|
رحيل بيار بورديو ... صاحب الأبحاث الاجتماعية النقدية في السيطرة ورأس المال والعنف والعولمة المالية والحركة الاجتماعية . تجديد نظام السيطرة والقهر وتناسله وكأنهما دهريا ... فكيف لا يسكت داعي القيام عليه
وضاح شرارة
الحوار المتمدن-العدد: 54 - 2002 / 2 / 4 - 09:12
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
الحياة: (العنوان: رحيل بيار بورديو ... صاحب الأبحاث الاجتماعية النقدية في السيطرة ورأس المال والعنف والعولمة المالية والحركة الاجتماعية . تجديد نظام السيطرة والقهر وتناسله وكأنهما دهريا ... فكيف لا يسكت داعي القيام عليه ؟ ) (الكاتب: وضاح شرارة ) (ت.م: 03-02-2002 ) (ت.هـ: 20-11-1422 ) (جهة المصدر: ) (العدد: 14200 ) (الصفحة: 16 )
في مواكب الأسماء الغربية اللامعة، وقد يكون اسم الفرنسي الراحل قبل اثنين وعشرين عاماً جان بول سارتر ألمعها في السماء العربية، جاء اسم بيار بورديو (0391 - الخميس في 42 كانون الثاني/ يناير 2002) متأخراً. وعلي خلاف صاحبه المتقدم وسلفه بربع قرن، سارتر، لم يطل دارس الاجتماعيات الراحل أخيراً في غمامة سياسية وأدبية تعلو علي كل المنازعات. فسارتر، حين أطل علي عالمنا، دخله من بابين واسعين: باب مناصرة الاستقلال الجزائري و حرب تحريرها ، وتسويغ كل الوسائل والذرائع الي استعادة الكرامة والنفس من الاستلاب الاستعماري، وباب الأدب الملتزم أو الجمع بين النازع الي كتابة الأحلام والأهواء الفردية والفتية وبين حمل الأحلام والأهواء هذه علي حال الأمة، وتوقع معالجة أمراضها، أو فرديتها وفتوتها، بواسطة الانخراط في معركة الأمة.
البابان عريضان، علي ما مرّ القول، ولم يكونا ليدعوان الشبان والفتيان الحزبيين والمناضلين، في العقد السادس من القرن العشرين، الي نظر ناقد في شيء من اشيائهم أو ميل من ميولهم. فالحرب علي المستعمر وانتظار مفرد في صيغة جمع (أو نفس فرد مطمئنة في كنف جماعة) كانا أمرين أو يقينين شائعين في صفوف تلامذة الثانويات وطلابها الحائرين بين عمرين ومجتمعين (الريف والمدينة) وتاريخين (غداة الحرب الثانية وعشية الاستقلال)، في عالم أوسع كان، بدوره، يستقبل ما لا عهد له به. أما بيار بورديو فلم يقيض له ما قيّض لسلفه، لا من أشرعة سياسية وثقافية (نفسية) تنفخ فيها ريح مؤاتية ومجمعة، ولا من فنون أدب مسرحي أو روائي تحمل الي القارئ أو السامع، وإلي جمهور الإذاعات المتعاظم، جميلاً جامعة ومانعة تحسم بلمح البصر والسمع المشكلات العويصة والممتنعة.
