جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 02:20
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
عادة ما كان يقترن الاحتفال بعيد العمال العالمي، في تونس كما في الكثير من البلدان الأخرى، بتحقيق مكاسب مادية ومهنية جديدة لفائدة العمال. فكان يتم مثلا توزيع "زي الشغل" على العمال في المصانع وفي بعض المؤسسات الأخرى. وزمن كان الاحتفال بعيد العمال يقع في شكل كرنفال تستعرض تشكيلات من العمال من مختلف القطاعات والمؤسسات والأسلاك في شوارع المدن حاملة البدلات الجديدة من زي الشغل الأزرق bleu de chauffe الذي تم توزيعه عليهم بالمناسبة. زي الشغل هو حق من الحقوق العينية التي افتكتها النقابات وكان يجري بخصوصه جولات من المفاوضات في إطار "لجان الإكساء وزي الشغل" Commission d’habillement بتركيبة مشتركة بين ممثلي المشغِّلِ وممثلين عن العمال من أعضاء النقابات أو من أعضاء اللجان الإدارية المتناصفة. وفي بعض التجارب والقطاعات يقع انتخاب ممثلي العمال خصيصا وبشكل منفصل لهذه الهيئة المسؤولة عن اختيار زي الشغل. وتتولى هذه اللجان على امتداد أسابيع وحتى أشهر دراسة العروض وفرز العينات لاختيار أفضل زي يليق بالعمال. وفي بعض الحالات تجري مفاوضات لتحديد المبلغ المالي الذي يتعين على المؤسسة تخصيصه لاقتناء الأزياء أو في بعض الحالات يقع توزيعه نقدا على الأعوان والعمال. كل هذه الصيغ والأساليب كانت تحظى باهتمام العمال والنّقابات ويمثّل عيد الشّغل المناسبة الّتي ينتظرها الجميع بشغف للحصول على ذلك المكسب التّاريخي المهم.
مكسب آخر لا يقل أهميّة عادة ما يقع الإعْلان عنه بمناسبة غرّة ماي، هو الزّيادة في الأجْر الأدنى الصّناعي المضمون SMIG والأجر الأدنى الفلاحي المضمون SMAG. وقبل ذلك الإعلان عادة ما يكون قد تم التفاوض بشأنهما مع السلط الحاكمة والأعراف. وقد طورت النقابات رؤيتها في تقنيات احتساب قيمة الزيادة حتى أصبحت عملية حسابية دقيقة – وأحيانا معقدة –بغاية تحقيق زيادات ذات قيمة من شأنها أن تدخل تحسينات جدية وحقيقية على المقدرة الشرائية للعمال. وتشمل هذه الزيادات أجور عمال القطاع الخاص في الصناعة SMIG والخدمات وفي الفلاحة SMAG.
وإلى جانب ذلك كانت احتفالات غرة ماي موعدا للإعلان عن الزيادات العامّة في الأجور وعن الاتّفاقات بخصوص مراجعة القوانين الأساسية والاتّفاقيات القطاعية والعقود المشتركة.
خلاصة القول إنّ عيد العمال العالمي فضلا عن المعاني الجوهرية الأخرى التي كان يحملها، يمثل مناسبة تنضاف فيها مكاسب جديدة للعمال في شكل مداخيل مادية جديدة تحسن مقدرتهم المعيشية أو في شكل امتيازات عينية تطوّر ظروف عيشهم أو في شكل أحكام قانونية وإجراءات وتراتيب تضمن الاستقرار في الشغل وتحميهم أكثر فأكثر من أساليب الاستغلال والتعسف والانتهاكات.
وقد راكمت الطبقة العاملة التونسية من خلال حركتها النقابية وخاصّة بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل خبرة مهمّة في هذا المجال حيث أرست قواعد تجربة متميّزة في سياسة المفاوضات والحوار الاجتماعي مكنتها من إحراز مكاسب ذات بال.
لمحة من تاريخ المفاوضات الاجتماعية في تونس
إنّ ما تحقق في مجال "المفاوضة الجماعية" في تونس يُعْتبَرُ عنوانَ المكاسب النّقابية، إذ بواسطتها أمكن اقتلاع الكثير من المنافع المادية والمهنية والمعنوية للعمّال. لا شك في أنّ قيمة هذه المكاسب مرتبط بطبيعة موازين القوى الطبقية العامة، بين السلطة والأعراف من جهة والعمال ونقاباتهم من جهة أخرى ولكن مع ذلك يمكن القول إنها لبّت، وإِنْ في حدود، جزءا من مطالب الشّغالين وغطّت إلى حد ما قسما من احتياجاتهم.
