|
رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عيتاني
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1807 - 2007 / 1 / 26 - 12:01
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"سيرة ذاتية – موضوعية حول موقعي في بلدي"، هو العنوان الفرعي الذي كان حسام عيتاني اختاره لكتابه "هويات كثيرة وحيرة واحدة"، قبل أن يستقر هو أو الناشر (دار الساقي، 2007) على صيغة أقصر، وأرشق: "سيرة لبنانية". حمل الكتاب جديدا أسلوبيا بمزجه التحليل "الموضوعي" في متن كتابه وجوانب من سيرة شخصية وعائلية بضمير المتكلم في مدخليه، التمهيدي الذي شغل والده، محمد عيتاني، موقع الشخصية المحورية فيه، وشاءه المؤلف توطئة لتعريف ذاته، وتاليا تحديد الموقع الذي يتكلم منه؛ و"مدخل جديد" في نهاية الكتاب، بطلاه هو ابنا المؤلف نديم وريان، ربما أراد منه القول إن الحكاية اللبنانية تلتف على ذاتها، راسمة بتعاقب الأجيال دائرة تفضح سذاجة ونفاد صبر الحائرين من أسرى الوقت. لم يبدد حيرة الكاتب بوفرة هوياته غير وجه وليده الأول: هنا عرف "واحدا من تفسيرات رموز الدائرة التي نبدأ السير من نقطة فيها ثم نعود إليها. نولد ونكبر ونعطي الحياة من يأتي بعدنا فيولد ويكبر...". ومن وراء مدخلين شخصيين، ربما رغب عيتاني أن يقول: هذه "تعييناتي"، ما أقوله متلون بها من كل بد، لكن بسطها أمام أعينكم يبيح لقولي عن هويات لبنان أن يطالب لنفسه بقسط من الموضوعية. ولعل تعريف الذات والموقع وإدماج عناصر منتقاة من السيرة الشخصية، وقد كان إدغار موران قبل سنوات رأى أنها سمات قفزة معرفية تتخطى "الموضوعوية"، تكتسب في حالة لبنان قيمة خاصة. وأصل القيمة هذه هو بالضبط المسألة التي تحير كاتبنا، أعني تعدد الهويات وصلابتها، وما تتسبب به من تشوهات معرفية وسياسية وأخلاقية، لا يسع الدارس النزيه أن يغفلها أو ينسب إلى نفسه براءة غير مفسرة منها. عرضها للناظرين هو "النهج" الأسلم إذن. بيروتي، مسلم، سني، وابن لأب شيوعي قبل أن يغدو هو نفسه شيوعيا لبعض الوقت في ثمانينات القرن العشرين. هذه تحديدات لا تكتسب دلالتها العامة إلا من تقابلها مع تحديدات وهويات أخرى في لبنان. ويمكن القول إن متن الكتاب منسوج من هذا التقابلات: مدينة/ ريف، مسلم/ مسيحي، سني/شيعي ودرزي وماروني..، شيوعي/ كتائبي وتقدمي اشتراكي و"حزباللهي"... يتعهد عيتاني لقارئه بأنه سيحاول رسم "المسارات المتعرجة التي يتخذها نشوء هوية وطنية لشعب الجمهورية اللبنانية"، ما من شأنه أن يجيب على "السؤال المعذب واللذيذ في الوقت نفسه: من نحن؟". وعبر أربعة فصول متفاوتة الحجم يبين "أن ستة وثمانين عاما مضت منذ إعلان "لبنان الكبير" كانت حافلة ليس بما يقرب حاملي الجنسية اللبنانية بعضهم من بعض (...) بل إن الكثير مما فعله اللبنانيون أو فعله الآخرون لهم، كانت نتائجه تصلب الهويات الفرعية الطائفية"؛ تصلب لم يندر أن وضع "الهوية الكلية" موضع تساؤل كما هو معلوم. يعرض الكاتب لقارئه عناصر تاريخية واجتماعية واقتصادية وجيوسياسية للوحة لبنانية غنية يرسمها بدأب، لكن المحور الأساسي