التلقين والغلبة فهو، أي بورديو، دلف أول ما دلف من باب دعاة حزبيين ضيق، في النصف الثاني من ستينات القرن المنصرم، وكان يومها باحثاً متألقاً في اجتماعيات التربية والتعليم. ولكن اقتصاره علي علمه، وعلي معرفته، والتقاءه، من طريق المصادفة الاجتماعية والتاريخية، حركة الطلاب في جهات العالم الأربع (في 8691 - 9691)، لم يتيحا له الصدارة التي أتيحت لأسلاف له مثل هيربرت ماركوزه، الألماني - الأميركي، أو سارتر، المعمّر صيتاً ودوراً. وفي غضون العقول الثلاثة بين منتصف الستينات ومنتصف التسعينات انصرف بيار بورديو الي ابحاثه ودراساته وتدريسه (انتخب في 1891 الي كرسي الاجتماعيات في معهد فرنسا خلفاً لريمون آرون، والانتخاب هذا يتوج مسيراً علمياً بارزاً ويقر به كثرة الزملاء). فكتب، مع ألمع طلابه وبعض زملائه، في اجتماعيات التربية والمدرسة، وفي اقتلاع العمال المغاربة المهاجرين الي فرنسا وبعض أوروبا، وخص ارتياد المتاحف، ومزاولة الرسم والتصوير الفوتوغرافي (الشمسي)، والاستماع الي المغنين الجماهيريين والعناية بتصفيف الجنائن الخاصة وإعداد الطعام ايام العطل، بأعمال كانت ذريعته الي ما سماه نقد الذوق ، ومزاعمه العامة والمتجردة من الشرائط الاجتماعية، وإلي معارضة نقد ملكة الحكم (أو الأحكام، أو الأقضية) الذي كتبه عمانوئيل كانط في اواخر القرن الثامن عشر. وتناولت اعمال اخري تحدر طاقم الادارة العالي، والنخب الادارية والسياسية والاقتصادية عموماً، من تعليم جامعي موقوف علي الخاصة، ويمتنع علي العوام . وليس ذلك جراء اوامر ونواه معلنة بل من طريق اثبات قيم ومعايير تصنيف لا يقيض إلا للخواص وذراريهم استبطانها وتمهيد السبل إليها. فربط الباحث، مذ ذاك، بين المكانة الاجتماعية وبين السيطرة الاجتماعية. فذهب الي ان كل علاقة وتلقين، أو تثاقف وتأدب بآداب علم أو تقنية أو ذوق ومتعة، إنما هي من وجه آخر ملازم للوجه الحيادي والعملي الظاهر، علاقة إخضاع وإلحاق وغلبة. وجعل من حقول المعرفة والتأدب والتعلم والتذوق ميادين منازعة ومغالبة، غايتها انتزاع المسيطرين الشطر الأعظم من رأس مال السيطرة الرمزي ، في المرتبة الأولي، وقهر المقهورين وتسليط عنف رمزي عليهم. وبني الباحث الراحل مقالاته، التي ذاعت من بعد، في السيطرة، وحقول المنازعة الرمزية والمادية، وفي رأس المال الرمزي (اللغوي والمدرسي والثقافي والمهني...) والعنف الرمزي، علي أركان استقاها من دراساته الميدانية في المدرسة والتلقين والتذوق. فذهب الي ان التلقين يرمي اولاً الي امتثال المؤدّبين والمتلقنين الي علاقة التلقين نفسها، وترتيبها العالم والمتعلم علي رتبتين متفاوتتين، عليا ودنيا، وذلك قبل ان يرمي (التلقين) الي تعليم المتعلم العلوم التي يزعم تعليمه إياها واقتصار عمل التعليم علي تدريسها وتلقينها. والفرق بين الغاية المعلنة وبين ما يسعي فيه التعليم فعلاً (وينجزه او ينجز معظمه) فرق كبير، علي زعم بيار بورديو وتلامذته ومريديه. فالتعليم، مواربة وابتداء معاً، يُخرج ما يعلم (المعلومات) إخراجاً يلازم المعلومات أو العلوم ، ويرتبها علي مراتب ومنازل متفاوتة. فتتقدم طريقة القول، وصيغ العبارة، و أناقة البرهان والاحتجاج، موضوع التعليم أو موضوعاته ومواده. وتحل هذه، الطريقة والصيغ، المحل الأول من العلاقة