أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ماركسية-لينينية تجديدية















المزيد.....


نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ماركسية-لينينية تجديدية


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 02:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المقدمة: سؤال التنظيم الثوري في زمن العولمة الرأسمالية

منذ ولادة الماركسية، كان واضحًا أن الطبقة العاملة لا تتحرر تلقائيًا بفعل موقعها في الإنتاج، بل تحتاج إلى أداة واعية قادرة على تنظيم قواها وتوجيه نضالاتها وفق رؤية ثورية شاملة. هذه الأداة تجسدت في شكل الحزب الطليعي والأمميات العمالية، التي حاولت توحيد الجهود الثورية عالميًا لمواجهة رأس المال.

ومع ذلك، فإن كل تجربة تنظيمية حملت في أحشائها تناقضات عميقة بين الطموح لبناء وحدة طبقية عالمية وبين الواقع المتباين للطبقات العاملة في مختلف البلدان، فضلًا عن الصراعات الأيديولوجية الداخلية وأزمة العلاقة بين المركز والقواعد. كانت الأمميات الثلاثة (الأولى، الثانية، الثالثة) انعكاسًا لهذه التناقضات: نجاحات أولية، توسع وتأثير ملموس، ثم انحدار وبيروقراطية وانهيار. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي، بدا للكثيرين أن المشروع الأممي قد انتهى إلى الأبد، وفسح المجال لليبرالية المنتصرة لكي تعيد كتابة قواعد اللعبة.

غير أن الرأسمالية لم تكن لتسمح بالاستقرار؛ بل أثبتت أنها نظام أزمات متواصلة، تجدد تناقضاتها بشكل دائم. مع العولمة، بات رأس المال أكثر شراسة
• شبكات الإنتاج أصبحت عابرة للقارات.
• الاقتصاد الرقمي فتح مجالات جديدة للاستغلال الرهيب.
• الحروب والهجرة القسرية أنتجت جيوشًا جديدة من البروليتاريا المهاجرة والمهمشة.
• الأزمات البيئية كشفت بوضوح أن الرأسمالية تهدد مستقبل الإنسانية بأكملها.

هذا الواقع أفرز موجة جديدة من الغضب العمالي والاجتماعي حول العالم. لكن هذه الموجة لم تجد بعد أدواتها التنظيمية القادرة على ترجمتها إلى مشروع سياسي ثوري متكامل. ظهرت انتفاضات، حركات احتجاجية، تحالفات “يسارية”، لكنها كانت في الغالب عاجزة عن تجاوز أفق الإصلاح أو الوقوع في فخ الليبرالية اليسارية التي حولت الصراع الطبقي إلى قضايا مشتتة: الهوية، النوع، البيئة، العدالة الاجتماعية… كلها قضايا عادلة في ذاتها لكنها فقدت بوصلتها الطبقية.

في هذا السياق، يصبح سؤال التنظيم الثوري أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. هل يمكن أن نعيد بناء أممية طبقية حقيقية تستجيب لشروط اليوم؟ هل يمكن أن نعيد تشكيل الحزب الشيوعي ليكون حقًا أداته الطليعية، لا جهازًا بيروقراطيًا ولا مجرد واجهة انتخابية؟ كيف نستفيد من التطورات التقنية الهائلة دون الوقوع في وهم أن التقنية بحد ذاتها قادرة على تحرير الطبقات؟

هذه المقالة تقدم تصورًا متكاملًا لمشروع ثوري جديد يجمع بين بناء أممية شبكية طبقية تستخدم أدوات العصر الرقمي وتبني تضامنًا عالميًا حيًا، وبين بناء حزب ديمقراطي منضبط يعيد الاعتبار للقواعد كصانعة القرار والحياة الحقيقية للحزب.

الهدف ليس التجميل أو الإصلاح، بل إعادة تأسيس المشروع الشيوعي برمّته، على أساس من الجذرية الطبقية والالتزام الثوري، مع وعي حاد بضرورة تجاوز الأخطاء القديمة وابتكار أدوات تنظيمية جديدة دون المساس بجوهر الماركسية-اللينينية.

