سننطلق من تشظّي التكوينات الماضية التي كانت تعبّر عن اليسار (الماركسي الاشتراكي)، وانهيار المفاهيم والتصورات التي كان يحملها، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. وبالتالي سنؤكد على سيادة الضبابية والشك والتفتت.
لكننا معنيون بإعادة بناء اليسار، نتيجة أهمية دوره الواقعي، حيث سيبدو أن هذا الدور هو رافعة مرحلة مقبلة، وأساس السعي لتحقيق التقدم والنهوض، وكذلك مواجهة الاستبداد والاحتلال.
وأهمية هذا الدور نابعة من جملة عناصر، يمكن لليسار أن كونها، كما يمكن أن يكون الأكثر تأهيلاً فيها، أولها، ممكنات «الحيوية» النظرية التي يستطيعها، مما يسمح بالاغتناء النظري والوضوح، وتلمّس مشكلات الواقع، وربما يفضي الحوار الجاد إلى إعادة بناء المفاهيم والتصورات، وهي المسألة الهامة والحاسمة التي تؤسس الرؤية الضرورية لأي عمل يساري. وثانيها، أن طيف اليسار الواسع يمكن أن يقود إلى تأسيس «كتلة» كبيرة وفاعلة، تستطيع أن تملىء فراغاً طال وجوده، واسهم في أن تلعب قوى وحركات أخرى الدور الذي هو في الواقع دور اليسار. وثالثها، أن اليسار قادر على أن يطرح مشكلات الفئات الشعبية الفقيرة والمضطهدة، وأن يدافع عنها، لأن هذا الدور في أساس وجوده و«تميزه»، ومبرره الأساس. كما أنه قادر على أن يطرح الأسس الضرورية للصراع ضد النمط الرأسمالي العالمي والمهيمن، من أجل «فتح الأفق» لتحقيق التطور المحلي المحتجز نتيجة تلك الهيمنة. وبالتالي فإنه القادر الآن على تأسيس مشروع نهضوي عربي، من أجل تحقيق المرحلة القومية الديمقراطية المؤجلة منذ زمن طويل. وهو الآن يجب أن يكون المؤسس لمواجهة «الزحف الاميركي» الذي أصبح إحتلالاً سافراً في العراق، واحتلالاً «مموهاً» في دول الخليج العربي، والذي بات يتمدّد لدول عربية أخرى، ربما بالشكل ذاته (العسكري الاحتلالي) أو بأشكال أخرى مختلفة.
وبات يشكّل مع الوجود الصهيوني (المدعوم من قبله، والذي يشكل جزءاً عضوياً منه) قوة السيطرة، و«المشروع البديل» المدّمر للوجود العربي، والمجهض لمطامحه.
وبالتالي فإن لليسار دوره الأساس في تحقيق التقدم والديمقراطية والتوحّد القومي العربي، وحل مشكلات الأقليات وتكوين الاقتصاد «المتمحور على الذات» في ظل الاجتياح العنيف للأسواق من قبل الشركات الاحتكارية الإمبريالية، وفرض «الوحدة الاقتصادية» المتمثلة بالسوق الواحد قسراً وبالعنف والحرب.
لهذا فإن معنى اليسار يتحدد بالاستناد الى أربعة مستويات هي: أولاً هل يمكن تحديد اليسار دون تحديد رؤيته العالمية وبالتالي دوره في الصراع العالمي؟ هنا يتحدّد الموقف من النمط الرأسمالي كنمط مهيمن، ومن ضرورة تجاوزه. إننا ـ من جهة ـ إزاء السياسات التي تمارسها ـ اليوم ـ القوة المسيطرة في هذا النمط، ونقصد الدولة الأميركية، القائمة على الحرب والتدمير والاحتلال من أجل تأسيس «نظام إمبراطوري» عالمي، تتحكم عبره في الرأسماليات الأخرى، كما بمجمل شعوب المعمورة، لتنهب عبر احتكار الأسواق (لتشغيل رأسمالها، وتعميم سلعها)، وكذلك عبر احتكار المواد الأولية. وهذا الدور هو الذي إستثار عشرات ملايين البشر في المراكز الرأسمالية، وفي بقية العالم. وأعاد طرح الشعارات المناهضة للرأسمالية ولعولمتها، والمؤكدة على عالم إنساني عادل ومتكافىء. ونحن هنا ـ من جهة أخرى ـ إزاء عالم «ما بعد الرأسمالية» أو إزاء البديل الذي يؤسس لعالم أكثر إنسانية ومساواة وتكافؤ وعدل.