والحقل التربويين والتعليميين. وتثبتهما الامتحانات والاختبارات والمسابقات والجوائز معايير وأصولاً. فإما يرضي المتعلم بها، ويمتثل لها، فيروح رأس المال (التعليمي والثقافي) الي رأس المال وتعلو مكانة الممتثل، وإما يمتنع المتعلم منها - وبين الرضا والامتناع درجات - فيحظي بنصيب ضئيل من رأس المال الرمزي هذا، يناسب نصيبه من الكسب. ويحصل التعلم والكسب المدرسيان (والاجتماعيان عموماً) هذان من طريق تعلم وكسب أولين يرتقي المتعلم معارجهما وهو يدرج في بيته، بين أبيه ووالدته، وفي أهله. فالتعلم والكسب الاجتماعيان ينشآن، علي هذا، عن التطبع بطبع وطابع، وعن اعتياد عادات تجري مجري الفطرة والسليقة من المتعلم المطبوع. فــإذا بالعادات هذه أصبحت ســكن معتادها ومتعلمها ومكتسبها، علي ما يتردد في الكلمة اللاتينية (آبييتوس) التي يستعملها بورديو، وجعل منها مفتاحاً من مفاتيح قاموسه الرائجة. وعندما تزعم الشهادة المدرسية او الجامعية مجازاة ما يعرفه التلامذة او الطلاب، ومكافأتهم علي علومهم ومعـارفم مكافأة الأسوة الأكفياء، فإنما هي تطرح مواربة من معايير لمجازاة التفاوت، الكبير بين سملتين ثقافيتين بينهما فرق شاسع. فالشهادة تجزي، حقيقة وفعلاً علي زعم الباحث الراحل، ضربين من الاعتياد جرياً مجري الفطرة المتمكنة في حال، ومجري التطبع الضعيف والمضطرب في حال ثانية. ولا ينفك اثرها، ولا تنفك قوة اثر الشهادة في اجتهاد التلامذة وحفز اهلهم إياهم، لا ينفك الأمران لا من غفلة الراسبين عن قواعد التصريف (تصريف العلاقة او المنازعة او اللعبة)، ولا من استبطان الناجحين والمتفوقين العلمَ بهذه القواعد. وعلي حين يكد الكادحون من ابناء الطبقات الدنيا والمتواضعة في سبيل تحصيل لا يبلغ معظمهم إلا اقرب مراحله، يلعب ابناء الطبقات الميسورة حين يدرسون. فهم الوارثون ، علي حسب وسم الكتاب الذي أرسي صيت بورديو (وكتبه مع زميل له هو جان - كلود باسِّرون، انفصل عنه وخالفه الرأي من بعد).
دحض التفاؤل الجمهوري فلا تعليل لإخفاق المدرسة الجمهورية الفرنسية، وهي مدرسة التعليم العام (الرسمي) والإلزامي والمجاني التي أقرّتها الجمهورية الثالثة في 2881، بعد نحو قرن علي إنشائها (يومها)، إلا دخولها المحتوم تحت قانون التوارث الاجتماعي، الرمزي والاقتصادي. وكان هذا النقد للمدرسة الجمهورية، وهي بمنزلة القلب من الإيديولوجية الجمهورية ولروايتها التاريخ الفرنسي الحديث علي مثال طريق أمينة الي المساواة والحرية، موجعاً. فعلي رغم تكرار الأرقام العائدة الي تمثيل الطلاب الجامعيين من منشأ عمالي ومنشأ فلاحي في البيانات النقابية والحزبية اليسارية والوسطية وبعض اليمينية - وهذه الأرقام كانت تحصي نحو 2،3 في المئة من الطلاب من منشأ عمالي (وكان العمال نحو 04 في المئة من اليد العاملة) ونحو 4 في المئة منهم من منشأ ريفي (وكان الفلاحون يعدون نحو 51 في المئة من السكان) - كان يُخلص من التكرير الرتيب هذا الي ضرورة اصلاح التعليم في مراحله الأولي وتوحيد طرائقه، وإلي إيلاء التربية، وزارة ومرافق تعليم وعاملين، الحصة الأساس من الميزانية والانفاق والموارد. فقطع ما أبرزه عمل بيار بورديو (وصاحبه جان - كلود باسِّرون) من رسوخ الفرق والتفاوت في تربة تسبق المدرسة والتعليم، ومن صدور الاثنين عن صوغ قيم