الاشتراكية ليست خيارًا فكريًا أو حلمًا أخلاقيًا، بل هي ضرورة حتمية تفرضها تناقضات الرأسمالية ذاتها. وكما أثبت التاريخ، فإن هذه الضرورة تحتاج دومًا إلى أداة تنظيمية واعية. نحن هنا نطرح لبنة من لبنات هذه الأداة، ونفتح الباب أمام كل المناضلين الشيوعيين في العالم لإعادة التفكير الجدي في كيفية بناء القوة الطبقية المنظمة القادرة على تحقيق النصر.

أزمة الأمميات: من الطموح الثوري إلى البيروقراطية والانهيار

تاريخ الأمميات العمالية هو في جوهره تاريخ محاولة الطبقة العاملة تخطي انقسامها الوطني واللغوي والعرقي لبناء وحدة عالمية قادرة على مواجهة رأس المال في مجاله الحيوي العالمي. من الأممية الأولى وحتى الكومنترن، كانت هذه الأمميات تجسيدًا لفكرة عبقرية: أن الطبقة العاملة أمة عالمية واحدة ذات مصلحة موحدة في الإطاحة بالنظام الرأسمالي، مهما اختلفت ظروفها المحلية.

لكن سرعان ما اصطدمت هذه الفكرة العظيمة بجملة من التحديات البنيوية:
• التناقض بين الطابع الأممي للأهداف والطابع القومي للواقع السياسي.
• الخلافات الأيديولوجية داخل صفوف الأممية نفسها (بين الماركسيين واللاسلطويين، بين الثوريين والإصلاحيين…).
• الديناميات البيروقراطية التي سرعان ما بدأت تُفرغ الأمميات من محتواها الطبقي الحي.

في الأممية الأولى، التي أسسها ماركس وإنجلز عام 1864، كان الهدف تجميع النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية الصاعدة في إطار أممي موحد. لكنها سرعان ما انقسمت بفعل الصراع الحاد بين الماركسيين وأنصار باكونين، الذين رفضوا أي دور للدولة وطرحوا رؤية لاسلطوية تركز على المجتمعات المحلية والمباشرة. الصراع كان أكثر من مجرد خلاف تنظيمي؛ كان تعبيرًا عن تناقض عميق حول فهم طبيعة الصراع الطبقي وأدوات التحرر. الأممية الأولى انتهت وهي تحمل في داخلها بذور الانقسام الحتمي، وتعلمنا أن الوحدة الشكلية لا تصمد أمام التباينات الجوهرية في الخط السياسي.

ثم جاءت الأممية الثانية، التي تأسست عام 1889، وبدت في البداية أكثر قوة ووضوحًا. توسعت، شيدت أحزابًا جماهيرية، وحققت مكاسب ملموسة للعمال في أوروبا، لكنها وقعت في فخ الإصلاحية البرلمانية. عشية الحرب العالمية الأولى، فضحت هذه الأممية نفسها بشكل مدوٍّ: الأحزاب الاشتراكية الكبرى، التي طالما رفعت شعار الأممية، اصطفت خلف حكوماتها القومية وصوتت لصالح ميزانيات الحرب، خائنة بذلك الطبقة العاملة الأممية لصالح الطبقة البرجوازية الوطنية. كان انهيار الأممية الثانية انهيارًا سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا، أكد أن الأممية بلا جذور طبقية صارمة تصبح قشرة جوفاء.

تجربة الكومنترن، أو الأممية الثالثة، التي أنشأها لينين عام 1919 بعد الثورة البلشفية، مثلت استجابة ثورية لهذا الفشل. أعادت طرح المشروع الأممي على أساس ماركسي-لينيني واضح، وربطت بين النضالات الوطنية والاستراتيجية الأممية الشاملة. لكن ما بدأ كأداة للتحرر العالمي، تحوّل تدريجيًا إلى جهاز بيروقراطي ملحق بالدولة السوفييتية. مع صعود الستالينية، اختُزلت الأممية في الدفاع عن مصالح الاتحاد السوفييتي، ولو على حساب الحركات الشيوعية الأخرى، وفُرضت خطوط سياسية قسرية، وأُسكتت الأصوات النقدية، وتراجعت روح الإبداع الثوري لحساب الطاعة العمياء للمركز. هكذا
ماتت الأممية الثالثة وهي غارقة في تناقضاتها، بعدما استنزفها التصلب البيروقراطي وأجهزت عليها الحسابات الجيوسياسية.

