خلال مشاركتي في المؤتمر الأخير للمجلس الأعلى للثقافة في القاهرة بين 1و3 يوليو - تموز - الجاري طلب مني إعلاميون شباب بينهم طالب أزهري يعد رسالة جامعية، يتابعون ما أنشره في "إيلاف" العودة إلى توضيح أكثر لكيفية شل النرجسية الدينية للفاهمة العربية الإسلامية التي أبت الاندماج في الحداثة.
النرجسية، كمرض ذهني، هي حب الذات الجنوني الذي يجعل الأنا تحتقر الأنوات الأخري؛ استلهمها علم نفس الأعماق من الأساطير الإغريقية التي تعبر عن رغبات وتخييلات لا شعور البشرية الجمعي. فماذا تقول الأسطورة النرجسية؟ إن نارسيس [نرجس] كان فتى جميلاً افتتن به الفتيات والفتيان دون أن يبالي بحبهم. إحدى الفتيات التي احتقرها دعت عليه فاستجابت الإلهه نمسيس لدعوتها فقضت عليه بالنظر إلى صورته المنعكسة في غدير. كلما نظر إلي صورته ازداد حباً لنفسه. تمكن منه هذا الهوى العقيم فقضي أياماً منكباً على الغدير إلى أن تلاشى ومات. حولته الألهة إلى زهرة: النرجس.
الرسالة: كل رفض للعلاقة بين الأنا والآخر، كل حب نرجسي قاتل.
الانطواء النرجسي على الذات واللا اهتمام بالعالم الخارجي مع إفراط في تقدير صورة الذات الجليلة ( هو في الواقع تعويض لصورة الذات المستبطنة سلباً) هو عرض الإصابة النرجسية.
تجليات النرجسية الدينية الإسلامية عديدة منها حظر زواج المسلمة بغير المسلم "غير المكافئ لها". أما لا شعورياً فيعبر عن الرغبة في نكاح المحارم عبر الزواج من داخل العشيرة ONDOGENE المعروف بين بعض القبائل البدائية التي تحرم الزواج من خارج القبيلة EXOGENE ؛ كما تجلي في تقديس اللغة العربية التي تماهت بالقرآن وهو ما أعاق تطوير رسمها ونحوها وإثراء معجمها بالمصطلحات الغربية علي غرار العبرية التي عبرنت 90 % من مصطلحاتها. العرب، كما لاحظ مالك بن نبي، فتنتهم لغتهم الجميلة فحولوها إلى وثن يعبدونه. مؤخراً أفتى القرضاوي بتحريم كتابة القرآن بغير الرسم العثماني الهيروغليفي والحال أن ابن خلدون حبذ تغييره لأن "الصحابة كانوا أشباه أميين" كما قال؛ ومنها أخيراً نسخ الإسلام لجميع الديانات!
الإعلام والتعليم خاصة الديني يعيدان الإنتاج الموسع لهذه النرجسية. الإعلام بما هو مدرسة بلا جدران يدخل التعصب والهذيان النرجسي إلى كل مكان، كما ينتج التعليم الديني بالتسلسل أجيالاً من المهووسين بنقاء الهوية الدينية مثل هوس النازيين بنقاء الهوية العرقية، كما استولي على النازيين رهاب تمازج القوميات والثقافات بالأمس أصيب اليوم دعاة النرجسية الدينية برهاب تلاقح الإسلام مع الديانات والثقافات الأخرى. النرجسية الدينية تخضع لنفس منطق النرجسية القومية: تحويل التفاوت التاريخي بين الثقافات والقوميات إلى تفاوت طبيعي، جوهراني وأخيراً حتمية سحق العرق الآري "الأعلى" لجميع الأعراق "الدنيا" في النازية وحتمية انتصار الإسلام " الدين الوحيد الحق " على جميع الديانات "الباطلة" في النرجسية الدينية.
