العشائرية التي تفرض على ابناء هذه القبائل حمايتهم فاستثمروا تلك الخصائص لتلك المناطق ليحركوا فيها ومنها فعاليات لعرقلة الحياة ومنع اي استقرار او هدوء.
ومما يؤكد هذه الافتراضات حول الطابع التخريبي لهذه الاعمال هو طبيعتها التي لم تقتصر على ضرب القوات الامريكية بل امتدت الى محاولة ضرب مقرات بعض الاحزاب العراقية ومراكز الشرطة ومحطات الكهرباء وغيرها من المنشآت الخدمية لزيادة التذمر والاحتقان والفوضى ولاثبات عجز قوات الاحتلال والادارة العراقية العاملة معهم في السيطرة على الاوضاع.
بذات الصدد ولتاكيد ارتباطات الاعمال العسكرية تلك بجهات ليست لها صلة بالشعب العراقي نشر في الايام الاخيرة خبر عبر قناة العربية الفضائية يؤكد الشكوك القديمة الراسخة بنشاطات تنظيم القاعدة في تلك المناطق باعتراف هذا التنظيم بمسؤوليته عن الاعمال العسكرية في العراق. كذلك تؤكد المعلومات المعلنة والانباء حتى قبل سقوط النظام البعثي ان هناك مجاميع من المتطوعين العرب تنشط داخل العراق ضد الامريكان غالبيتهم، ان لم يكونوا جميعا، من تيارات الاصولية الاسلامية.
رغم بعض المحاولات هنا وهناك لنفي العلاقة والرابطة بين الاعمال العسكرية هذه ومن وراءها بالنظام السابق وشخص رئيسه الا ان بعض الدلائل تؤكد العكس فمثلا ظهر شريط مصور لمجموعة تطلق على نفسها <جيش العراق> يظهر فيه ثلاث افراد يحملون اسلحة خفيفة وقرآن وخلفهم كانت صورة لصدام حسين. كذلك اصرار ابنا هذه المناطق- تكريت والرمادي- على الاحتفال بمناسبات النظام كعيد ميلاد صدام او يوم وصول صدام والبعث الى السلطة في 17 تموز. بالاضافة الى التاكيدات المتكررة من قبل ابناء هذه المناطق، عبر تقارير وسائل الاعلام، على حبهم لصدام . طبعا في هذا دلالات تبعد اي رابطة بين فعل المقاومة وبين الروح الوطنية والرفض للاحتلال كاحتلال.
ثم هناك ماهو اهم وهو اصطدام نشاطات الجيش الامريكي في البحث عن افراد النظام ورؤوسه والمقاومين مع الطبيعة العشائرية والدينية المحافظة والمتزمتة لابناء هذه المناطق فصعد من ردات الفعل وخلط الاوراق. يقول احد ابناء تكريت لمراسل احدى الفضائيات بتذمر : ماهذا؟ لاول مرة في حياتنا يحدث ان تقتحم بيوتنا وتفتش.
كلامه صحيح وان هذا التصرف مزعج ومشين لكنه يجهل او يتناسى ان هذه الاعمال- الاقتحام والمداهمات- كانت تحدث بشكل دائم في مناطق الجنوب والشمال من قبل قوات امن النظام البعثي وبصورة اكثر قسوة واذلال واهانة ودون اي مراعات لاي عرف انساني او اجتماعي او اخلاقي ودون اي امكانية لاعتراض او احتجاج. على الاقل هو امتلك حق ان يعترض على ذلك علنا وفي وسائل الاعلام.
من دواعي البحث المجدي في اصول هذه الاعمال هو معرفة ماهيتها لاجل ان يفهمها المواطن والمثقف ليحدد موقفا عمليا سليما منها وبنفس الوقت لتوظف في الاطار السياسي العام لمواجهة تداعيات الاحتلال الامريكي. ومن الضروري ان يكون هذا التشخيص لطبيعة هذا الفعل نابعا من رؤية موضوعية تغلب الحقائق والوقائع كما هي، مبعدا، قدر المستطاع، الرغبات والنوايا الخاصة لاثبات وجهات نظر سياسية او فكرية افتراضية وبعيدة عن الواقع ستؤدي، ضمن ماتؤدي اليه، الى نوع من الرؤية القاصرة والشوهاء لمعطيات الواقع ومآلاته وبالتالي تعطل وتربك الوعي المعرفي وتغلّب هذر الشعارات على الفهم. ولهكذا خطأ طبعا انعكاسات عملية ستوصل الى المزيد من الالام واستنزاف للدماء والطاقات التي نحن بامس الحاجة اليها الان. وكاني باصحاب الدعوات الساذجة والتحريضية هؤلاء بشعاراتهم وعباراتهم التي تصلح لمنتسبي حركات الكشافة المدرسية وليس لجيش للمقاومة، لم يشبعوا بعد، او لم يتعضوا، من الدماء التي سالت من العراقيين طيلة اربعين عاما فتراهم يرفعون شعارات، وبلغة تهريجية< ربما ليس اعتباطا تسمية البغداديون للمهرج بالشعّار القريبة من لفظة الشعار> يحرضون ويتاجرون، وهم جالسون في منافيهم المترفة يكورون كروشهم ومؤخراتهم، بالشباب العراقي الذي يجب ان تنصرف كل الجهود والطاقات لتنمية قدراته وخلق اجواء مناسبة لتوفير حياة طبيعية له لايكون فيها الانسان تابعا وعبدا ورهينة لشعار فارغ وساذج او رغبة في صنع امجاد باهتة.
السويد
20-07-2003