المحاولات الأخرى، مثل الأممية الرابعة بقيادة تروتسكي، سعت إلى تصحيح المسار لكنها بقيت محدودة التأثير، عالقة في صراعات داخلية لم تُمكّنها من أن تصبح قطبًا عالميًا حقيقيًا. أما محاولات بناء أمميات جديدة في العقود الأخيرة، فغلب عليها الطابع الاحتفالي أو الفكري دون القدرة على بناء قاعدة تنظيمية حقيقية ذات امتداد جماهيري وصلابة طبقية.

خلاصة هذا المسار أن أزمة الأمميات لم تكن فقط أزمة قادة أو هياكل، بل أزمة بنيوية ترتبط بغياب التوازن بين المركزية والديمقراطية، وبين الشروط الأممية والطبيعة الوطنية للنضالات. كما أن هذه الأمميات لم تكن قادرة على مواجهة التحولات الكبرى للرأسمالية: من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية، ثم الرقمية والعابرة للقارات، ما جعل أدواتها التنظيمية والتكتيكية عاجزة عن مواكبة الواقع المتغير.
اليوم، حين نطرح فكرة أممية جديدة، نحن لا ندعو إلى إعادة إنتاج الأمميات السابقة تحت مسميات جديدة، بل إلى إعادة ابتكار الأممية نفسها بما يجعلها تستجيب لشروط العصر الرقمي والرأسمالية الشبكية، دون أن تفقد جوهرها الطبقي الثوري. هذه هي المهمة التي تحتم علينا أن نعيد قراءة تاريخ الأمميات بوعي نقدي جدلي، وأن نستخلص منه الدروس التي تجعلنا لا نكرر المآسي نفسها بأقنعة جديدة.

الأممية الشبكية: ولادة شكل جديد من التضامن الثوري

إذا كان فشل الأمميات السابقة يكمن في تناقضاتها البنيوية وارتباطها بالنماذج الهرمية والمركزية المفرطة، فإن الدرس الأكبر الذي نستخلصه اليوم هو أن أي أممية جديدة يجب أن تتجاوز هذه العقبات البنيوية لا بالشعارات بل بالأدوات والتنظيم. نحن في زمن تتجدد فيه الرأسمالية نفسها كشبكة عالمية متشابكة ومعولمة، فلم تعد أساليب القمع والسيطرة محصورة في حدود قومية بل أصبحت موزعة عبر مراكز رأسمالية عالمية تتشارك في استغلال العمل والبشر والموارد. هذا الواقع يفرض علينا أن نعيد التفكير في شكل الأممية الثورية.

الأممية الشبكية التي نطرحها ليست مجرد تحديث تقني لما سبق، بل هي ولادة شكل جديد من التضامن الثوري، يعيد تعريف الأممية وفق شروط الصراع الطبقي اليوم. فكما أصبحت الرأسمالية معولمة ومتداخلة، يجب أن يصبح رد الطبقة العاملة عالميًا أيضًا، متجاوزًا القيود الشكلية ومؤسسًا لبنية تنظيمية حية قادرة على التنسيق والنضال العابر للحدود.
الأممية الشبكية تقوم على رؤية أساسية: أن الطبقة العاملة ليست مجرد مجموع طبقات وطنية، بل هي وحدة موضوعية تمتد عالميًا، تربطها مصالح مشتركة وعدو واحد هو رأس المال العالمي. هذا الفهم يفرض علينا أن نبتكر بنية تنظيمية مرنة وفعالة في الوقت ذاته، قادرة على استيعاب التنوع القومي والثقافي والاقتصادي للطبقات العاملة، دون أن تقع في فخ التشرذم أو التحالفات الفضفاضة.

