عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8339 - 2025 / 5 / 11 - 02:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
.
أستهلُّ القول بما قاله النابغة الذبياني:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
1. الدولة التونسية التي بناها بورقيبة ورفاقه، بكل عيوبها، على خلاف بلدان عديدة، تظل راسخة في الوعي الجمعي. فهي ليست مجرد مؤسسات، بل هي جزء من تكوين الفرد. وهي إطار الذاكرة الشعبية من ثقافة وتعليم وسيادة. زد على هذا، وجود مؤسسات تاريخية عريقة مثل (الزيتونة)، وأخرى تمّ بعثها من جديد بعد الاستقلال مثل (القضاء والجيش)، ولكنها ذات جذور ضاربة في اعماق التاريخ، رغم ما شهدته من هدم أحيانا، وانحطاط في أحيان أخرى.
2. استقرا الحدود الجغرافية وثبات الاندماج الاستثنائي في مستوى هوية الشعب. فمنذ العهد الفينيقي ثم الروماني والعربي الإسلامي، ظلّت تونس بحدودها تقريبًا ثابتة. وهذا ما منع نشوء انقسامات إثنية أو طائفية عميقة يسهل من خلالها الاختراق على عكس دول أخرى.
3. خصوصية الإسلام التونسي المعتدل
المذهب المالكي في تونس، تميّز بمراكمة التعايش مع الصوفية في بيئة محلية، ما أنتج مدرسة تونسية قائمة بذاتها، أسوارها شاهقة العُلوّ، عجز الأتراك العثمانيين الأحناف على اختراقها. وتكسّر على أعمدتها مشروع التجنيس الذي اشتغل عليه المستعمر. وتصدّت مبكّرا جدًّا للوهابيين التكفيريين، فولّوا على أدبارهم نُفُورًا، ممّا خلق حصانة مجتمعية ضد محاولات التطرّف بأنواعه.
4. ثقل المجتمع المدني والحركة النسوية:
تونس من أقدم وأقوى المجتمعات المدنية في العالم من حيث الجذور البعيدة. إذ يعود تاريخ العمل الجمعياتي الأهلي إلى القرن الثالث عشر، مع السيدة المنوبية الشخصية الاستثنائية بحضورها الديني، وبخطابها النسوي في مجتمع أبوي مغلق. أين دعت، في تلك العصور البعيدة، إلى المساواة بين الجنسين، وشجعت النساء على طلب العلم، وكسر قيود التقاليد. دون تصطدم مع الدين. بل اعتمدت إصلاحًا من الداخل، من خلال التصوّف كمنهج روحي يساوي بين البشر أمام الله. وعاشت زاهدة، متواضعة، كافحت طوال حياتها من أجل عتق العبيد وحماية النساء والأيتام والفقراء بِجُهدِها الخاصّ، حتى أن بعض المؤرخين اعتبرها "أم المجتمع المدني". وكانت تحربة حياتها مدرسة للتمرد وكسر الأغلال. ولهذا السّبب تحوّلت إلى رمز شعبي، صارت حكاياتها جزءًا من التراث الشفوي، وتناقلها العامة بصيغ متعددة، مزجت بين الواقع والأسطورة. وفي الدولة الحسينية، ظهرت أمّ الزين الساحلية، مُعلّمة، وشخصية قيادية، ساست وجهاء الساحل، وافتكّت ثِقلًا اجتماعيًا وروحيًّا أرعب صاحب المُلك والسّلطان. وتلتهما العزيزة عثمانة. وربّما أخريات غيرهنّ، لم تُدوّن سيرتهنّ.
النّساء في تونس لعبن أدوارًا كانت لها نتائج ساهمت في تغذية رهافة الذّوق وسلامة السرائر.
5. إرث حركة الإصلاح والتعليم. مدرسة القيروان أقدم مدارس في العالم الإسلامي، تليها الزيتونة التي فاضت خارج البلاد التونسية، وبنت الأزهر والقاهرة معا.
تونس أول من ألغى الرق في العالم (1846) وأول من أصدر دستورًا وضعيًا (1861) في العالم العربي.
تقاليد الدولة المدنية الحديثة والمساواة المتجذّرة منذ زمن بعيد.
6. استقلالية القرار التونسي تاريخيًا
حتى في ظل الحكم العثماني، حافظت تونس على استقلال إداري ومالي وشرعي واسع.
مراسلاتها مع الباب العالي باللّغة العربية، واعتمادها على نخب محلية.
7. قوة الطبقة المتوسطة
وجود طبقة وسطى عريضة ساهم في خلق استقرار اجتماعي نسبي لعقود طويلة، وممانعة ضد الفوضى والانقسام.
8 . رهان الغرب على استقرار تونس
إدراك القوى الغربية أن انهيار تونس يعني تهديدًا مباشرًا لأمن المتوسط وأوروبا.