ثانياً: هل يمكن أن يكون لليسار معنى دون أن يطرح على ذاته هدف التقدم إذن؟ هنا نلمس المشكلات الواقعية، ونشير إلى الأهداف التي على اليسار أن يحملها. وإذا كان الهدف العام يتمثل في تحقيق التقدم ودخول الحداثة، وتمثل «منجزات العنصر» العلمية/ التقنية والفكرية/ السياسية، فإن المشكل الاقتصادي يبقى أساسياً هنا، حيث ليس من استقلال حقيقي (حتى ضمن عالم متفاعل وموّحد) وليس من ارتقاء في الأفكار والبنى والتكوينات، وكذلك ليس من نزوع حقيقي نحو الوحدة القومية، دون السعي لتجاوز البنى الاقتصادية التقليدية القديمة، وتجاوز الطابع الريعي، والهامشي في الاقتصاد، وبالتالي الانتقال من التوظيف في «القطاع الثالث» حسب التسمية المتعارف عليها أي قطاع التجارة/ الخدمات/ المال، إلى التوظيف في القطاعات المنتجة، أي في الصناعة والزراعة. إن تأسيس «قوى الإنتاج» مسألة أساسية في سياق تأسيس تكوين حداثي، لأنها مفتاح تحقيق التحديث والعصرنة.
واليسار هو حامل هذا المشروع، وهو المعبّر الحقيقي عنه، كما أنه القادر على تفهّم آليات تحقيقه، ومشكلات هذا التحقق. وربما كان هو المبرّر الأساسي لوجوده كيسار، ومفتاح مجمل تصوراته الأخرى. إذن، اليسار هو حامل مشروع التقدم والحداثة.
ثالثاً: وهل يمكن أن يكون لليسار معنى دون أن يكون المدافع عن مصالح الفقراء، وعن طموحهم لصوغ حياة كريمة، إذن سيكون اليسار في عمق الصراع الطبقي معبّراً عن الطبقات الشعبية، المناهضة للاستغلال والنهب، والساعية لتأسيس مجتمع يحقق حياة أفضل، حيث يلغي اضطهادها، ويوفر العمل والأجر المناسبين، ويحقق الضمان الاجتماعي، وضمان الشيخوخة وحق التعليم.. الخ. فاليسار مناهض للاضطهاد والاستغلال، والعنصرية والتمييز واضطهاد المرأة، وهو يسعى لتأسيس نظام سياسي يحقق ذلك. لهذا عليه أن يعمل لأن يكون المعبر عن الطبقات الفقيرة، وأن يستند إليها في سعيه لأن يتشكّل كقوة سياسية فاعلة، تكون قادرة ـ عبر إندغامها بتلك الطبقات ـ على أن تؤسس بديلاً حقيقياً.
اليسار يرتبط بالعدالة، وبهذا فهو حركة كل المُضطهَدين والمنبوذين والمظلومين.
رابعاً: واليسار هو المعبر الحقيقي عن الديمقراطية. هو _أو يجب أن يكون ـ القوة الأشد تمسكاً بالديمقراطية، وبالنضال الديمقراطي، وبتحقيق المهمات الديمقراطية. حيث العدل يستلزم المساواة، أي العدل السياسي، كما أن «الديمقراطية الاجتماعية» تستلزم «الديمقراطية السياسية». وإذا كانت المصالح تفرض على الرأسمالية، التعامل الانتقائي بمسألة الديمقراطية، فإن الديمقراطية هي جزء جوهري في مصالح اليسار، وهي التي تضفي الانسجام على مجمل برنامجه، وإذا كان يحمل مشروعاً للتقدم فإن الديمقراطية في صلب هذا المشروع، مادام مشروعاً نهضوياً تحررياً وإنسانياً.
في هذا الإطار تقبع حدود الطيف اليساري، واستناداً إليه يتحدد معنى اليسار، وبالتالي دوره وفاعليته. وانطلاقاً منه يمكن التأسيس عبر الحوار، وأولاً من أجل إعادة صياغة المفاهيم والتصورات، والرؤى والآمال.