الفارق الجوهري بين الأممية الشبكية وما سبقها هو أنها ليست مركزًا إداريًا يُملي قراراته من فوق، بل شبكة ديناميكية تفاعلية تتيح للقواعد التنظيمية أن تشارك مباشرة في رسم السياسات واتخاذ القرارات. هنا تنتقل الأممية من أن تكون جهازًا إداريًا إلى أن تصبح بنية نضالية حية.

تستفيد هذه الأممية من أدوات العصر الرقمي، ليس على سبيل الدعاية فقط بل كأداة تنظيمية فعلية: المنصات المؤمنة، آليات التنسيق الرقمي، تبادل الخبرات والتجارب في الزمن الحقيقي، التنسيق الفوري بين النقابات والحركات العمالية. هذه الأدوات تتيح تجاوز العقبات التي كانت تواجه الأمميات السابقة، مثل بطء الاتصال، أو هيمنة مركز على الأطراف.

لكن الأممية الشبكية ليست مجرد ابتكار تنظيمي؛ بل هي ابتكار سياسي طبقي أولًا وأخيرًا. شرطها الأول هو الصرامة الأيديولوجية: لا مكان هنا لأي قوى إصلاحية أو يسارية ليبرالية تريد تحويل الصراع الطبقي إلى شعارات هوية أو مطالب إصلاحية. الأممية الشبكية تقطع مع هذا الوهم، وتؤكد أن الاشتراكية ليست إصلاحًا للنظام الرأسمالي بل تحطيمًا له بالكامل.

الرهان الأكبر لهذه الأممية هو قدرتها على تحويل التضامن العالمي من موقف معنوي إلى فعل مادي ملموس:
• دعم مباشر للإضرابات والانتفاضات العمالية في أي مكان في العالم.
• إطلاق حملات موحدة ضد سياسات رأس المال العابرة للقارات.
• بناء شبكات تضامن ميداني حقيقية تشمل الدعم المالي، التقني، القانوني، والسياسي.
من خلال هذه الأدوات، تستطيع الأممية الشبكية أن تتجاوز عجز الحركات العمالية الوطنية التي غالبًا ما تعاني من العزلة والحصار، وتعيد لها القدرة على الصمود والتصعيد.

إن تحديات هذا المشروع هائلة: التفاوت بين مستويات التطور الاقتصادي والسياسي للطبقات العاملة في العالم، خطر الاختراقات الأمنية من الأنظمة الرأسمالية، النزاعات الأيديولوجية المحتملة بين الأطراف… كلها عقبات حقيقية. لكن هذه العقبات لا تُواجه بالانكفاء أو بالتنازل، بل بالبناء الصبور والمتدرج لأدوات التنظيم، والتثقيف السياسي العميق، وتطوير آليات الحماية الذاتية للأممية.

في نهاية المطاف، الأممية الشبكية التي نطرحها هي طموح لا ينفصل عن شرطه الطبقي الصارم. إنها تتجاوز الشكل التقليدي للأمميات لكنها لا تتجاوز مضمونها الجوهري: وحدة الطبقة العاملة عالميًا في مواجهة رأس المال، والالتزام الحازم بمشروع إسقاط النظام الرأسمالي وبناء الاشتراكية. الأممية الجديدة هي امتداد لروح ماركس وإنجلز، لكنها في الوقت ذاته مشروع للمستقبل، يُعيد ابتكار أدوات

النضال الأممي وفق شروط القرن الحادي والعشرين.

التنظيم الأفقي: الحزب الديمقراطي المنضبط

طرح لينين في مؤلفه “ما العمل؟” النموذج الكلاسيكي للحزب الطليعي بوصفه أداة ضرورية لقيادة الصراع الطبقي وتنظيم الطبقة العاملة ورفع وعيها إلى المستوى السياسي. هذا النموذج استطاع أن يحقق نتائج باهرة في لحظة تاريخية محددة، حيث نجح في حشد الطبقة العاملة وتوجيهها نحو تحقيق انتصار ثوري تاريخي في روسيا القيصرية. ومع ذلك، فإن التجربة نفسها أظهرت لاحقًا حدود هذا النموذج، خاصة حين تحوّل الحزب الطليعي إلى جهاز بيروقراطي، وتحولت القيادة فيه إلى سلطة مغلقة، بعيدة عن الرقابة الحقيقية من القواعد.

