أحمد زوبدي
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 16:16
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
نقد الاقتصاد السياسي للإيكولوجية : ماركس والإيكولوجية.
ظهرت مؤخرا بعض التدوينات في المغرب عن ماركس والبيئة نقلا عن كتابات أجنبية تسعى إلى إعطاء بعدا أيكولوجيا لفكر ماركس في غياب دراسات واجتهادات وفية لمشروع صاحب مؤلف " رأس المال". وقد أثارت انتباهي كثيرا الكتابات في هذا الموضوع منذ فترة حين رأت النور في فرنسا على وجه التحديد في نهاية العقد الأول من القرن الحالي ولم أعيرها الاهتمام اللازم. لكن حين ظهرت التدوينات إياها خاصة لماركسيين منهم من لازال يردد معجم ماركس الأب حرفيا دون تفكيكه وتأطيره على ضوء الجديد وبالتالي توفير شروط إنتاج المعرفة، كما يدعو الى ذلك كارل ماركس الذي يدحض الجمود، كنت مضطرا للنبش ولو بشكل خاطف في الموضوع.
انطلق هذا النقاش بين مؤيد لأطروحة الانتروبوسين (L anthropocène ) وهي حقبة جيولوجية بدأ فيها تدمير الطبيعة الناتج عن سلوكات البشر وأن الحل هو العمل على القضاء على ما هو سلبي يسيء للطبيعة وبالتالي مد جسور ما يسمى بالتنمية المستدامة لبناء الاقتصاد الأخضر ومعه مجتمع الرأسمالية الخضراء بل هناك من يتحدث عن كوكب سعيد( planète heureuse)، وهو ما جعل أصحاب هذه الأطروحة يقترحون إحلال مؤشر الطبيعة السعيدة (IPH) محل مؤشر الناتج الداخلي الخام ( PIB) ومؤشر التنمية البشرية ( IDH)، الذي يأخذ في الاعتبار الإستدامة والمحافظة على البيئة من خلال فرض رسوم للحد من الثلوت وتدمير الطبيعة ( راجع المزيد أسفله). بالمقابل، هناك المؤيدون لأطروحة الكابيطالوسين (Le capitalocène) أي العصر الجيولوجي الذي صادف ظهور الرأسمالية وبالتالي فإن تدمير الطبيعة جاء مع تطور الرأسمالية والبحث عن الربح وتسليع المجتمع. مما يجعل المسؤولية هي مسؤولية الرأسمالية التي يجب التخلص منها وبناء مجتمع يتجاوز هذا النظام للحفاظ على الطبيعة.
هناك اجتهادات أخذت منحنى آخر مرتبط بالعمل على الحد من جشع الرأسمالية ومنها الإنتاجوية والاستهلاك المفرط( consumérisme) ويأتي على رأس هذه الأدبيات الاقتصادية ثيار تناقص الانتاج (Décroissance) الذي يقوده المفكر الاقتصادي المرموق سيرج لاتوش( Serge Latouche) الذي يدعو فيه إلى تفكيك نموذج البحث اللامتناهي عن النمو.
الأطروحة التي يدافع عنها سيرج لاتوش هي أطروحة دون شك أطروحة تقدمية لكن لا تتجاوز الرأسمالية أي الإصلاح الجدري لهذا النظام بمد جسور الدولة الاجتماعية على غرار دولة الرفاه( État providence) التي رأت النور غداة الحرب الكونية الثانية. وبالتالي فسيرج لاتوش رغم ذكائه وتمكنه من الماركسية( التي ودعها واختار نهج الاقتصاد السياسي النقدي) لم يتمكن من طرح جوهر الرأسمالية أي الاستلاب السلعي ( aliénation marchande) فضلا عن إغفاله سؤال بنية ملكية رأس المال التي تكرس تمركز الثروة في يد مالكي وسائل الإنتاج على حساب العمال وباقي الطبقات المهمشة( راجع 2010 , Rémy Herrera). سيرج لاتوش، الذي اجتهد بنوايا حسنة ظنا منه أن تناقص الإنتاج هو البديل كان حريا به أن يبدع أفكارا لمحاربة الحدة التي يمارس بها الإنتاج على أصحاب قوة العمل أي الاستغلال لأجل تحقيق فائض القيمة وبالتالي الرفع من الأرباح (راجع 2010,Rémy Herrera). كل هذا يفسر أن أطروحة تناقص الإنتاج لا تختلف عن الأطروحة المالتوسية( malthusianisme) الداعية إلى الحد من النسل لتمكين الفلاحة من تلبية حاجيات السكان، في حين أن المشكل هو إعادة النظر في ملكية الأراضي حيث يسيطر الملاكون الكبار على الأراضي الشاسعة و الخصبة مقابل القطع الأرضية الصغيرة والهزيلة على مستوى خصوبة التربة التي يملكها الفلاحون الصغار.