العلم والقول ومعاييرهما، قطع الطريق علي شطر من التفاؤل الجمهوري التقليدي، يسارياً شيوعياً (وكان الحزب الشيوعي الفرنسي ينصب نفسه وارث التقليد الثوري البورجوازي وداعية تخطيه او نسخه من طريق الثورة العمالية و السوفياتية ) أم وسطياً يميل الي المحافظة. ولعل هذا النقد الذي وقع في نفوس شطر من الطلاب المتحدرين من بورجوازية كبار التقنيين ( أشراف الدولة علي ما سماهم بورديو نفسه في اعقاب عقدين ونصف العقد) موقع هوي عميقاً، كان من العلل التي حدت جزءاً من هذا الشطر الي القيام، في 8691، علي الجامعة، والمطالبة بـ تدميرها (علي ما ذهب اليه عنوان افتتاحية تصدرت عدد دورية الأزمنة المعاصرة ، لمنشئها جان - بول سارتر). ومهما كان من أمر مقدمات المعالجة ومنهاجها وحلقاتها، تحول الرجل صاحب مدرسة وفلسفة - سعي سعياً حثيثاً في شبك خيوطهما ونسجها نسجاً متصلاً ومحكماً - وغدا، من حيث أراد أم لم يرد، المرجع الرسمي (علي ما لاحظ أحد نقاده) لنقد المدرسة - جهاز الدولة الإيديولوجي الأول والأبرز علي ما استدرك لوي ألتوسير الفيلسوف الشيوعي البارز غداة 8691 - ولمحاولات اصلاحها. وحين ثار لغط شديد، في 8991 - 0002، هز الوسط التعليمي الفرنسي، وكان السبب الاول فيه اقتراحات وزير تربية ليونيل جوسبان، كلود ألّيغر، ودعوته الي توكيل المدرسة بـ تعليم التعلم وليس بتلقين العلوم والمعلومات والمعارف، انقسم المتناقشون من كل المهن الي جمهوريين يقدمون المعارف علي الطرائق، وإلي تربويين يقدمون الطرائق علي المعارف. وتشاطر كل قوم من القومين تهمة خصمه بالعمل علي الحؤول دون اكتساب أولاد الطبقات الضعيفة - وهي لا يزال تمثيلها الجامعي علي المستوي القديم علي رغم بلوغ البكالوريا نحو 07 في المئة من السكان البالغة 81 - 02 سنة، وتناقص حصة هذه الطبقات من السكان عموماً - المعرفة الضرورية لدخول سوق العمل اولاً، وارتقاء درجاته ثانياً. وكان اصحاب بورديو في صف الجمهوريين . وليس هذا طرفة تروي، ولا تدليلاً سهل المأخذ ورخيصاً بعض الشيء، علي انقلاب الرجل او علي انقلاب الأحوال وثبات الرجل علي موقفه النقدي وتمسكه به. فالرجل وضع في القلب من اعماله، علي ما تقدم القول، دراسة شرائط الفهم والعلم والتعليل. فدرس الشرائط الاجتماعية التي تحف صوغ الاجتماعيات (او علوم الاجتماع) وتلابس مزاولة احترافها وامتهانها حرفة من الحرف ومهنة من المهن. وأدخل نفسه طرفاً في الحقل هذا، اي في منازعاته وبلورة قيمه ومعاييره، ولم يستثنها منه، ولم يزعم لنفسه تعالياً عن ضوابطها وقيودها. وكان إذا سئل عن ميوله هو في الحقول التي يدرسها، ويكتب الابحاث فيها، مثل الاغنية والصورة الفوتوغرافية، يجيب: أنظر موقعي المهني والثقافي، وانظر نظيره من وما يفضله أمثالي ومن هم بهذا الموقع، فأنا ذوقي الشخصي هـو ذوق موقـعي. وهو يعزو هذه الحال الي انشاء المجتمعات الحديثة، اي المجتمعات الرأسمالية الليبرالية، رابطاً قوياً بين تفريع الحقول الاجتماعية وتكثيرها واستقلالها بقواعد تصريف متميزة، من وجه، وبين تسليط منطق جامع وواحد عليها، من وجه آخر، يدخلها تحت عباءة سيطرة متمكنة، تنزع علي الدوام منزع الاستبداد والطغيان والانفراد. وتتولي الدولة، علي زعم بورديو، جمع الكثير والمتفرق تحت السيطرة الواحدة، من فوق، علي حين