9. تجربة عشر سنوات من حكم النهضة
فشل ذريع في تغيير منظومة التعليم والإدارة والهوية الوطنية. مما عزّز القناعة أن تونس عصيّة على نماذج “الأخونة” أو “الوهبنة”.
كلّ هذه العوامل تشكّل أحزمة حماية اجتماعيًة وسياسيّة ضد أي تدخّل أجنبي.
من هذا المنطلق، يظل الرهان الغربي على تغيير الأوضاع في تونس عبر الشارع، أو عبر تحالفات هجينة مع النهضة، مآله الفشل، ما دامت الدولة متجذّرة في وعي الناس. والشعب يملك ذاكرة تاريخية تميّز بين معركة الحريات، ومعركة التضليل التي تمارسها حركة النهضة، وفشل قيس سعيد في إخراج البلاد من محنتها، واستغلال بعض مكونات الطبقة الحاكمة الفرصة لتستفيد من الأوضاع. ثم إن الخوف الغربي من انتقال الفوضى نحو شمال المتوسط يردع المغامرات.
لكل هذا، بمنطق الدولة وصناعة القرار السيادي. لا يمكن الاعتقاد في سهولة اقتلاع النظام ضدّ إرادة أغلبية الشعب اتكاءً على رغبات تشبه شهوات الأطفال، على غرار مقترحات الأستاذ محمد عبّو، أو تحالفات انتهازية ضئيلة وعارضة. فلكل دولة بنيتها العميقة، وأجهزتها الصلبة، وذاكرتها التاريخية التي تشكّل وعي المجتمع وتحدد ملامح المجال السياسي الممكن. وتونس، خلافًا لما يتوهّمه البعض، ليست كيانًا هشًّا يمكن تفكيكه أو إعادة تركيبه بقرار غربي. فالدولة التونسية، بحكم تاريخها وخصائصها الثقافية والاجتماعية، ذات مناعة كامنة، مستمدّة من تماسك شعبها، وخصوصية إسلامها المدني، وتجربتها الإصلاحية المتجذّرة.
وفي صلب هذا المعطى البنيوي، يتعذر على أي معارضة هشّة أخلاقيا وسياسيا وتفتقد للعمق الشعبي الإطاحة برئيس مُحاط بمؤسّسة عسكرية تفعل ولا تُثرثر، ولا تستهويها الأضواء. ولها ارتباطاتها الدولية المتينة، خاصة إذا كانت المعارضة لا تملك أي مشروع سوى استعادة نفوذ حركة النهضة وحلفائها، الذين أسقطهم الشارع يوم 25 جويلية.
فالشرعية الرمزية لإجراءات 25 جويلية التي طالب بها الناس (بقطع النظر على الانحراف بها عن مطالب الشعب)، لم تصدر عن فرد، بل عن جهاز دولة متماسك، وعن أجهزة عسكرية وأمنية نفّذت تلك القرارات، وارتبط مصيرها السياسي والقانوني بمآلاتها. وأي تراجع الآن سيعني ملاحقة هذه الأجهزة قضائيًا وأمنيًا في المستقبل.
من جهة أخرى القوى الدولية، مهما اختلفت حساباتها، لا تراهن على معركة خاسرة، يقودها تحالف هجين بين الإسلام السياسي وبعض اليسار المأزوم، في جبهتين متجاورتين، مكشوفتين، ومعزولتين شعبيا.
ضمن إطار هذا المشهد، هنالك حالة متميّزة، وهي الشباب الرافض لخيارات قيس سعيّد، متحمّس للدفاع عن الحرية، ويتحرك خارج كل السياقات الانتهازية. وهو، في معظمه، يرفض عودة النهضة من جهة، ويرفض تغوّل الأجهزة وميلها لغلق مساحات الحرية من جهة أخرى.
هذا الشباب، سيدرك خلال المسيرة، أن معركته الحقيقية تتمثل في فرض إصلاح سياسي جذري يتجاوز السلطة والمعارضة معًا. وأن هذا المشروع يحتاج سندًا شعبيا عارما، لن يتحقّق إلا بالقطع مع المنظومة الإخوانية التي طوتها تونس العميقة إلى الأبد. وإلى أن يستفيق هذا الوعي، سيظل النظام القائم محصنًا من السقوط. لأن الزمن السياسي يصنعه من يمسك بالمفاصل، لا من يلوّح بالشعارات. وتونس، بحكم انتظام مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وارتباط أجهزتها التنفيذية بمصير النظام القائم، ليست قابلة للانقلاب الناعم أو الخشن. ولعل الدول التي قامت بإجراءات استثنائية ونجحت في تثبيت أنظمتها، لم تكن تفعل ذلك اعتمادًا على شرعية الشارع وحده، بل على تماسك مؤسسات الدولة أيضا، والتي إذا انفرط عقدها سقط الجميع.