أما الثيار المسيطر ذي التوجه النيوليبرالي فهو يسعى إلى الحد من تدمير الطبيعية بفرض ضريبة على الثلويث. وهكذا، ففي بروطوكول كيوطو لسنة 1998 تم الاتفاق على نسبة 5,2 في المائة للخفض الإجمالي لديو أوكسيد الكاربون. وهي نسبة هزيلة إلى أقصى حد، كما يؤكد علماء البيئة الذين دعوا إلى الخفض الفوري بنسبة 50 في المائة على الأقل. المعضلة الكبرى هي أن الشركات المتعددة الجنسيات ضغطت بكل سواعدها ليتضمن بروطوكول كيوطو ما سمي بسوق حقوق الثلويث( le droit de polluer) بمعنى أن الشركات لها الحق في ثلويت الطبيعة شريطة أن يؤدى عليه أي أن الأفراد أو الشركات الأكثر غنى يسمح لهم بشراء رخص انبعاثات قابلة للتبادل، يجعلهم باستمرار من الملوثين الكبار، في ما يضطر الأكثر فقرا لبيع حقوقهم. وهي مفارقة غريبة جدا ذلك أن فرض الرسوم يفقد فائدته حين يسمح للشركات الكبرى للرفع من ثلويث الطبيعة مقابل الأداء عن هذا الثلويت. هذا الثيار الذي يكون الساعد الأيمن للفكر الاقتصادي المهيمن أي النيوليبرالية المتشددة يريد اليوم القضاء على حق الإنسان في الوجود من خلال حرمانه من حقوقه الأساسية.
في ما يتعلق بالثيارات التي تخندق نفسها يسارا أو قل الثيارات الماركسية، فالكثير منها تنطلق من أن ماركس قد نظر للبيئة أو قل أن كتابات ماركس ( وعلى رأسها مخطوطات 1844 les manuscrits de ) فيها الكثير من المواد التي تسمح بتصنيف ماركس كمنظر للاقتصاد السياسي للبيئة أو على الأقل سباق للفكر الاقتصادي الأيكولوجي. أزعم في هذا الباب أن ماركس قد عرج في كتاباته على تدمير الطبيعة من طرف الإنسان وخاصة في ما يخص السيطرة على ثرواتها وادماجها في أسلاك الصناعة وبالتالي ترويجها في الأسواق لأجل القيمة التبادلية وليس القيمة الإستعمالية (راجع Daniel Bensaïd, 2009 Fabrice Fripo, 2024 )، لكنه لا يقول أن المسألة الأيكولوجية أي تدمير الطبيعة هو مشكل الرأسمالية وبالتالي يجب الحد من هذه الظاهرة.
ماركس يقول أن رأس المال الموهوس بالتراكم اللامتناهي ولو على حساب حياة و أرواح البشر هو المدمر لكل شيء ومنها الطبيعة أي تشييء البضاعة وتشييء السلطة وبالتالي يصبح المجتمع برمته خاضعا لسلطة السلعة. في هذا الباب، لم يكن هم ماركس، كما يعتقد البعض، هو الانشغال بالإنتاجوية ( le productivisme) والتقدم التقني، أي بلغة ماركس القوى المنتجة، التي تسمح بالرفع من الإنتاج بشكل أسي والتي انتقدها (أي الانتاجوية) بشدة و أبرز أن رأس المال وجشعه هو المسؤول عن تدمير الطبيعة أي البحث اللامتناهي عن الأرباح، وهو ما لم ينتبه له منظرو الأيكولوجية الماركسية.
