أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مثنى حميد مجيد - قراءة في مذكرات الشيخ حسن البنا ، عن الحرمان والحرام والحب الذكوري















المزيد.....


قراءة في مذكرات الشيخ حسن البنا ، عن الحرمان والحرام والحب الذكوري


مثنى حميد مجيد

الحوار المتمدن-العدد: 1806 - 2007 / 1 / 25 - 12:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لقد أحسن فعلآ الشيخ حسن البنا بإعاة تدوينه لمذكراته للمرة الثانية ملبيآ نداء عقله الباطن ، بعد أن فقدت مسوداتها بسبب الظروف الصعبة للعمل السياسي وملابساته وتردده في إعادة الكتابة ، إذ ترك لنا وثيقة حقيقية في السياسة والتنظيم والإقتصاد الجنسي ، يتمتع الجزء الأول منها بثراء خاص حيث يستعرض نشأته وصباه وعلاقته العاطفية الحميمية بصديقه أحمد السكري ، التي أثمرت في تأسيس التنظيمات الأولى لحركة الإخوان المسلمين نهاية عشرينيات القرن الماضي.وتدعم المذكرات ، بجلاء يصل درجة الإستعراض ، النظريات الحديثة في علم النفس ، وبالأخص إستنتاجات واراء عالم النفس الألماني الدكتور فلهلم رايخ في أنماط تصريف وتحول الطاقة الجنسية وصلة الكبت بالعصاب وأفكار التطرف الديني والقومي والعرقي والصوفية والزهد.
حين لا تجد الطاقة الجنسية والعاطفية منفذآ لها للتفريغ والتصريف والتجلي بشكل طبيعي تتخذ طرقآ بديلة منها إحداث تحول نوعي تدريجي ، في بنيتها أو ماهيتها وهويتها ،أو طريق اخر ، وله صلة دينامية بالأول ، هو في البحث عن أنماط بديلة وتعويضية للتفريغ الجزئي أو الكلي من شحنتها المكبوحة.ولنقرأ ما كتبه حسن البنا نفسه في إشارة بليغة الى هذه الحقيقة في إجابته لموضوع مادة الإنشاء لإمتحان العام النهائي ـ 1927 ـ لتخرجه من دار العلوم في القاهرة حين كان في سن الحادية والعشرين من العمر.
ـ وأعتقد كذلك ان النفس الإنسانية محبة بطبعها ، وأنه لا بد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها فلم أر أحدآ أولى بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي فأوليته محبتي ، واثرته بصداقتي ـ.ثم يضيف.
ـ كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها ، وطالت فروعها ، واخضرت اوراقها ، وما بقي الا أن تثمر ، فكان أعظم امالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان ، خاص ، وهو اسعاد اسرتي وقرابتي ، والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت لذلك سبيلآ ، والى اكبر حد تسمح به حالتي ، ويقدرني الله عليه. وعام ، وهو أن أكون مرشدآ معلمآ...ـ ص 53
ان الأسرة هنا ، الزوجة ، المرأة تأتي في مرتبة ثانوية مقارنة بالصديق الوفي الحبيب للشاب اليافع المتخرج ذي الحادية والعشرين.وفي كل المذكرات لا نجد غير سطرين فحسب يشير بهما ، في مرور عابر ، الى زواجه.والزواج عمومآ عنده مؤسسة واجبة لإنتاج الذكور.ويذكر ممازحة لأحد زملائه في دار العلوم مع أستاذهم الذي تأخر زواجه لظروفه المعاشية كما يخبرهم ـ فأحرج الأستاذ وقال ، هل أنت متزوج ؟ نعم وولدي يجيء معي كل يوم الى مدرسة البنين الأبتدائية ، فأدخل مدرستي ويدخل مدرسته ، وانتهى النقاش بضحك الزملاء ـ 45ص .
إن الحضور العاطفي للمرأة معدوم إلا في في حالة واحدة إستثنائية تظهر فيها المرأة الأم بحنانها وحرصها على إبنها حين يواجه بقسوة من أحد الذكور ، وهو زميل كان يشاركه السكن مع بعض الطلاب أثناء مكوثه في القاهرة لأداء إمتحان القبول في دار العلوم حين يصب زجاجة من صبغة اليود المركزة على وجهه وعنقه بدافع شعوره بالغيرة من حسن البنا الذي يتفوق عليه رغم صغره سنآ ، ويذكر أن السيدة الوالدة أبت إباء شديدآ إلا أن تنتقل العائلة من المحمودية الى القاهرة.