لكن انهيار المفاهيم وسيادة الضبابية والشك تفرض البحث والحوار في قائمة طويلة من القضايا، لأن بناء اليسار سوف يكون ممكناً حينما يتعمق الحوار ويطال كل القضايا الضرورية، وبالتالي يفضي إلى «خلق فضاء» يعبّر عن رؤى اليسار، ويحدد مطامحه ويشير إلى أهدافه. لهذا فإن إعادة بناء التصورات مسألة أوَّلية (أي ذات أولوية)، وإن كانت لا تغني عن السعي لتشكيل كتلة لليسار تحاول أن تلعب دوراً يعيد «ملء الفراغ». لكن لا يسار دون رؤية، خصوصاً مع كل الاختلاط الذي شاب المفاهيم طيلة عقد تسعينات القرن الماضي وبداية هذا القرن.
مما يفرض طرح العديد من القضايا للحوار بهدف إغناء التصورات وتعميق الرؤية.
1) انتقادات عنيفة طالت الماركسية طيلة السنوات العشر الماضية، وسحابة من الشك طالتها كلياً، أو طالت مفاهيم مختلفة فيها. هنا ينطرح السؤال الآن: هل لازالت الماركسية صالحة كإطار نظري أم لا؟ وإذا كانت هناك ضرورة لإعادة النظر فما هي المسائل التي يجب أن يعاد النظر فيها؟ وأولاً وأساساً عن أية ماركسية نتحدث؟ الماركسية التي عرفناها (أي الماركسية السوفياتية) أم الماركسية التي لم نعرفها (ماركسية ماركس)؟ وهل هناك فعلاً ماركسيتان؟ لكن ما هي الماركسية؟ هل كانت إجاباتنا على هذا السؤال صحيحة، أم أننا لم نستطيع وعي كنه الماركسية؟ وإذا كنا نشير إلى «نصية» حكمت الوعي الماركسي عندنا فما هي علاقتها بكل إشاراتنا السابقة؟
2) إننا إذن بصدد الماركسية. بصدد تحديد مدى صلاحيتها ككل، كما بمدى صلاحية مفاهيمها، لتحديد ما بقي وما إنتهى ما هو ضروري فيها وما هو عرضي. ولتلمّس هل هي مكتملة أم أنها لا تكتمل؟ هل هي مغلقة أم منفتحة؟
كما أننا بصدد تحدد مدى أهميتها لنا، مدى أهميتها كقيمة تحليلية ومدى أهميتها كرؤية.
2) ولقد أفضى انهيار النظم الاشتراكية إلى رفض، أو التشكيك في الاشتراكية كطموح وحلم، وليس كتصور طرحته الماركسية وجرى تطبيقه في ما يقرب من نصف العالم، مما أظهر بأن الرأسمالية هي فعلاً «نهاية التاريخ» كما حاول منظرو الرأسمالية التعميم.
فهل لازالت الاشتراكية هي حلم البشرية؟ وهل لازلنا نستطيع طرحها كبديل ممكن؟ إذن ما هي مشكلات التجربة الاشتراكية؟ كيف تطورت ولماذا انهارت؟ ولماذا ـ كذلك ـ قامت على أكتاف نظم إستبدادية؟ وهل انتهت بالفشل المريع فعلاً، أم أنها حققت تقدماً في مسيرة التطور البشري، خصوصاً للأمم التي انتصرت فيها؟
بالأساس من أي منطلق ننطلق ونحن نعمل على تقييم التجربة الاشتراكية؟ هل من أفكار ماركس حول الاشتراكية (تلاشي الدولة والطبقات..)؟ أم ننطلق من الواقع، الواقع الروسي والصيني...الخ؟ وبالتالي هل حققت تقدماً بالقياس إلى الواقع السابق لقيامها، أم أنها «خرجت» عن منظومة ماركس؟
3) إذا كانت الديمقراطية قد غابت عن التجربة الاشتراكية فهل لأن الماركسية ضد الديمقراطية، أو أنها «خارج اهتماماتها»، أو لأنها هي بالذات تؤسس لنفي الديمقراطية وتشرعن الاستبداد. ثم وبعد انهيار الاشتراكية، هل أصبحت الديمقراطية هي الهدف الوحيد (المركزي) الملّح؟ أو أنها مدخل (أو المدخل الضروري والجبري لتحقيق مجمل الأهداف الأخرى. أو أنها هدف ضمن الأهداف الأساسية وتخضع أولويتها لطبيعة الصراع العام، ولوضع حركة اليسار ذاتها.