هذه التحولات ليست مجرد أخطاء أفراد أو لحظات عابرة، بل تعبير عن أزمة بنيوية: كيف يمكن للحزب أن يكون منظمًا وفعّالًا ومنضبطًا دون أن يسقط في فخ المركزية القاتلة التي تقتل حيوية الحزب وتحوّله إلى مؤسسة تسلطية؟ كيف يمكن للطبقة العاملة أن تحافظ على حزبها كأداة تحرر دون أن يتحول إلى أداة قمع داخلي باسم الانضباط الثوري؟

من هنا تنبع الحاجة إلى تصور جديد للحزب، تصور يحافظ على خطه الطبقي الصارم وانضباطه الثوري، ولكن يعيد بناء العلاقة بين القيادة والقواعد على أساس ديمقراطية حقيقية. إن التنظيم الأفقي لا يعني الفوضوية ولا الغياب الكامل للقيادة، بل يعني إعادة تعريف القيادة باعتبارها أداة تنفيذية تخضع بشكل دائم ومباشر لرقابة القواعد. القواعد هي التي تضع الخط السياسي العام وتنتخب القيادة وتراقبها وتحاسبها بل وتغيرها متى لزم الأمر.

الحزب الذي نبنيه اليوم يجب أن يكون مختلفًا عن الحزب الذي عرفناه في القرن العشرين. يجب أن يبنى من القاعدة إلى القمة، بحيث تكون الخلايا القاعدية هي القلب النابض الحقيقي للحزب، وهي التي تنتج السياسات وتدير العمل اليومي وتشارك بفعالية في كل قرار استراتيجي. القيادة، في هذا التصور، ليست سلطة مطلقة بل جهاز إداري وتنفيذي ينفذ إرادة القواعد ويعود إليها دائمًا للمراجعة والمساءلة.
يحتاج الحزب الديمقراطي المنضبط إلى آليات تنظيمية واضحة تضمن هذا التوازن الدقيق. أول هذه الآليات هو عقد مؤتمرات حزبية دورية فعلية وليست شكلية، بحيث تتاح لكل الأعضاء فرصة مناقشة السياسات ومراجعة القيادة. ويجب أن تكون هناك لجان رقابة مستقلة تنتخبها القواعد لمراقبة عمل القيادة ورصد أي تجاوزات أو انحرافات عن الخط الطبقي. كما أن تداول القيادة يجب أن يصبح جزءًا طبيعيًا من الحياة الحزبية، بحيث لا تبقى المواقع القيادية محتكرة لسنوات طويلة بما يفتح الباب أمام البيروقراطية.

الانضباط في هذا الحزب لا ينبع من الخوف أو القمع الداخلي، بل من الاقتناع الواعي بضرورة تنفيذ ما تقرره الأغلبية. الديمقراطية الحقيقية ليست عائقًا أمام الانضباط بل هي شرط له، لأنها وحدها التي تضمن أن يشعر الأعضاء بالمسؤولية تجاه قرارات حزبهم وأن يلتزموا بتنفيذها بإخلاص.

هناك تحديات حقيقية تواجه هذا النموذج. أولها هو خطر الانقسامات الداخلية، خاصة في اللحظات الحرجة التي تتصاعد فيها الخلافات الفكرية. ثانيها هو محاولات التسلل الفكري التي قد تقودها تيارات ليبرالية أو إصلاحية لإفراغ الحزب من مضمونه الطبقي وتحويله إلى منتدى نقاش عقيم. ثالثها هو صعوبة الحفاظ على وحدة الفعل خاصة عندما تتعاظم الضغوط الخارجية ويزداد القمع البرجوازي.