ورغم اجتهاداتهم في هذا الموضوع فالكثير منهم انشغل بموضوع الأيكولوجية السياسية أي تسييس هذا الموضوع وبالتالي لم يبقى المشكل هو البحث عن بدائل تجاوز الرأسمالية المدمرة لكن وضع سياسات أيكولوجية تحد من الإساءة للبيئة وتؤمن التنمية المستدامة.
للأسف الشديد لم يطرح ماركسيو الأيكولوجية مسألة تجاوز الرأسمالية حيث ستلعب القيمة الإستعمالية في الدورة الاقتصادية المركز الرئيسي دون منازع ويتم الاستغناء عن القيمة التبادلية، وهو عكس الرأسمالية، أي المرور من مجتمع النذرة إلى مجتمع الوفرة بفضل الثورة التكنولوجية التي ستغير وظيفة العمل الانساني الذي سينتقل من وظيفة حصول الإنسان على وسائل العيش إلى وظيفة يتحول فيها العمل الى حاجة مثل النوم أو الأكل بمعنى أن الحاجة للعمل ستصبح ترفيها( le loisir). كل الأنشطة ستقوم بها الآلة ويصبح دور الإنسان منعدم. هذه القفزة النوعية أو قل هذه الثورة في العمل التي حققتها القوى المنتجة بفضل الثورة التقنيه والعلمية، كل هذا التحول غير المسبوق في حياة البشر هو شكل من أشكال تملك الطبيعة و السيطرة عليها.
للتذكير من اللازم اليوم أن الثورة العلمية والتقنية أي أي تطور القوى المنتجة من المفروض أن يؤدي إلى تغيير علاقات الإنتاج للقضاء على الاستغلال. وهو ما لم يحدث الآن، مما يعرقل أداء القوى المنتجة في سيرورة التحول. هذا الوضع يفرض اليوم ثورة ثقافية تؤسس للثورة السياسية في أفق الانتقال إلى ما بعد الرأسمالية أي الاشتراكية، الطور الذي يسمح بالانتقال الطويل إلى الشيوعية.
من جهة أخرى، كارل ماركس مشى إلى أبعد من أن يكون همه هو دراسة انتاجوية الرأسمالية مبرزا أنه في ظل الشيوعية ستتم إعادة اكتشاف كلي لأشكال الوجود محررة من أي تشييء اقتصادوي أي أن الإنسان سيتحرر من الصراع مع محيطه الاجتماعي ليركز الصراع مع الطبيعة للسيطرة عليها و تملكها.
مشكل الأيكولوجية، لم يكن شغل ماركس الشاغل بل كان شغله، كما سلف الذكر، هو تجاوز النظام الرأسمالي الذي لا تنحصر مشاكله و أزماته في ما هو ايكولوجي بل المشكل في النظام برمته ومنها الطبقية و الملكية الخاصة واستغلال قوة العمل، وهو ما يقتضي تجاوز هذا النظام ليتم القضاء على تدمير الطبيعة بل أكثر من ذلك ليصل الإنسان إلى تملك الطبيعة لتصبح مصدر العيش الحر والرفاهية وبالتالي يتحرر من كل القيود التي تجعله سجين الوجود. مع العلم أن تملك الطبيعة، موضوع فلسفي، لا يدخل مباشرة في مسألة الأيكولوجية في فكر ماركس التي تبقى مشكلة منحصرة في الاقتصاد والسياسة. بعبارة أخرى، صحيح أن ماركس يقول أن الطبيعة تنهار و تتدمر بسبب بشاعة استغلالها لكنه يقول وهذا هو جوهر فكر ماركس أن السبب هو رأس المال وبالتالي فالبديل هو تجاوز الرأسمالية وليس إصلاحها ( انظر Kohei Saito, 2021). يؤكد إذن ماركس أن الرأسمالية تحمل معها تناقضاتها من ذاتها وبالتالي عليها أن تنقرض من خلال تجاوز علاقات الإنتاج السائدة المرتبطة بالملكية الفردية وحل محلها علاقات إنتاج مبنية على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.