كان حسن البنا ، المولود في 10 أكتوبر 1906 ، الطفل الأول لعائلة من الطبقة المتوسطة ذات الإنحدار الفلاحي ، تتألف من أب وأم وخمسة أولاد وبنت هي أصغرهم .وكان والده ، وهو من علماء الدين العاملين ، حرفيآ يزاول مهنة تصليح الساعات ، التي أخذها الإبن عنه وأتقنها.ويبدو من المذكرات أن الحالة المعاشية الجيدة نسبيآ للأسرة قد أتاحت لحسن طفولة وصبا مريحين خاصة وأنه الولد البكر للأبوين.وقد ساعدته شخصيته الإنبساطية المنفتحة على المجتمع ، وملكاته العقلية الممتازة ، في إيجاد وسط إجتماعي حميمي ترعرع فيه تمثل في حلقات الصوفية انذاك ، التي يمكن إعتبارها متنفسآ وحاضنة لصبي موهوب وثري المشاعر لرفده بالمعارف التقليدية وتوفير المتعة له بقدر ما تروضه وتدربه على كبح جماح تلك المشاعر وإخضاعها وتحويلها.وفي عودة الى ما كتبه في إمتحان الإنشاء ، يصف نفسه في إشارة الى جسده هكذا ـ جسمآ تعود الخشونة على ضالته ، وألف المشقة على نحافته ـ ص53. إن الخشونة والمشقة هنا لا يمكن تفسيرهما بظروفه المعاشية المريحة نسبيآ بل بالمعاناة الطويلة في مواجهة حاجات الجسد والعاطفة ، بالكابح الإجتماعي الذي يقف في مسار تلبيتها أو تفريغها.عبارة كهذه لا يمكن أن تكون طارئة أو عابرة أو إنشائية يدرجها حشوآ شاب صغير في ورقة امتحان ، بل هي توثيق مركز لخلفيته القهرية والنفسية والعاطفية ، وانعكاس صادق وعفوي لعقله الباطن.ويعقب معلقآ على موضوعه الإنشائي السابق قائلآ.
ـ والصديق الذي أشرت اليه في هذا الموضوع هو الأستاذ أحمد السكري الذي كان يبادلني هذا الشعور الى درجة انه صفى دكانه وتجارته ، والتحق بالوظائف الحكومية بمجلس مديرية البحيرة حتى يتيسر لي أن أكون بالمجلس فنجتمع على أية حال ، وقد حقق الله هذه الامال بعد حين ، فوظفت بوزارة المعارف وانتقل هو اليها ، وجمعتنا القاهرة بعد طول انتظار ـ ص56.
لم أوفق في الحصول على بينات عن أحمد السكري تمكن من معرفة الفارق العمري بينه وبين حسن البنا لكن سياق المذكرات يؤكد أن أحمد كان أكبر سنآ من حسن بما لا يقل عن ثلاث سنوات.كان حسن البنا في الثانية عشرة من عمره حين التقى أحمد السكري في حلقة ذكر لإخوان الحصافية اثناء مواضبته على حضور درس الشيخ زهران بين المغرب والعشاء فاجتذبتني ، كما يذكر ـ حلقة الذكر بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة ، وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين ـ ص13. ويضيف ـ وفي هذه الحلبة المباركة التقيت لأول مرة بالأستاذ أحمد السكري ، وكيل الإخوان المسلمين ، فكان لهذا اللقاء أثره البالغ في حياة كل منا ـ ص13.