لكن مواجهة هذه التحديات لا تكون بالعودة إلى المركزية القديمة، بل ببناء وعي طبقي عميق في كل مستويات الحزب، وبالمواءمة الدائمة بين الديمقراطية والانضباط، وبين الحرية والمسؤولية. من دون هذا التوازن، لا يمكن للحزب أن يتحول إلى قوة قادرة على قيادة الصراع الطبقي وتحقيق الاشتراكية.

الحزب الديمقراطي المنضبط الذي نتصوره ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإنجاز مشروع أكبر: بناء دولة اشتراكية حقيقية تعكس إرادة الطبقة العاملة وتحقق أهدافها في التحرر من الاستغلال الرأسمالي. وهذا الحزب يجب أن يكون هو نفسه نموذجًا مصغرًا للمجتمع الاشتراكي الذي نناضل من أجله: ديمقراطيًا، شفافًا، ومبنيًا على المساواة والرقابة الشعبية.

نحن لا ندعو إلى مغامرة فكرية أو تنظيرية، بل إلى بناء أداة ثورية جديدة تنبع من حاجات الطبقة العاملة اليوم، وتستفيد من دروس الماضي دون أن تعيد إنتاج أخطائه. الحزب الذي نحلم به ليس حزبًا إصلاحيًا يساوم على الحقوق الطبقية، ولا حزبًا مغلقًا يعيش على أمجاد الماضي، بل حزب شيوعي طبقي صلب، متجدد، حي، يقود ويُقاد، يُنظّر ويُنظَّر له، ينتمي لجماهيره ويمثلها بصدق.
الرؤية الاستراتيجية والخاتمة

الصراع الطبقي اليوم لا يشبه ما كان عليه قبل خمسين أو حتى ثلاثين عامًا. نحن أمام رأسمالية أكثر شراسة ودهاء، تستعمل الأدوات الرقمية والتقنية الحديثة لتكثيف الاستغلال، وتعيد إنتاج سيطرتها من خلال تشتيت وعي الطبقة العاملة ودفعها إلى دوائر من المطالب الجزئية والمحدودة. هذه الرأسمالية لا تواجهها شعارات عتيقة أو هياكل تنظيمية مهترئة؛ بل تحتاج إلى مشروع شيوعي من نوع جديد، مشروع قادر على الجمع بين الصرامة الطبقية والتجديد التنظيمي والفكري، وعلى المواءمة بين المحلي والعالمي، وبين النضال السياسي اليومي وبين الأفق الاشتراكي البعيد.

الرؤية الاستراتيجية التي نطرحها تقوم على ثلاثة أعمدة مترابطة: أممية شبكية طبقية، حزب ديمقراطي منضبط، وبرنامج ثوري جذري. الأممية الشبكية هي الإطار الأممي الذي يعيد اللحمة العالمية بين الطبقات العاملة، ليس بوصفه تحالفًا رخْوًا أو واجهة تضامنية شكلية، بل باعتباره شبكة تنظيمية حية، تتيح تنسيق المعارك الطبقية على امتداد العالم، وتخلق وحدة نضال حقيقية في مواجهة رأس المال المعولم. هذا الشكل الأممي الجديد هو ما يمنحنا القدرة على تحويل النضالات المحلية المتفرقة إلى جزء من استراتيجية شاملة تستنزف الرأسمالية في أكثر من جبهة.

أما الحزب الديمقراطي المنضبط فهو الأداة التي تنقل هذه الرؤية الأممية إلى واقع كل بلد وكل معركة طبقية محلية. الحزب ليس جهازًا فوقيًا يقرر مصير الطبقة من برج عاجي، ولا هو مجموعة مثقفين يناقشون بلا قدرة على الفعل. إنه التعبير العضوي عن الطبقة العاملة المنظمة، قلبها النابض ووعيها المتجسد. الحزب الذي نتطلع إليه يقف ضد كل أشكال التحريف والانحراف، يرفض التماهي مع الدولة البرجوازية أو الذوبان في تحالفات انتهازية، ويتمسك ببرنامج طبقي واضح لا مساومة فيه.