باستثناء التعليم الديني التونسي الذي تصالح مع واقع وذهنية وقيم عصره، مازال التعليم الديني، الذي أعد مناهجه و كون المكلفين بتنفيذها الإخوان المسلمون ومن لف لفهم، صناعة تفبرك فقهاء الإرهاب وتحقن أدمغة التلاميذ والطلبة بسعار النرجسية الدينية: "الأديان التي يتبعها الناس كثيرة (..) لكن الدين الحق واحد هو دين الإسلام أما الأديان الأخرى فهي باطلة" ( محمد بن عبد الوهاب "التوحيد" ص 33، الدرس الثالث عشر طبع وزارة التعليم، الرياض) "الأديان الأخرى مهلكة لصاحبها" (نفس المصدر) الإسلام ليس مستقبل البشرية المحتوم وحسب بل مستقبل الجن أيضاً: "العالم كله من إنس وجن يجب عليه أن يدخل في الإسلام ويترك أديانه الباطلة وإلا فان مصيره النار" ( نفس المصدر ص 34 ).
النرجسي يستثمر طاقته الشبقية في جسده، لكنه أيضاً قد يركزها على عضو واحد فقط. كذلك الأمر في النرجسية الدينية فقد تستثمر في الإسلام ككل أو في فرقة منه فقط كما فعل م.ب.عبد الوهاب الذي اعتبر الوهابية هي "الفرقة الناجية" ففي كتابه "منهاج السنة" ( الذي وزعته هذه الأيام، كما قالت د. إقبال الغربي، أستاذة علم النفس بالجامعة الزيتونية، سفارة السعودية في تونس على جميع أساتذة الجامعة وسبق لسفارة المملكة في الرباط أن وزعت فتاوى ابن تيمية على جميع ثانويات المغرب! ترى هل يوجد في وزارة الخارجية خلية مختصة في الدعاية الوهابية ؟) الذي هو في الواقع كتاب للفتنة الطائفية: تكفير للشيعة وتلميح شفاف بتفسيق أول أئمتهم، علي، الذي " قاتل علي الولاية وقتل بسبب ذلك خلق عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكافرين ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة " (ج 3. ص 175) و "إن علياً كان مخذولاً وقاتل على الرئاسة لا على الديانة" (ج 2. ص 203) إلخ.
لا عجب من أن تكتب هذه الشخصية السايكوباتيه، التي هدمت قبور الصحابة وقبر الحسين في كربالاء وقتلت شيعتها بمن فيهم النساء والأطفال، هذا الهذاء النرجسي الإقصائي. المذهل حقاً أن ‘يلقن للأطفال في الإعدادية ليبث فيهم العجز عن الإعتراف بمبدأ الواقع، الإنطواء على الذات، الحب الحصري للذات، الإقصاء الراديكالي للأخر، قيادة الناس إلى الجنة بالسلاسل، الهوس بنقاء الهوية، جنون العظمة، التعصب، الطائفية والإرهاب.
الأطفال والمراهقون سريعوا التصديق. أما عندما يتعلق الأمر بنداء النرجسية الاثنية أو الدينية فالراشدون لا يقلون سرعة تصديق عن أطفالهم. عندما قال شيخ الأزهر "المسلمون أمة من الرعاع" هاجوا وماجو. لكن لو قال لهم "المسلمون أمة السيف والقلم" لداعب نرجسيتهم الجمعية..