ومن الممكن إعتبار هذه الحلقات الصوفية ذات الإنتشار الواسع في مصر القرن التاسع عشر هي الشكل الجنيني السابق لتنظيم الإخوان المسلمين.والطريقة الحصافية في التصوف هي فرع من فروع عدة للطريقة الشاذلية المعروفة في مصر وتونس والجزائر وتنسب الى المتصوف ـ أبو الحسن الشاذلي المتوفي 656 ه ـ وهي نتاج إجتراري لفكر القرون الوسطى ومن غير الصحيح علميآ وتاريخيآ مقارنتها بطرق متصوفة القرنين الثالث والرابع الهجريين وحتى القرون القليلة التالية لهما فقد كانت تلك الطرق ذات محتوى إجتماعي إحتجاجي وطابع شعبي يساري.من هذه الحلقات الحصافية استمد تنظيم الإخوان العديد من مفرداته وأساليبه كنظام البيعة ولقب المرشد والطاعة المطلقة له وطقوس السرية في عمل الجهاز الخاص الذي تشكل فيما بعد في الأربعينيات. وتؤدي هذه الحلقات ، اضافة الى مهمتها الإقتصادية الرئيسية في ترويج بضاعة كرامات المشايخ ، دور النوادي الصغيرة للصبيان والشباب من الطبقة المتوسطة لإكتساب المعارف الدينية وإنشاء وإنماء الصداقات وتوفير المتعة الروحية عبر عدد من الرياضات كإرتداء الزي الخاص وطقوس دخول المريد وجلسات الذكر الممتعة التي ترافقها الإيقاعات بالصفقة والحركات البدنية والدق على النحاس وتناول الشربتات والشاي والقهوة والقرفة.في مثل هذه الأجواء الحميمية توطدت علاقة الصداقة الروحية والعاطفية بين أحمد السكري والبنا ، ويكتب في المذكرات ـ وفي هذه الأثناء بدا لنا أن نؤسس في المحمودية جمعية اصلاحية هي الجمعية الحصافية الخيرية وأختير أحمد افندي السكري التاجر بالمحمودية رئيسآ لها وانتخبت سكرتيرآ لها ـ ص18. ويذكر أن أحد أسباب تأسيس تلك الجمعية هو لمقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية برئاسة مس ويت التي أخذت ـ تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الصبية من بنين وبنات ـ ص18.هكذا وفي تلك السن اليافعة المبكرة من مرحلة المراهقة حسم البنا أمره بإنحيازه التام لعالم الذكور وأصبح مفهوم المرأة ، كجنس محرم ، يقترن في ذهنه بالمسيحية والكفر والأعمال النسائية والإختلاط بين الذكور والأناث وكل ما يشكل تهديدآ للإله الذكر الذي يشرف على عالمه المستقر الذي وعاه وعرف أسواره وحدوده وترعرع فيه و نشأ وبدأت صورته تتشكل وتترسخ لديه.
وبين عامي 1920 ـ 1923 يلتحق حسن البنا بمدرسة المعلمين الأوية بدمنهور ، في منتصف الرابعة عشرة من عمره ، وهي أقل من سن القبول ، وقد تشبع بالفكرة الحصافية كما يقول و ـ كانت الصداقة بيني وبين الأخ أحمد أفندي السكري قد توثقت أواصرها الى درجة أن أحدنا ما كان يصبر أن يغيب عن الاخر هذه الفترة اسبوعآ كاملآ دون لقاء ـ.وكانت نتيجة امتحان كفاءة التعليم الأولي هي الأول في المدرسة ، والخامس في القطر ليتقدم لأداء امتحان القبول بدار العلوم في القاهرة.ويكتب في المذكرات معبرآ عن تردده وقلقه قبيل إتخاذه قرار التقديم للإمتحان ـ ولم يكن يقلقني إلا شيء واحد هو الشعور بطول الغيبة عن المحمودية ، وفيها الصديق الحميم ، والأخ الحبيب أحمد أفندي السكري ، ولكننا اتفقنا على إنفاذ هذا العزم ، مادام هو الأفضل ثم نتزاور بعد ذلك ونتكاتب والعلم نوع من الجهاد ، علينا أن نضحي في سبيله مهما كانت التضحية عزيزة غالية ـ ص 36 و ص37.
هكذا يعبر حسن البنا ، وببلاغة ووضوح ، عن علاقته العاطفية بأحمد السكري والتي هي تجسيد حقيقي للحرمان من المرأة ويضيف ـ وكنت أكاتب الأخ أحمد أفندي السكري ويكاتبني يوميآ تقريبآ وأزور البلد في فترة الأجازات فأقضيها معه ومع الإخوان الحصافية بالمحمودية وفي ذلك بلاغ ـ ص39.ومما يجب تثبيته ولفت الإنتباه اليه ان حسن البنا الذي دون هذه المذكرات وهو في نهايةالعقد الرابع من العمر وبعد زواجه ، قد ظل محافظآ في إستحضاره الدقيق حتى لأدق تفاصيل علاقته العاطفية مع السكري بروحية ومفردات المرحلة العمرية للصبا والشباب اليافع ولهجتها.
ورغم صغر سنه مقارنة بزملائه في امتحان القبول ، تظهر نتيجة نجاحه ضمن المتقدمين ، لكن العائلة، وكما أسلفت القول ، تقرر الإنتقال الى القاهرة بعد حادثة الإعتداء بصب حبر اليود على وجهه وعنقه من قبل زميل له كان يشاركه السكن.