هذا البرنامج ليس مجرد وثيقة بل خارطة طريق للنضال، تربط بين المطالب الآنية للجماهير وبين الهدف الاستراتيجي النهائي: إسقاط النظام الرأسمالي وإقامة سلطة العمال والفلاحين، سلطة دكتاتورية البروليتاريا التي تفتح الطريق نحو الاشتراكية ثم الشيوعية. نرفض اختزال الاشتراكية في تحسين شروط العيش داخل النظام القائم، كما نرفض تحويل الصراع الطبقي إلى سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية أو الاجتماعية التي لا تمس جوهر السلطة البرجوازية. الاشتراكية الحقيقية تبدأ من اللحظة التي تتحطم فيها سلطة رأس المال ويُعاد بناء الدولة على أساس المصالح الطبقية للعمال.

لكن لا بد من مواجهة المخاطر المحيطة بهذا المشروع. أكبر هذه المخاطر هو اختراق المشروع من الداخل عبر تيارات ليبرالية يسارية تسعى لتليينه وتفريغه من مضمونه الثوري. هذه التيارات تقدم خطابًا ناعمًا عن الاشتراكية وتستعمل مفردات العدالة والمساواة، لكنها في جوهرها تنتهي دائمًا إلى إعادة إنتاج النظام نفسه بأدوات جديدة. هنا تحديدًا تبرز أهمية الوضوح الأيديولوجي والصرامة الطبقية كدرع يحمي المشروع من التميع والانحراف.

من التحديات الأخرى التفاوت الهائل بين أوضاع الطبقات العاملة عالميًا. في بلدان المركز الرأسمالي، تعيش الطبقة العاملة مستوى معيشيًا أفضل نسبيًا لكنه مهدد بالتآكل المستمر، بينما تعاني الطبقات العاملة في الأطراف من ظروف استغلال وحشية وحرمان شبه مطلق من الحقوق. الرؤية الاستراتيجية يجب أن تكون حساسة لهذه الفوارق دون أن تقع في فخ التقسيم أو الازدواجية؛ لأن عدو الطبقات العاملة واحد: رأس المال العالمي، وحل هذه التناقضات يمر عبر وحدة النضال وليس عبر التقوقع.

نؤمن أن الأممية الشبكية والتنظيم الحزبي الديمقراطي المنضبط يجب أن يتكاملا في برنامج واحد يعيد تعريف الاشتراكية كضرورة لا كاختيار، كحاجة حيوية يفرضها الواقع وليس مجرد فكرة أو حلم. الاشتراكية التي نطرحها هي مشروع تحرري شامل يطال كل جوانب الحياة: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، البيئة، ويعيد الاعتبار لمفهوم التحرر الإنساني الكامل من الاستغلال والاضطهاد بكل أشكاله.

إن هذه الرؤية ليست مجرد تنظير بل نداء حي لكل الشيوعيين الصادقين، لكل النقابيين الحقيقيين، لكل المناضلين الثوريين الذين سئموا من الشعارات الفارغة والخيارات الإصلاحية البائسة. ندعو الجميع إلى الانخراط في بناء هذا المشروع بكل وعي ومسؤولية، لأن اللحظة الراهنة لا تحتمل التأجيل أو المراوحة. الصراع الطبقي اليوم أكثر تعقيدًا لكنه في الوقت ذاته يفتح أمامنا إمكانيات هائلة إذا أحسنا تنظيم قوانا واستفدنا من دروس الماضي وتحديات الحاضر.

التاريخ لا ينتظر المترددين ولا يرحم المذبذبين. الاشتراكية إما أن تكون مشروعًا ثوريًا حقيقيًا أو لا تكون. الخيار بين السقوط في مستنقع الليبرالية اليسارية وبين بناء حزب شيوعي طليعي متجدد ليس خيارًا تكتيكيًا بل مسألة وجودية تحدد مصير الطبقة العاملة كلها. فلنمضِ بلا تردد، مستلهمين وصية ماركس: “الثورة الدائمة هي قانون التاريخ”، ولنُجدّد أدواتنا الفكرية والتنظيمية دون أن نتخلى لحظة عن جوهرنا الطبقي الماركسي-اللينيني.