لقد أصبحت الديمقراطية هي الغاية منذ انهيار المنظومة الاشتراكية (مرتبطة بالرأسمالية كخيار اقتصادي). فما الذي يميّز اليسار إذن، إذا تبنى تصور الليبرالية الجديدة، وأسس مفاهيمه إنطلاقاً منها؟ قاطعاً باستحالة الربط بين الديمقراطية والماركسية الاشتراكية. فهل نستطيع إعادة الربط، وإعادة بناء خيار التقدم على أساس ديمقراطي؟ ثم ماذا نعني بالديمقراطية: نظام سياسي؟ منظومة علاقات؟ ومن يقيمه: نحن أم «السلطة» ذاتها؟
4) وإذا كان انهيار المنظومة الاشتراكية قد جلب العولمة، عبر سعي الرأسمالية لتأسيس «نظام عالمي جديد»، قامت على «حرية السوق» و«السوق العالمي الواحد»، وبالتالي تخلّي الدولة عن دورها الاقتصادي، سواء الحمائي أو الاستثماري، ومن ثم تكريس التنافس كقانون وحيد. فهل فتحت العولمة أفق تطور الأمم المخلّفة (المتسمة بغياب قوى الإنتاج الحديثة، خصوصاً الصناعة)؟ هل عممت «قوى الإنتاج» عالمياً، كما تعمم السلع والرأسمال (وتمنع تعميم العمل)؟ أم أنها تزيد في تهميش تلك الأمم، وفي تدمير ما بني خلال سنوات الحرب الباردة، عن طريق فرض اقتصاد السوق، وبالتالي المنافسة غير المتكافئة؟
ومن ثم هل لازال مفهوم «القطع» مع السوق الرأسمالية مسألة ضرورية وأساسية وحاسمة..؟
هل التطور ممكن خارج «السوق العالمي» أي خارج النمط الرأسمالي، أم أن في ذلك استحالة؟ وبالتالي هل أن السيطرة على مفاعيل الاقتصاد العالمي محلياً أم ضروري من أجل فتح أفق التطور في ظروف مؤاتية (لأنها خارج منافسة غير متكافئة، وموازين مختلّة..)؟
ما يسود هو أن العولمة تطور، وأن المنافسة ضرورية من أجل التطور، فهل نستطيع وزن هذه المسائل؟
5) وبالتالي نعود إلى البحث في الأفكار التي كانت سائدة قبل الانهيار، والتي تنطلق من مفاهيم «فك الارتباط» و«التمحور على الذات». ومن ثم ـ وبالأساس ـ نعود إلى البحث في الدور الاقتصادي للدولة، هذا الدور الذي لفظ خلال «مهرجان» انهيار الاشتراكية، واعتبر خطيئة فظيعة. لكن هل من الممكن، وفي إطار الاختلال المريع في تراكم الرأسمال (يمكن النظر لرأسمال أغنياء العالم، ولميزانيات الشركات الاحتكارية لملاحظة ذلك). وكذلك في الخبرة (تراكم عقود طويلة من الخبرة العلمية و الصناعية)، وأيضاً في اتساع الأسواق، هل من الممكن في إطار المنافسة أن تنشأ صناعة، أو تتطور قوى الإنتاج؟
حتى توظيف الرأسمال الخاص، هل يحتاج إلى حماية، وهل يمكنه أن يوظف في الإنتاج دون ذلك، نتيجة سهولة منافستها في إطار سوق عالمي مفتوح. ومن ثم هل يقبل الرأسمال الخاص، بالتوظيف في الإنتاج مادام سوق التوظيف في الاستهلاك (التجارة/الخدمات/المال) أسلس وأكثر أمناً. وبالتالي من الذي سيوظف في قوى الإنتاج إذن؟ أليست الدولة هي المعنية بذلك (وأقصد هنا الدولة الشعبية)؟ وإذا لم تستثمر كيف يمكن للاقتصاد أن يتطور، ويزداد التراكم الرأسمالي، وبالتالي ينفتح الأفق لتحسّن الوضع المعاشي للطبقات الفقيرة؟
المسألة الأساسية هنا تتمثل في أن عالمية النمط الرأسمالي، وتطوره الهائل، احتجز التطور في الأطراف، مما جعل الدور الاقتصادي للدولة مسألة مصير، حيث عليها أن تلعب دوراً حمائياً، للتقليل من المفاعيل السلبية للنمط الرأسمالي في إطار العلاقة مع السوق الرأسمالي. كما عليها أن تلعب دوراً استثمارياً لكي تطور قوى الانتاج.