لكتابه هو ثنائية لبنان وطوائفه. فالهويات الكثيرة التي يصنع تحيره بها سيرته اللبنانية هي هويات طائفية لا تقف مترصدة لبعضها فقط، بل هي تجعل "اللبنانية" هوية لا تكف عن التشكل والسيلان. وربما تنبعث الحيرة من واقع أن إرادة الكاتب الذاتية للتحرر من الطائفية لا تجد لها سندا في الواقع الذي يعيشه في وطنه، ومن أنه، في الوقت نفسه، لا يستطيع تقبل هذا الواقع أو الاكتفاء بازدراء انتظامه طائفيا. ويمكن القول إن ثنائية لبنان/ الطوائف تحمل تبريرها في واقع البلد اليوم، الواقع الذي لا يوفر حركة مقاومة فعالة للطائفية يمكن أن يستند إليها المرء من أجل نقد مقاربة الكاتب. ولعل أشد ما يثير جزع العقل والإرادة، حيرة الأول وشلل الثانية، هو أن الفوضى التي تنجم عن اصطراع وتناتف الهويات، وهذه مبادئ منظمة للجماعات وضامنة لثباتها ومقاومة لفعل الزمن كما يقول المؤلف، هي اشد ضروب الفوضى استعصاء على التنظيم وامتناعا عل الاستقرار ومقاومة لفعل الزمن. فحرب الهويات تنزع بصورة ثابتة إلى اكتساب صفة الإطلاق والميل نحو التمادي في الزمن والرهان على محق الخصم الذي يكمن شره في ما هو، أي في صميم هويته. إلى ذلك، يقول المؤلف، إن وجود لبنان في منطقة التوازنات الكبرى بين الإسلام والمسيحية أو الشرق والغرب، يضعه عمليا على خط الحروب الأهلية المتكررة، ما يتكفل بتجديد شحن الهويات اللبنانية بطاقة لا تنضب على التنازع والمواجهة. ***** ككل الكتب الجيدة، لا تغني إشكالية الكتاب عن قراء متمعنة فيه. اختار عرض فقرتين ممتعتين. تحت عنوان "العلم يتطفل على لبنان" ينتقد حسام عقيدة الفرادة الممتنعة على العلم، بما فيه الإحصاء والتصنيف. ولا نخرج على مقاصد الكاتب إن قلنا إن العلم يدخل التعدد والنسبية والتاريخية على ما يراد له أن يكون جوهرا وحدا ثابتا متماثلا مع ذاته في كل وقت. فالعلم لا يقبل زعم الهوية تجانسا وثباتا كاسرين للنظر. بالمقابل، الهوية تطالب العلم بأن يبرر نفسه أمامها، أو تجنح إلى تكوين علمها الخاص (على شاكلة أسلمة الحداثة أو أسلمة العلوم الاجتماعية، مثلا). على أن الكاتب يقيم علاقة بين "استحالة فهم لبنان عقلانيا" وبين "الصعوبة الخارقة في حكم هذا البلد والحفاظ على قدر معقول من الاستقرار السياسي فيه". غير أننا نميل، بالأحرى، إلى أن وراء عقيدة الفرادة التي تخرج لبنان عن نطاق المعقول إرادة رفع صيغة سياسية بعينها خارج النقاش والمساءلة عن شرعيتها، هي تلك التي عصفت بها الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1989. أمر آخر، يستحق استقصاء بدوره، شرعية أوضاع ما بعد الطائف والأشكال الإيديولوجية لصد المساءلة عن شرعيتها. نعرف شكلا واحدا على الأقل من هذه، اسمه "المقاومة". في فقرة بعنوان "الحرب السعيدة" يبدد عيتاني "بكائيات" تدعي أن اللبنانيين انجروا إلى الحرب على غير رضا منهم، وأن غرباء هم من ورطوهم فيها. يؤكد الكاتب أن اللبنانيين ذهبوا إلى حربهم مبتهجين، وأنهم رأوا فيها مخرجا من واقع فقد إمكانات تطوره السلمي. ويمضي إلى حد القول إن الحرب حملت مسحة خلاصية عند يساريين