تتولي المدرسة - او هي تولت ذلك قبل ان يخلفها الاعلام علي هذا الدور - ومرافق انتاج رأس المال الرمزي، الاضطلاع بالجمع من تحت ومن داخل (من داخل الاجساد نفسها وامتثالها لـ ثقافة السيطرة ، علي ما سماها ميشال فوكو). وتدور رحي حرب مريرة في النفس الواحدة بين نظر سوسيولوجي ، حقيقي، بصير بوقائع المنازعة والمراتب والتعسف، ولكنه يَشْخص الي الغير ويرتد دون النفس، وبين نظر ايديولوجي ، قوامه الإنكار، ويتناول النفس ويحول بينها وبين إنزالها منزلتها من الحقول التي تلابسها علي ارادة منها او غير إرادة. فالإنكار ركن من اركان الاعتياد وسكن العادات والتطبع والجري علي قواعد التصريف الاجتماعية، وتالياً هو ركن السيطرة الأول. ولعل هذا هو الوجه الهوبسي من مذهب بورديو، او هو وجه الحق الطبيعي منه. فالبشر يدخلون عالمهم الإنسي، او عوالمهم الإنسية من باب التعسف والارسال. فلا دلالة اولي فطرت عليها الاشياء او الدلالات، وتنبه عليها البشر. وعلي البشر في سياقات تأنسهم واجتماعهم ان يبتدئوا المعاني والتخاطب والتوسل (بالوسائل)، علي غير مثال ولا سابق توافق وتآلف و تداع بين الكون ووجدانه الإنساني، علي خلاف زعم هايدغر ومذهبه في علم المكون (السياسي) بما هو مكون (أو انطولوجيته السياسية ، بحسب بورديو). وينزع الإنس الي انكار وضعهم المعاني، واستمرارهم علي هذا الوضع، في احوال اجتماعهم كلها، وهي احوالهم الانسانية. وتماشي العلوم الاجتماعية هذا الإنكار. فتنسب المعاني، وقواعد العمل والتصريف والفهم، إما الي مبانٍ موضوعية خالصة، شأن إناسة كلود ليفي - ستروس، أو الي وجدان يبث المعاني و عدمها في وسط الأشياء والكون المتصل والمغلق من كل الجهات، شأن علم الظهور الانطولوجي (الذاتوي) السارتري. فأراد بيار بورديو وأصحابه تخليص العلوم الاجتماعية من الترجح بين الحدين العقيمين والموهمين هذين. وعقمهما إنما قياسه علي إسهام العلوم الاجتماعية قبل الثورة الرمزية التي اضطلع بها بورديو، علي قول بعض اصحابه ومريديه، في الإنكار الملازم علاقات السيطرة في الحقول الاجتماعية. فأضاف الاستاذ والكاتب والمثقف والناشر (وهذه كلها ادوار اضطلع بها الباحث الراحل) الي الحقيقة العلمية، الاجتماعية والنقدية، قوة علي مكافأة السيطرة، او علي الحد منها، من العسير تمييز حظ الاحتجاج الخطابي فيها من حظ الإنشاء العقلي. واتفق ذلك، في أواخر العقد التاسع، مع تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية، أوروبية وعالمية، كبيرة، طوت معها شطراً عريضاً من قسمات القرن العشرين المعروفة والبارزة، انتاجاً وأسواقاً وحروباً وثقافات واتصالاً. وآذن بؤس العالم في 3991، وهو شهادات عشرات من ضحايا الدهر الجديد والمثخنين بجراحها الرمزية والمادية الي تعليقات بورديو وبعض اصحابه عليها، آذن بتحول استاذ معهد فرنسا وكرسيه الي الدعاوة والتحريض ، علي زعم بعض قدامي اصحابه المنفضين من حوله. والحق ان العقد العاشر هذا، قبل ان ينتصف بحركة اضرابات واسعة في اعقاب ركود اجتماعي ساد عقد ولايتي فرنسوا ميتران ونصف عقدهما، حفز الباحث المتربع في سدة منابر كثيرة، أجاد التوسل بها، علي التدخل ، او علي اضاءة نيران مضادة (أو رد جواب الضوء ، في لغة السيارات وعلاماتها) في المضامير الاجتماعية المضطربة والمشكلة.