وعن تلك الفترة من حياته بعد انتقاله الى القاهرة يكتب البنا قائلآ ـ ولم يكن ينقص على إجتماع شمل الأسرة على هذه الصورة إلا عاطفة قوية جياشة ، هي عاطفة الأخوة والمحبة والصحبة في الله بيني وبين الأخ أحمد أفندي السكري ، فقد كنا نتعزى عن هذه الفرقة بأيام الإجازات وبأن مصيرنا في النهاية إلى بلد واحد. وأما الان ونحن نواجه وضعا جديدآ ، فقد يكون من شأنه ألا أعود إلى المحمودية إلا أن يشاء الله ، فذلك أمر له في أنفسنا خطورته يجب أن نطيل التفكير فيه ، وأن نتغلب عليه بكل الوسائل.كانت لنا اجتماعات وليال وأحاديث وجلسات طوال حول هذا المعنى ، إن أحمد تاجر ، والتاجر لا وطن له ، فلماذا لا ينتقل هو الاخر إلى القاهرة ولكن أسرته ما يصنع بها هي لا تريد الانتقال ولا تسمح ظروفها به فما العمل ؟ فكرنا طويلآ ثم انتهينا إلى أن نتخذ من هذه السنة تحربة نرى بعدها ما سيكون.وانتقلنا فعلآ ، وبدأ العام الجديد ، وقضى معي أحمد أفندي بالقاهرة قرابة شهر في أوله ، وعاد الى المحمودية ، وظللنا نتكاتب طول هذه الفترة حتى انتهى العام كسابقه وبدأت الأجازة الصيفية ـ ص40.
ـ وجاءت الأجازة الصيفية الثانية وكان لزامآ علي أن أقضيها بالمحمودية فلا بد من إيجاد سبب للإقامة هناك طوال الأجازة.فعرضت على الوالد أن أذهب لأفتح دكانآ لنا هناك أعمل فيه بنفسي ، كساعاتي مستقل ، لأتمرن تمرينآ عمليآ استقلاليآ على الصنعة. وكان الوالد يعلم السبب الحقيقي ولكنه كثيرآ ما يسلم لي بما أريد ويشعرني دائمآ ثقته بتصرفاتي مما عودني به الثقة بنفسي ولهذا سمح لي بالسفر وأوصاني خيرآ.وسافرت ، وفتحت الدكان ، واشتغلت فعلا بإصلاح الساعات ، وكنت أجد سعادتين في هذه الحياة ، سعادة الاعتماد على النفس والكسب من عمل اليد ، وسعادة الاجتماع بالأخ أحمد أفندي وقضاء الوقت معه ومع الحصافية وقضاء ليالي هذه الأجازة معهم نذكر الله ، ونتذاكر العلم في المسجد تارة ، وفي المنزل تارة ، وفي الخلوات بظاهر البلد تارة أخرى ، والاستحمام في النيل في النهار أحيانآ ، وكانت لي وللأخ أحمد أفندي اجتماعات خاصة كثيرآ ما تستغق الليل بطوله.وكان نزولي في منزله طول مدة الأجازة فكنا لا نفترق في ليل أو نهار ـ ص 41.
وباسثناء الظهور الوحيد للوالدة وحنانها ، لا تظهر المرأة إلا كعنصر معاد للعالم الذكوري وكرمز للشهوة المحرمة والشرك بالإله الذكر الذي يجب أن تتوجه كل حياتنا ومحبتنا له وكل فروض الطاعة المطلقة.ومكانيآ تقترن الأنثى بأوروباالمسيحية والغرب كما في حالة مسز ويث التي سبقت الإشارة لها ، وفي حالات أقل قتامة ، تبدو المرأة كيهودية ماكرة مثل أم شالوم ، سادنة الكنيسة ، يمازحها كونها تتحايل على الله بطقسها السبتي حين تدعوه مع صحبه كل ليلة سبت لأضاءة النور ومساعدتها في توليع النار.