——-
ملاحظة ختامية

إن الكتابة مسؤولية فكرية وأخلاقية تتطلب من الكاتب أن يتحرى الصدق، والموضوعية، والالتزام بقضايا العدالة والحرية. كما أن النقد الموجه لأي نص ينبغي أن يلتزم بضوابط الحوار الفكري المسؤول، فيُناقش الأفكار لا الأشخاص، ويبتعد عن الشخصنة والمناكفات التي تفسد الحوار وتضعف قيمته العلمية.

كل نص يُكتب، وكل نقد يُقدّم، يعكس مستوى وعي صاحبه، وأخلاقيته، وانحيازه.
لذلك، نهيب بالقراء الكرام الالتزام بثقافة الحوار الهادئ والبناء، لما فيه خدمة الحقيقة، وإنضاج النقاش، وإثراء الفضاء الفكري بقيم التعددية، والاحترام المتبادل، والسعي المشترك نحو مستقبل أفضل.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه ...
- نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي - رد على أحم ...
- النهج التجديدي في الماركسية واللينينية: قراءة جدلية نقدية في ...
- نظام المكونات في العراق: الهيمنة الإمبريالية وإعادة إنتاج ال ...
- عقود النفط بعد 2003: هل خسر العراق معركته الاقتصادية الكبرى؟
- القمع: قراءة ماركسية معمقة في سياق الدولة البرجوازية والدولة ...
- يا نساء العراق، توحدنَّ!
- حول الدولة المدنية والديمقراطية: clarifications ماركسية ضرور ...
- العراق في قبضة الاحتلال المالي: كيف تُنهب ثروات بلد نفطي بأد ...
- الدولة المدنية والتغيير الشامل: قراءة ماركسية نقدية لشعار ال ...
- الدولة المدنية والاشتراكية: جدلية الضرورة والإمكان في الواقع ...
- العشائرية، الدين، والدولة المدنية: قراءة ماركسية في عوائق ال ...
- نشيد الأممية - محاولة ترجمة شعرية عربية
- -بين المدنية والطبقية- حوارات مهمة، اطروحات ر. د. حسين علوان ...
- بين المدنية والطبقية: قراءة ماركسية-لينينية في طروحات الحزب ...
- هل انتهى اليسار الماركسي؟ ج5: خاتمة، ج6: الملخص
- هل انتهى اليسار الماركسي؟، ج3: البعد النظري: الماركسية بين ا ...
- هل انتهى اليسار الماركسي؟ - ج1- جذور فكرة نهاية اليسار, ج2- ...
- حول جدوى النقاش السياسي الاقتصادي مقابل الانزلاق إلى المجازا ...
- قراءة نقدية علمية ماركسية لأسئلة د. طلال الربيعي على ردي الس ...


المزيد.....




- طائرات مقاتلة صينية تُربك الهند بنتائج لم يتوقعها أحد.. شاهد ...
- حماس تسلم عيدان ألكسندر آخر رهينة أمريكي على قيد الحياة بغزة ...
- الهند وباكستان تبحثان تثبيت وقف النار
- الولايات المتحدة والصين تُعلنان عن اتفاق لخفض -كبير- في الرس ...
- أسطول من القوارب يجوب قناة البندقية للمطالبة بإطلاق سرح ألبر ...
- هل كانت مناديل أم كوكايين؟ شائعات تثير ضجة حول ماكرون وميرتس ...
- طائرة قطر المهداة للبيت الأبيض تخلق جدلا وترامب يدافع بشراسة ...
- ترامب: نأمل في إطلاق سراح مزيد من الرهائن في غزة والعائلات ت ...
- حماس: أفرجنا عن عيدان أليكسندر في إطار جهود وقف النار في غزة ...
- أنقرة.. اجتماع تركي سوري أردني


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ماركسية-لينينية تجديدية