الحنين... فكانت البطالة، والعمل الموقت وغير المضمون، وألوان الفاقة الجديدة، والتشرد، والاحباط والقلق، وأحوال المثليين، والسيطرة الذكرية علي النساء، وسلطان الاعلام والاتصالات، وسيطرة التجارة الي الثقافة وأسواق المال علي الانتاج والتسويق والتوزيع، موضوعات العقد الأخير من عمل بيار بورديو ونشاطه العارم، قبل انهياره امام مرض السرطان. وفي هذه الموضوعات والمسائل انتقلت المعالجة انتقالاً جاداً بعض الشيء من الكشف عن عوامل السيطرة، وحربها بعضها علي بعض، وإنشائها الحقول الاجتماعية في الأثناء من طرق الانتهاك والعنف والمساومة والتغيير، انتقلت من هذا الي تسليط الضوء علي العذاب والآلام المبرحة التي تصيب الوجدانات جراء انفكاكها من سكن طبائعها التي أعدت للتطبع والرضا بها، والاضطلاع بأدوارها بواسطتـها ومن طريقـها. فكان هذا الانفكاك مفتاح تعليل بورديو للحركات الاجتماعية المختلفة التي استيقظت في النصف الثاني من التسعينات، وكانت حركة مناهضة العولمة (غير المتقوقعة علي السيادات الاقليمية) تتويجها. ولاحظ بعض من تناولوا اعمال الرجل بالفحص بقاء هذا الانفكاك، في دراساته وأعماله، غير معلل، وعلي نحو الحادثة الطارئة. فماذا جري لكي تنكص الطبائع عن عملها؟ وماذا حل في نظام العلاقات الرمزية، والدولة رأسه، ليخرج عن مداراته وأبوابه وقسماته؟ فكأن حال المجتمعات الرأسمالية استوت واحدة وحال المجتمعات السابقة الرأسمالية (وبورديو يستعيد في هذا المعرض ابواب ماركس وبعض تعليله) في انتقالها المتخلع والمضطرب. فالكلمات والمشاعر والانفعالات والعلل في جهة، والوقائع والحوادث والأطوار في جهة اخري. ولا وصلة بين الواحدة والأخري غير العذاب والوجع. وفي بعض بياناته الأخيرة، ولعل بيانه غايات حركة اجتماعية اوروبية في ربيع 0002 آخرها، يزيح بيار بورديو الستر عن تحول اعماله من حال العلم الي حال التظلم. فهو يصف سياسة القوانين الاقتصادية بنازعها الي نفي السياسة وإخراجها من إهابها وطورها ومن مراقبة الحكومات والمواطنين معاً. فتنفرد القوي الاقتصادية والاجتماعية بالسيطرة بعيداً من الحسبة السياسية والقانونية (الحقوقية) والخلقية. وينصب الكاتب فوق الدول والحكومات والشعوب، وهذه كانت أطر السيطرة القديمة وأصبحت بالية وموضوع ... حنين، ينصب الهيئات الاقتصادية الدولية (مثل منظمة التجارة العالمية) وشبكات الشركات المنتشرة في عشرات البلدان (مثل شبكة الاستثمار المؤتلفة من خمسين منشأة عملاقة علي غرار ديملر بنز وبريتيش بتروليوم ورون بولانك). فينبغي إقرار السياسة، من جديد، علي قرار بمتناول المواطنين والدول، وليس بمنأي منهم. وأوروبا، اليوم، أقرب مأخذ، وأوضح مأخذ، تؤخذ منه السياسة أو تؤتي وتباشر. وعلي هذا فبناء او إنشاء حركة اجتماعية أوروبية هو الباب التي تبعث منه السياسة، اي مراقبة المواطنين والدول الوطنية، في عالم تتسلط عليه هيئات بعيدة تجمع بأيديها ما لم يجتمع من قبل، ولم يعرف، من سلطان ورساميل ونفوذ ودالة، بأيدٍ. ووسائل الاتصال ووسائطه هي التمثيل علي ذلك. والحركات الاجتماعية التي يتوسم المقاومة والثبات فيها تختلف عن الأحزاب والنقابات التقليدية. فأول ما ترفضه هو احتكار الأقليات (النخب) سوس الاحزاب والنقابات. وأول ما تدعو إليه هو المشاركة المباشرة ومن غير وسيط. وهي تستلهم اشكال تنظيم تقوم علي التسيير الذاتي، علي ما يكتب بورديو مادحاً، وتقنع من الجهاز بأخفه، ولا تحول بين المشاركين وبين استعادة دورهم النشط والفاعل بإزاء الأحزاب خصوصاً. اما الغايات التي تسعي هذه الحركات فيها فمعينة وملموسة ومهمة (مثل السكن والعمل والصحة). ونقدم الحركات الاجتماعية، مقارنة بالسياسة التقليدية الحزبية، العمل المباشر، علي خلاف المفاوضة والمساومة البرنامجيتين، فهي واضحة الأفعال، ولا لبس في علاقتها بغاياتها (وكان بورديو شديد الإعجاب بتظاهرات المثليين المجتمعين في أكت - آب ، فتظاهرتهم السنوية كانت وراء إقرار قانون العقد المدني الذي أباح المساكنة ورتب عليه حقوق توريث وضريبة مماثلة للعقود الزوجية التقليدية، والتظاهرة لا تعد إعلان العقد والدعوة الي اقراره). وينص البيان علي شروط الحركة الاجتماعية ودوامها. فإذا بها تكرر ما سبق لحركات الحرية (او الفوضوية) كلها، طوال القرنين الماضيين، ان اشترطته علي نفسها من نفي السطو والتملك، وترك المراتب والمركزية، ورعاية خصوصيات الأفراد والجماعات المتعاقدة. ولكن علي ان تتولي الحركات هذه درء التشرذم والتقوقع علي الخصوصيات والأنشطة المحلية والترجح بين اوقات الركود وأوقات التشنج ... ويدعو بورديو، في بيانه إياه، النقابات الي تجديد عملها ودورها من طريق تبديل المهمات والقائمين بها دورياً، ونقد مثال التكليف والانتداب الثابت وغير المقيد، والقبول بالمقابلة والمقارنة بين وجهات نظر مختلفة. وهذا كله، وغيره مثله، سبق للماويين الفرنسيين في ماضٍ قريب ان دعوا إليه. وكان مثقفون من امثال ميشال فوكو وجان بول سارتر وجيل دولوز وعشرات غيرهم، يزكونه ويساندونه. واستعادت بيانات الماويين ما دعت إليه جماعة إما الاشتراكية وإما البربرية ، في خمسينات القرن المنصرم، ومقالات كورنيليوس كاستورياديس، أحد كتّابها البارزين، دعوة ملحّة تبلورت مذهباً عريضاً في قيام المجتمعات بنفسها وصدور الاجتماعي - التاريخي عن اركان يوجبها علي غير مثال. وكان كاستورياديس يقول انه لا يعدو استعادة بيانات العاميات وحركاتها الأوروبية منذ أواخر القرن السابع عشر البريطاني. والتذكير بهذا التراث لا يذهب الي ان التمرد، او الثورة او الخروج او التقوض، نافلة لا جدوي منها، علي ما ردّ ميشال فوكو، مستفهماً، علي نقّاد مديحه الحركة الخمينية و روحانيتها السياسية . ولكن سؤال كلود لوفور، في تأريخه الثورة الروسية وانقلابها نظاماً شيوعياً كليانياً ثم انهيار هذا النظام، عن تواتر إما انقلاب التسيير الذاتي الي بيروقراطية ساحقة او اخفاق الحركة الاجتماعية وتسييرها الذاتي، وعن علة توتر احد الاحتمالين من دون تبلور احتمال ثالث، يستحق التناول التاريخي الذي أولاه إياه لوفور نفسه، ولم يستوقف لا بورديو ولا أصحابه. ويقود السؤال ربما الي الفحص عن اركان الثورة الديموقراطية و دولتها ، الواحدة علي سبيل المثال الانموذجي، علي ما صنع لوفور وغيره ويصنعون. وعلي ما لم يصنع بورديو.
ہ كاتب لبناني
#وضاح_شرارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تعاني من الأرق؟.. طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
-
ماذا نعرف عن العالم الخفي لمنجم ذهب تديره إحدى العصابات بجنو
...
-
وزارة الصحة اللبنانية: مقتل 4 أشخاص وإصابة 23 في الغارة الإس
...
-
ما هي الدول والشركات التي تبيع أسلحة لإسرائيل؟
-
سلسلة غارات إسرائيلية على منطقة البسطا وسط بيروت
-
تحليل لـCNN: كيف غيرت الأيام الـ7 الماضية حرب أوكرانيا؟
-
هل الدفاعات الجوية الغربية قادرة على مواجهة صاروخ أوريشنيك ا
...
-
كيف زادت ثروة إيلون ماسك -أغنى شخص في العالم- بفضل الانتخابا
...
-
غارة عنيفة تهز العاصمة بيروت
-
مراسلة RT: دوي انفجارت عنيفة تهز العاصمة بيروت جراء غارة إسر
...
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|