وفي أحسن حالة تظهر كدكتورة يونانية متمصرة تعد له نظارة طبية قبيل يوم أداء امتحان القبول لدار العلوم.وأشد الصور سوداوية تمثلها زوجة أحد كبار ضباط المعسكر الإنكليزي في قناة السويس ، كرمز للفساد الغربي والإباحية والإنحطاط الخلقي والخيانة ، حين تدعو صديقه عبد العزيز علام لبعض الأعمال لتتفرد به في المنزل ـ وتغريه بكل أنواع المغريات فيعظها وينصح لها ثم يخوفها ويزجرها ، فتهدد بعكس القضية تارة ، وبتصويب المسدس الى صدره تارة أخرى ، وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه ـ ص73 لينجح أخيرآ في الإفلات من كيدها الشيطاني.
أما المرأة الحبيبة ، منتجة الحياة ومشعلة الحب الحقيقي ، الغائبة دائمآ في المذكرات فلا تظهر إلا كرمز مشبع بالتراجيديا يفرزه العقل الباطن ، كجنازة ، أضحية لرب الذكور والحرمان والفرح الوهمي ، يسيرون بها ذات صباح مشيعين الى المقبرة.وبعفوية وصدق يصف البنا المشهد قائلآ ـ وتصادف أننا في أحد الليالي ، كان الدور على أخينا الشيخ شلبي الرجال ، فذهبنا على العادة بعد العشاء فوجدنا البيت منيرآ نظيفآ مجهزآ ووزع الشربات والقهوة والقرفة على مجرى العادة. وخرجنا بالموكب ونحن ننشد القصائد المعتادة في سرور كامل وفرح تام. وبعد العودة جلسنا مع الشيخ شلبي قليلآ ، وأردنا الإنصراف فإذا هو يقول في ابتسامة رقيقة لطيفة ؛ إن شاء الله غدا تزورونني مبكرين لندفن روحية ؛ وروحية هذه وحيدته وقد رزقها بعد إحدى عشرة سنة من زواجه تقريبا وكان بها شغفآ مولعآ ما كان يفارقها حتى في عمله.وقد شبت وترعرعت ، وأسماها ؛ روحية ؛ لأنها كانت تحتل في نفسه منزلة الروح. فاستغربنا وسألناه ، ومتى توفيت ؟ فقال ، اليوم قبيل المغرب.فقلنا ، ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل اخر بالموكب ؟ فقال ، وما الذي حدث ، لقد خفف عناالحزن.وانقلب المأتم فرحا فهل تريدون نعمة من الله اكبر من هذه النعمة ؟وانقلب الحديث إلى درس تصوف يلقيه الشيخ شلبي ، ويعلل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه ، فإن الله يغار على قلوب عباده الصالحين أن تتعلق بغيره ، أو تنصرف الى سواه... وعدنا إليه في الصباح حيث دفنا روحية ـ ص 41 و 42.
حقآ إنها قصة أحرى أن تكتب نفسها بنفسها الى درجة أني كنت على وشك أن أرتب الفقرات التي إستشهدت بها من المذكرات حسب ترتيبها الزمني وأتركها للقاريء ، بلا مداخلة أو تعليق مني ، لتكشف هي عن مغزاها ومعانيها بنفسها.إذ ليس صعبآ على القاريء المعاصر ، ناهيك عن عالم النفس أو الناقد المختص ، في ظل ثورة المعلوماتية والعلوم والطب النفسي أن يصل الى جوهر هذه المأساة المؤلمة التي مازالت أجيالنا في الشرق تدفع ثمن إستمرارها كل يوم دما بريئآ وعسفآ ومهانة بإسم الإسلام.ومع ذلك ، يبقى للتحليل الدقيق والعلمي للموضوع ، من قبل كل الأطراف ووجهات النظر المختلفة ، يكتسب أهمية انية وإستثنائية ملحة وأهمية كونية خصوصآ لمن تهمهم حقا محبة الله ومرضاته والإيمان الصحيح به المبنى على أسس الحرية والعلم والتواضع والإعتراف بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة وليس التعسف والإدعاء والظلم.
لقد أحس الشيخ حسن البنا ، وبإلحاح من عقله الباطن بأهمية تدوين مذكراته للمرة الثانية رغم فقدان مخطوطة تدوينه الأول لها ، ورغم عدم توفر الميل لديه للكتابة ذلك لإحساسه الداخلي بأهمية ما يتركه عن حياته فكتبها بصدق وعفوية معبرآ عن هذا النداء الداخلي ـ لا أدري لماذا أجد في نفسي رغبة ملحة في كتابة هذه المذكرات بعد أن أعرضت عن ذلك إعراضآ تامآ على أثر عثور النيابة على مذكراتي الخاصة سنة 1943 ما لقيت من المحقق من عنت وإرهاق في غير جدوى ولا طائل ـ ص7. وإذا كانت السياسة ومشاغلها وأسرارها من مهمات الوعي فإن اللاوعي هو موضع النفس ومهد مكنوناتها وصبواتها وذاكرتها فإذا إشتد ضغط السياسة والحياة اليومية على الأول إستجاب الثاني للإفصاح عن نفسه وهنا تلد الرغبة غير المفهومة والإلحاح الداخلي لتتضح أيضآ أهمية هذه المذكرات كوثيقة شخصية ونفسية وإجتماعية بالغة الأهمية .