لعبت هذه النرجسية في نظري، دور العائق الذهني الذي ساهم في ردع نخب وشعوب العالم العربي عن الاندماج في الحداثة. منذ تحول العرب المسلمون من أمة فاتحة إلى أمة مفتوحة وبدأ الفقه الإسلامي ينطوي على نفسه أكثر فأكثر ويتحول إلى فقه جهادي ضد "الكفار" محرماً التشبه بهم وتقليدهم والتبادل معهم. بلدانهم "دار حرب" لم يعد يسمح للمسلم دخولها إلا بفتوى. قادة الإسلام السياسي _ الجهادي اللاجئون في الغرب برروا لجوئهم إليه بفتاوى. عد ابن تيمية "مخالفة الكفار قصداً من مقاصد الشريعة" طبقاً للقانون النرجسي النمطي: الذات لا تحب إلا ذاتها والمسلم لا يقتدي إلا بالمسلم. "وجوب مخالفة الكفار" أقام حاجز نفسياً بين العربي المسلم والحضارة الحديثة وجعله يستبطن تكفير كل ما أنتجه "الكفار" من مؤسسات وعلوم إنسانية وقيم كونيه وتكنولوجيا حتى غدا كل ما يستورده من خارج العالم العربي يحتاج إلى فتوى تسوغه. القهوة، الحنفية، البرنيطا، الكوكاكولا، التلفزيون، علوم الحداثة، حقوق الإنسان، الديمقراطية..
هذه النرجسية الدينية الهاذية أنتجتها ظروف تاريخية: حروب النبي مع اليهود، الحروب الصليبية، الحروب ضد المغول، الإستعمار الأوربي وقيام الدولة اليهودية. هذان الحدثان الأخيران أحدثا زلزالاً في النفسية العربية الإسلامية فردت عليهما بردين عقيمين: الإنطواء على الذات النرجسية الجريحة وجنون المطالبة بأخذ الثأر. الرد الأول مثلة الإسلام الطرقي الذي فر من المواجهة والثاني مثله الإسلام الجهادي المهووس بأخذ الثأر من "اليهود والصليبيين" لإزالة الجرح النرجسي مهما كان الثمن ولو كان "علي وعلى أعدائي يارب"! الممثل النموذجي لهذا الإسلام الإرادوي، الجهادي والإستشهادي هو "القاعدة"، في العالم، وحماس، في فلسطين و "الدولية الإسلامية" التي تتعاطف سراً مع الأولى وتدعم علانية الثانية. لا يملك أي من هذين التنظيمين هدفاً استراتيجياً قابلاً للتحقيق. هدف القاعدة، كما عرفه الظواهري في كتابه "فرسان تحت راية النبي" هو نشر عقيدة "الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين ومعبوداتهم" أي القطيعة الراديكالية مع الغرب والإنسحاب من الأمم المتحدة واعادة الخلافة الإسلامية. هدف حماس لا يقل عبثية عن هدف القاعدة: "تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب وإعادتها وقفاً على جميع المسلمين في العالم". الدافع الحقيقي الكامن وراء هذين الهدفين الهاذيين هو الثأر ولا شيء غير الثأر. النرجسي الجريح لا تجد الراحة إليه سبيلاً إلا عندما يثأر لكرامته الممرغة في الوحل. الرد السليم على التحدي الغربي كان الاندماج في حضارته لولا استبطان "وجوب مخالفة الكفار". لماذا لم ترد ألمانيا ويابان ما بعد الحرب على جرحهما النرجسي بردين مماثلين لردينا؟ غياب النرجسية الدينية المستبطنة في ثقافتهما المعاصرة. سأل الكاتب المصري، السيد ياسين، مضيفيه اليابانيين عن موقف الدين من سياستهم فكان الرد: "وما دخل الدين في ذلك؟". علمانية كل من اليابان وألمانيا حالتا دون الردود الهاذية عن جرحهما النرجسي. هما قلدتا الغرب واندمجا في حضارته ونحن خالفناه وصارعناه وانغلقنا على قيمه كحلزونه مفزوعة.
إسلام السعار النرجسي، إسلام "مخالفة الكفار" وأخذ الثأر العسكري منهم فقد صوابه بمعني أنه فقد القدرة على طرح المشاكل الحقيقية والبحث لها عن حلول واقعية. "مخالفة الكفار" في اقتصادهم وسياستهم ومؤسساتهم وعلومهم وقيمهم وأساليب حياتهم هو النواة الصلبة للنرجسية الإسلامية السائدة وموكبيها من ماضوية وتعصب وإرهاب..