في ظني، أن ما يجب إدراكه، أن الغرب، على واقعيته الباردة، لن يغامر بالارتماء في ساحة محفوفة بالفشل، في بلد يمتلك دولة حقيقية، التفت على أعصابها أفعى متعددة الرؤوس لمدة عشر سنوات، حتى ظن الناس أنها ماتت. وفي لحظة فارقة نهضت، فنفضت الأفعى وداست عليها في رمشة عين. وبلد فيه شعب قديم، مُجرّب وعنيد، يرفض عودة النهضة، ولا يرى في المعارضة الحالية بديلاً حقيقيًا. وبحكم الخبرة هو من أخطر شعوب الأرض، إذ يُعطي الانطباع بأنه غافل وغِرّ، فيما هو يراقب ويسجل، وينتظر ساعة الحساب.
وإذن فالمعركة، في تقدير القوى الخارجية، يستحيل خوضها دون توفر تحالف سياسي واسع مدعوم بالشارع العميق في المدن الداخلية، وليس في شارع محمد الخامس، وتنخرط في هذا التحالف مؤسسات الدولة، وأطراف إقليمية ودولية وازنة ومساندة. وهذه العناصر منعدمة الآن.
وأنا هنا، بمنتهى الصّدق والصّراحة أشكّ في نضج قراءة المعارضة للدور الدولي الذي تراهن عليه. ولا أدري إلى أيّ حدّ يفرّق هؤلاء الناس بين حاجة الغرب للتواصل معهم، لِتبرير ادّعادئه الوصاية على الديمقراطية، ولكسب ورقة ضغط تساعده على احتواء النظام. وبين حاجته الاستراتيجية لتغيير نظام الحكم في تونس.
وبهذا الصّدد أنصح المعارضة بأخذ هذا التمييز مأخذ الجدّ لأن الدول الغربية، منذ وستفاليا 1648، أسست لعقلنة إدارة الصراع والعلاقات الدولية، وراكمت على مرّ القرون، أدوات تحليل ومراكز تفكير واستراتيجيات تأخذ في الاعتبار موازين القوى الداخلية في أي دولة، والسياقات الاجتماعية، وكلفة التدخل، والأثر على المصالح طويلة المدى. بما يجعلني أرى، فكرة الإطاحة بقيس سعيّد من الخارج صعبة لثلاثة أسباب متشابكة:
1. الشرعية الشكلية: قيس سعيد، رغم مآخذنا عليه، يظل منتخبًا شعبيًا (ولو بسردية الصندوق) وليس من السهل أن توافق مراكز البحوث والاستخبارات الجاثمة وراء مكاتب اتخاذ القرار الغربية، على إسقاط رئيس منتخب، مازالت الأغلبية تقف إلى جانبه.
2. غياب بديل موثوق: الدول الغربية تتعامل ببراغماتية. لا يهمها إسقاط شخص بعينه، بقدر ما يهمها من سيأتي بعده. والطبقة السياسية التونسية اليوم مُفكّكة، ولا تُقدّم ضمانات للاستقرار أو وضوح المصالح.
3. حسابات الجوار والهجرة والأمن: أي فوضى في تونس قد تنعكس مباشرة على شواطئ إيطاليا وفرنسا وعمق المتوسط. والغرب، منذ 2011، تعلم من تجربة ليبيا. لذلك يفضّل ترك الوضع مستقرًّا ما أمكن الاستقرار، مع ممارسة ضغوط ناعمة تدريجية بدل تدخل فجّ.
أضف إلى أن الغرب الآن منهمك في أولويات أكبر: أوكرانيا، غزة، ملف الصين… وتونس ليست على رأس قائمة "الطوارئ الاستراتيجية" بالنسبة لهم. ولن تتحرك الدول الغربية ضد قيس سعيد، إلا إذا انهار الوضع الداخلي تمامًا. أو ظهر فاعل سياسي بديل يتمتع بشرعية داخلية ودولية معًا. والغربيون، بحساباتهم العقلانية، يفضلون في الظروف الحالية، إدارة الأزمة بدل تفجيرها.
بالنتيجة، الإطاحة بقيس سعيّد في الوقت الرّاهن، بالمعطى الواقعي، مسألة تقع في باب المستحيل، طالما أن المعارضة بلا مشروع يقطع مع الإسلام السياسي بوضوح، ويحظى بتأييد شعبي. وطالما أجهزة الدولة ظلت على ولائها للرئيس. وطالما العامل الدولي منشغل في قضايا أكبر. ويدرك أن أي محاولة متهورة لإزاحته، ستؤدي إلى اضطرابات خطيرة، لا تملك جبهة الخلاص ولا وُكلائها أدوات التحكم في تبعاتها، ولا مشروعًا جامعًا لإدارة ما بعدها.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