ومسلمين ومسيحيين ويمينيين، وكانت في شهورها الأولى احتفالا أو "عيد بربارة" كبيرا. ومن خبرة شخصية متواضعة، فإن تبديد أساطير البراءة بعرضها على تفاصيل التاريخ ووقائعه هو خطوة تمهيدية لا بديل عنها لمقاربة نظام الطائفية نقديا. ***** يبني الكاتب متن كتابه على حوار مع أطروحات حوارية بدورها للبنانيين من أمثال أحمد بيضون وحازم صاغية ووضاح شرارة وجورج قرم وإيليا حريق وكمال الصليبي، فضلا عن ميشال شيحا وشارل مالك ومهدي عامل وغيرهم. حيال هذا الحوار المركب لا أخفي، كسوري، شعورا بالحسد. اللبنانيون يروون حكاياتهم بألسنة متعددة (كثير مما كتبوه نشر أولا بالفرنسية أو الانكليزية) وأساليب متعددة وذكاءات متعددة. حكايات مصقولة أكثر وأكثر، مثيرة للتفكير والتأمل أكثر وأكثر، ومفتوحة على حكايات أخرى... تشكل بمجموعها المتجدد الحكاية اللبنانية الكبيرة التي لا تنتهي. هذا هو ما يبقي الأمل بلبنان حيا. وإنما على وعد هذه الحكايات بالمثابرة على السرد سيتاح يوما نقد مقاربة حسام عيتاني لتعدد وتصلب هويات لبنان. و قرب نهاية كتابه، كأنما واعدا باستئناف السرد، يرى سارد هذه السيرة اللبنانية أن من التعسف القول بأبدية الانقسام الطائفي في لبنان، وباستحالة "إقامة دولة تتمثل فيها مصالح أكثرية مواطنيها، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والجهوية". ويأخذ على لبنانيين يثابرون على الشكوى من استحالة إبعاد "الإثم" الطائفي عن المجال اللبناني أنهم يتجاهلون تغير "الإثم" هذا بتغير السنين. فالهوية اللبنانية "ما زالت قيد التشكل وهي عرضة لكل التأثيرات الآتية إليها من عالم تعصف به عوامل الاضطراب". تحدثتُ عن حسد: أحسد اللبنانيين لأن حيرتهم تدفعهم إلى رواية سيرتهم، إلى السرد وحكاية وطنهم وتأويله، فيما لا يستطيع السوري سرد حكايته لأنه ممنوع من الحيرة، أو بالأصح من نقل حيرته إلى مجال عام "يعتصم" اليقين وحده فيه (كما في لبنان الآن؟). بالفعل لا يكاد يجد المرء غير عدد ضئيل من الكتب بأقلام سوريين تتحدث عن سوريا الراهنة، وتستعيد تاريخ تكونها. ترى، كيف يمكن لوطنية سورية معافاة أن تتكون دون سرد السوريين لحكاية بلدهم، ودون محاولة كتابة تاريخه؟ لكن ربما ينبغي أن نكون قادرين على الانفصال عن بلدنا و"نسبنته" حتى نستطيع أن نتحدث عنه. أي ينبغي أن نكون قادرين على مساءلة المعاني والمؤسسات والسلطة والمكونات الاجتماعية حتى نصير ذواتا قادرة على الحكي والسرد، وصقل حكاياتنا ونسجها على بعضها. برواية سيرته اللبنانية، يسير حسام عيتاني على طريق قد يؤدي إلى إنقاذه من حيرة هويات لا يرتضيها، وقد يفضي به إلى تأليف هوية عليا، لبنانية، تستوعب التعدد المحير دون أن تأتسر له.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
-
حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
-
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الإنترنت وحال العالم الافتراضي في سوريا
-
في أصل -الممانعة- ونظامها وإيديولوجيتها ..وازدواج وجهها
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|