ما العمل لتحرير الشعور واللا شعور الإسلاميين من "وجوب مخالفة الكفار" و "غزوهم الفكري"؟ هناك إمكانيتان: الأولي تحققت في إيران التي حققت بثورتها الإسلامية نرجسيتها الدينية حتى آخر فانتازم، فخالفت الكفار في كل شيء: حرمت موسيقاهم وقيمهم وأغلقت المؤسسة المدرسية أربع سنوات لأسلمة المعرفة وهكذا، وفي نفس الوقت، تجاوزت نرجسيتها الدينية عبر تحقيقها. فتحرر مسلموها من الحنين إلى دولة المهدي المنتظر بعدما أحبطهم ظهورها فلم يتعرفوا على أحلامهم وأوهامهم في الجمهورية الإسلامية التي حولت بلادهم إلى سجن كبير غلق إيران في وجه الحضارة الغربية أوجد شهية انتهاك المحظور.
شيعة إيران هم اليوم أكثر شعوب العالم الإسلامي استغراباً وعلمانية. وهو ما حصل بدرجة أقل في كل من السودان وأفغانستان الإسلاميتين لكنها كافية لشفاء قطاع عريض من سكانها من الحنين إلى دولة الخلافة الراشدة التي لم يتعرفوا عليها في دولتي حسن الترابي والملا عمر.
الإمكانية الثانية، الأقل ألماً ودماً، تمر بإعادة ثقة العرب المسلمين بأنفسهم بما فيه الكفاية لينفتحوا على الغرب. وكلما انفتحوا أكثر وحققوا تنمية أكثر كلما تعزز إحترامهم لأنفسهم وثقتهم فيها.
إحلال تعليم ديني تنويري محل تعليم النرجسية الدينية السائد هو الطريق الملكي لبلوغ هذا الهدف: اكتساب احترام الذات والثقة في النفس لإقامة الحداد على وجوب مخالفة الكفار والولاء والبراء وآيات السيف والجهاد إلى قيام الساعة وتطبيق الشريعة واحتقار العقل والمرأة وغير المسلم والحنين إلى دولة الخلافة الراشدة وتحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب واستعادة الأندلس وإقامة حكم إسلامي في فرنسا في الخمسين عاماً القادمة!
فماذا عسى أن يكون هذا التعليم الكفيل بوضع حد لاستبطان النرجسية الدينية وإعادة هيكلة المخيال العربي الإسلامي؟ سيكون بلا شك تعليماً لا يعلم التلاميذ والطلبة النصوص التي تغذي النرجسية الدينية وكذلك النصوص التي تغذي الهذيان كالإيمان الحرفي بالجن والملائكة وإمكانية إقامة علاقات أو أحلاف عسكرية معهم. في الثمانينات استخدم مهندسون إعلاميون عرب ومسلمون مقيمون في أمريكا الكمبيوتر لإحصاء عدد الملائكة فاتضح أنهم شعب تعداده 120 مليون نسمة وطالبوا الحكومات العربية بالإستعانة بهم في محاربة إسرائيل كما استعان بهم المسلمون في غزوة بدر.
تعويض النصوص الظلامية في التعليم الديني:
1 - بنصوص عقلانية من المعتزلة والفلاسفة والمصلحين والكتاب المعاصرين تدربهم على التفكير بأنفسهم وعلى الانفتاح والحوار والتآخي الإنساني كما فعلت المناهج التونسية.
2- تدريس حقوق الإنسان والفلسفة في جميع مستويات وفروع التعليم الأدبي، العلمي، المهني والديني، كما هو الحال في تونس، لفتح الوعي الإسلامي للقيم الكونية والفكر النقدي الذي يعلمه رد الفعل الصحي بوضع نفسه موضع تساءل. وهكذا يغدو قادراً على تخريج أجيال لا تبدأ خطابها بفرضيات غبية ولا تنهيه بأحكام قطعية.