هل يؤسس ذلك للاستبداد؟ ربما، لكن بدل أن ننساق إلى حلّ يكرس التخلّف، علينا أن نصيغ الصيغة التي تزاوج بين دور متزايد للدولة في الاقتصاد، وتكوين ديمقراطي للسلطة.
6) ثم هناك الوجود الصهيوني، والآن الاحتلال الاميركي. لقد تمحور الصراع في الإطار الداخلي للدول العربية، رغم التهديد الصهيوني، الذي استخدم كفزّاعة لفرض الاستبداد. وأفضى ـ بالتالي ـ إلى ميل القوى المعارضة إلى التركيز على الداخل. وهو ما أفرز الموقف الذي يركّز على الديمقراطية. والآن، يسير الصراع في سياق جديد/ قديم، حيث أصبحت السيطرة الأميركية أمراً واقعاً بعد احتلالها العراق، وبالتالي مدّ سيطرتها، وتعزيز الوجود الصهيوني.
هل نعود لطرح مسألة الاستقلال، كما إلى اعتبار المسألة الفلسطينية مسألة عربية بامتياز؟ ألسنا بحاجة لإعادة طرح المشروع التحررّي العربي في إطاره القومي الديمقراطي؟ أليس من مهمات اليسار أن يسعى لبلورة هذا المشروع، وأن يعمل على تحقيقه؟ وبالتالي أن لا يقع في الخطأ التاريخي الذي حكم الحركة الشيوعية العربية، وجعلها تتجاهل أن تحقيق هذا المشروع هو من مهماتها هي بالذات، وأن نجاحه متوقف على دورها وليس على أيِّ شيء آخر.
لكن هل نستطيع تحديد الهدف من هذا الحوار أكثر من الحوار ذاته؟ هل هو حوار فكري، أم سياسي؟ ذو هدف بعيد أم ذو هدف آني (راهن)؟
ربما تكون الإجابة المنطقية هي أن الحوار لن يكون ذو هدف آني بكل تأكيد. لكنه ليس ذو هدف بعيد أيضاً.
حيث يكمن الهدف في تشكيل تجمع لليسار من أجل:
* تنشيط الحوار و«منهجته» بهدف بلورة تصورات تخصّ اليسار اليوم. الهدف هنا هو إعادة بناء التصورات.
* تشكيل كتلة يسارية (من أفراد وأحزاب ومجموعات) لكي تلعب دوراً سياسياً يملأ الفراغ الموجود واقعياً، نتيجة تفتت وتلاشي اليسار بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
الهدف إذن، هو حواري عملي (وإن كان في الحدود العامة). مادامت المسألة تتعلق برؤية استراتيجية ودور راهن.
لهذا يمكن الانطلاق من توافقات أولية، تشكّل الحدّ الأدنى الممكن الآن، هي التالي:
1) الانطلاق من رفض النمط الرأسمالي، كنمط استغلالي اضطهادي ونهّاب. ورفض الآليات التي تفرضها الرأسمالية العالمية راهناً تحت عنوان: العولمة.
2) العمل لتأسيس بديل لهذا النمط، يزيل الاستغلال و الاضطهاد والنهب، والتمييز والعنصرية، ويؤكد قيم العدالة والمساواة والتكافؤ ويحقق التقدم. هذا البديل هو الاشتراكية.
3) العمل من أجل التعبير عن الطبقات الفقيرة والمضطهدة، بالدفاع عن مصالحها، والعمل معها من أجل تأسيس حياة أفضل.
4) التأكيد على ضرورة تحقيق التطور الاقتصادي الاجتماعي (القائم بالأساس على بناء الصناعة وتحديث الزراعة وتحقيق الثورة التكنولوجية..)، والانطلاق من ضرورة أن تلعب الدولة دوراً أساسياً في ذلك دون تجاهل الرأسمال الخاص الذي يعمل على التوظيف في القطاعات الإنتاجية والقطاعات التي تخدم عملية التنمية (التعليم، البنى التحتية..).
5) الانطلاق من أن التقدم والتحديث يفترضان الديمقراطية، سواء كأساس للعلاقات في المجال السياسي، أو للعلاقات في المجال الاجتماعي، وسواء كرؤية لطبيعة السلطة السياسية. وبالتالي فهي هدف حقيقي، يجب أن يكون جزءاً جوهرياً في مشروع التطور.
6) الانطلاق من أن الماركسية هي منهجية، وأداة تحليل وتجاوز المنطق النصيّ الدوغمائي الذي حكم الماركسيين، وكذلك انتقاد الاتجاهات التي تتعامل معها بهلامية.