وتكتسب جنازة الشيخ حسن البنا رمزية كبرى ، فالسلطات الحكومية التي إغتالته في 1949ـ 2 ـ 12 ببشاعة ولاإنسانية حين حرمته من العلاج ، أو حتى أجهزت عليه بلا شهامة في وقت كانت اصابته في إبطه غير خطرة ، قد منعت أصحابه من حمل وتشييع جنازته الى القبر فحملته النساء ، وهنا يكمن المغزى العميق والتراجيدي في المشهد الكلي لحياته ، بل وحياتنا جميعآ فكأن حضور المرأة في حياتنا البائسة لا يجب أن يتم إلا في أوقات الحزن والمصائب وهي مكللة بالسواد والحجاب.
وحين نقارن جنازة الشيخ المرحوم التي حملتها النساء بجنازة روحية التي حملها الرجال يتبادر الى أذهاننا المغزى الاخر العميق لهذه المفارقة والمشاكلة معآ في المشهد العام لنطرح هذا السؤال ، أليس من الخطأ واللاعدل أن يلتقي الرجل بالمرأة حين يكون أحدهما ميتآ ؟ أليست المعادلة الصحيحة ، الحق ، المعادلة السامية هي أن يحدث هذا اللقاء حين لا يكون هناك موت ، بل حياة ، لأن الله ببساطة ليس رب الذكور ولا رب الأناث ، بل رب الذكر والأنثى ، ويجب دائمآ أن يشغل المشهد بهما سواء في كتب المذكرات أم في الحياة العادية ، وأي إخلال أو عدم توازن أو إجحاف بحق أي من عنصري المشهد لأي سبب كان أو حجة أو زعم بإسم الشريعة ، أي شريعة ، هو تشويه للصورة الكونية العظمى التي أبدعها الخالق وبالتالي هو تجديف حقيقي بحق الله الحي ، ملك الحياة.
..........................
مذكرات الدعوة والداعية.الجزء الأول



#مثنى_حميد_مجيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن المحاربة الباسلة وفاء سلطان والشيخ نهرو طنطاوي
- أيها المتملق الصغير للشاعر الكبير ، الشمس دائمآ تشرق من جبهة ...
- كلمات عن مشنقة صدام وخطاب ليوسف القرضاوي
- مات صدام ، مات الوحش وتحرر الزمن
- أسماء الله الحسنى من منظور ديالكتيكي
- الشيوعي الأول كان ذميآ ياسعدي يوسف
- أشياء منسية
- الكسندرا... ونهاية التاريخ
- اللجنة الثقافية المندائية العليا هي نتاج العشائرية والتزمت
- لا تعتبن على حاكم مشبوه في وطنيته وعراقيته
- أحكام الإعدام تتعارض مع العقيدة الصابئية وأحكام الدستور العر ...
- الشيوعي الأخير ، بين سهام السنيك والشيعيك
- فقراء الصابئة مساكين ليس لهم سوى الله
- ينقرض الطغاة ونحن الصابئة لا ننقرض
- هل يحمل الدكتور محمود المشهداني روح الفنان سلفادور دالي ؟
- حذار من تغيير اسم الحزب الشيوعي العراقي ، حذار من المتصيدين ...
- الدكتور أحمد داوود يقرأ مقدمة الكنزا ربا من قناة الديارالفضا ...
- موقف الخنزير من نظرية دارون وجور بني ادم
- لأجل عيني أحمدي نجاد وتنوره النووي تسفك دماء الأبرياء في لبن ...
- كلمات إعتذار لتنورنا الحبيب


المزيد.....




- كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
- -نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح ...
- الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف ...
- حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف ...
- محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
- لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
- خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
- النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ ...
- أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي ...
- -هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مثنى حميد مجيد - قراءة في مذكرات الشيخ حسن البنا ، عن الحرمان والحرام والحب الذكوري