بلغة أخرى ، ماركس يتحدث عن الكثير من أوجه تدمير الطبيعة في الفلاحة الذي يؤدي إلى تدهور خصوبة الأرض و نهب الثروات المنجمية، لكن لم يكن شغله الشاغل هذا الموضوع الذي هو تحصيل حاصل أي ناتج عن شكل نظام الإنتاج القائم.
حديث ماركس عن القطيعة الاستقلابية ( coupure métabolique ) بين المجتمع والطبيعة أي أن استنزاف هذه الأخيرة من قبل رأس المال وتركيز الثروة في يد مالكي وسائل الإنتاج وبالتالي حرمان الأغلبية الساحقة من تلبية حاجياتها للعيش، حديثه في هذا الموضوع يريد من خلاله تعميق بحثه في العواقب التي يخلفها تدمير الطبيعية من قبل رأس المال والتقدم التقني وبالتالي العمل على تجاوزه من خلال تجاوز الرأسمالية.
نقد ماركس للطبيعة أو قل لتدمير الطبيعة من قبل رأس المال يريد منه العمل على تملك هذه الأخيرة أي تحكم الإنسان فيها. بعبارة أخرى، ماركس يريد من الإنسان أن يوظف السياسة للتغيير وليس للتكيف مع عالم تتحكم فيه الطبيعة. قضية الحد من النسل لضبط الإنتاج الفلاحي، كما جاء بها مالتوس (Malthus ) وكما يتبنى ذلك اليوم منظرو الأيكولوجية السياسية، هي ردة في الاقتصاد السياسي، كما سنرى لاحقا. قانون النمو الديموغرافي، الذي ينبني على بديهيتين طبيعيتين هما انتاجية الطبيعة وخصوبة الطبيعية الإنسانية، هذا القانون يوظف في تكييف السياسة لأجل ضبط السكان بتبرير ضرورة البؤس الإجتماعي (راجع 2022 ,Timothée Haug )، كما يقوم بذلك المهتمون بالتنمية الذين يدعون إلى تبرير الفوارق الاجتماعية لهدف تحقيق معدلات نمو مرتفعة، الذي هو تبرير للمأساة ليس إلا.
يسعى اليوم المنظرون الاشتراكيوبيئيون أو الايكواشتراكيون ( écosocialistes) أن ينسبوا لماركس بشكل ميكانيكي تناوله للطبيعة، على أنه ( أي ماركس) سباق ( précurseur) للاقتصاد السياسي الأيكولوجي بل أنه نظر للإشتراكية البيئية ( écosocialisme). قراءة فكر ماركس بهذا الشكل يوحي أن أصحاب هذا التأويل يجعلون من ماركس منظرا للطبيعة على أنها هي مصدر كل المشاكل اليوم. والحقيقة كما سلف الذكر أن ماركس تناول بشكل مستفيض البيئة في ما يخص تدمير الإنسان لها لكنه ربط ذلك برأس المال الذي أصبح مقارنة مع أنماط الإنتاج السابقة يؤثر بشكل غير مسبوق على الثروات التي تعطيها الطبيعة بما فيها الطبيعة برمتها. فمشروع ماركس المجتمعي في هذا الباب يعني تحرر الإنسان من الطبيعة وبالتالي سيطرته عليها، وهو مشروع مرتبط بتحقيق الشيوعية.
ماركس رأى في ذلك أن التراكم لا متناهي هو السبب في الوضع الذي وصلت له الطبيعة منها الاحتباس الحراري الذي فاقم من الكوارث الطبيعية. ارتباط ماركس بالطبيعة التي يريد أن يتملكها الإنسان من خلال تجاوز الرأسمالية أولا، وثانيا ليصبح هو سيد الأرض في ما يتعلق باستغلال خيراتها في ضوء قانون القيمة الإستعمالية وليس قانون القيمة التبادلية، لا يعني أنه يريد أي ماركس من أن يصبح الإنسان شبيها بالإله ( l homme Prométhéen )، كما يعتقد ذلك البعض.
#أحمد_زوبدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