تاريخ 20 مارس 1973 هو – على العموم – تاريخ انطلاق تجربة المفاوضات الاجتماعية والحوار الاجتماعي في تونس فيما أسمي آنذاك "السياسة التعاقدية". ففي هذا التاريخ تم إمضاء الاتفاقية الإطارية المشتركة بين اتحاد الشغل واتحاد الأعراف بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية وبمساعدة منظمة العمل الدولية. وقد انبنت هذه الاتفاقية على مجموعة من المبادئ والأهداف نذكر منها كما جاء في توطئتها:
“-إرساء العلاقات المهنية بين أرباب العمل والعمال على "حوار حرّ، في كنف احترام مصالح المجموعة بأكملها".
- العمل من أجل "تنمية الإنتاج الاقتصادي وتوزيع عادل للدخل الوطني".
- ضمان تحسين مستوى عيش العمال، تبعا لتطور الإنتاج والزيادة في الإنتاجية (1)
- العمل معا للوصول إلى تحديد أجور العمال على أساس تعاقدي، مع الأخذ بعين الاعتبار معطيات الاقتصاد الوطني وتبعا لنتائج المؤسسات وللظرفية الاقتصادية.
- الأجور يجب أن تضبط باتفاق مشترك، مع الأخذ بعين الاعتبار لأجر أدنى يضبط على أساس غلاء المعيشة وتبعا لاختصاص العمال ومواصفات الإنتاج".
ونتيجة لذلك انطلق العمل بهذه الاتّفاقية ابتداء من سنة 1974 وفي إطارها تمّ إمضاءُ 37 اتّفاقية قطاعية مُشْتركة و70 قانونا أساسيّا شمِلتْ كل قطاعات الصّناعة والتّجارة والمُؤسّسات العمومية وبفَضْلِها تمّ الترفيع في الأجُور وتحْسين المقدرة الشّرائية لعمومِ الشغالين. غير أنّ هذا التحسين لم يرتق إلى التّعويض عمّا لحق القُدرة الشّرائية من اهتراء طيلة عشريّة السّتّينات السّابقة. لذلك استمرت الحركة الإضرابية وارتفع مَنْسُوبُها مع مرّ الأيّام الأمرُ الذي أَجبَرَ الحكومةَ على بعث آلية جديدة لاحْتواء الوضع ووضع منهجية لـ"مراجعة الأجور بصفة آليّة كلّما ارتفعت الأسْعار بأكثر من 5% واستقرّت في هذا المستوى ستّة أشهر متتالية" بعد أن تمّ الاتّفاق على زيادة بـ 33% في الأجْر الأدنى و10 دنانير شهريّا لكل الأجراء مقابل الالتزام بالسّلم الاجتماعية لمدة خمسِ سنوات. تم إمضاء هذه الاتفاقية يوم 19 جانفي 1977 بإشراف نويرة رئيس الحكومة ولم تتوقّف مزاياها عِنْدَ مجرد الزيادة المذكورة. فقد أقرّت مراجعة الفصل 51 من مجلة الشّغل الذي كان يَمنعُ الإضرابات فحرّرت بذلك الحقّ في الإضْراب رغم أنّها قيّدتْهُ بشرطين اثنين هما مصادقة المركزية النّقابية وتقديم إعلام به للأطراف ذات العلاقة (وزارات، تفقدية الشغل الخ...) قبل عشرة أيام حتى يكون الإضراب مستوفيا لشروطه القانونية. وعلاوة على ذلك فقد كانت الاتّفاقيات المشتركة والقوانين الأساسية للمؤسّسات العمومية مصحوبة بسلّم الأجور (grille de salaire) تُمَكّنُ الأجراء مِنَ التّرقية الآلية حسب الأقدمية وسنّت منحة الإنتاج وبعض المنح الصّنفية الأخرى حسب القطاعات.
والحقيقة أنّ هذه الاتّفاقية جاءت في سياق توجّه كامل عنوانه "خطة الرقي الاجتماعي" التي شهدت أيضا سَحْبَ منحة الأجر الوحيد على الأُجَرَاءِ في القطاع الخاصّ وقد كانت تُسْنَدُ فقط إلى أعوان الوظيفة العمومية، وأُنْشِئَ نظام التّقاعد والعجز بالنسبةإلى العاملين في القطاع غير الفلاحي، مع ضمان حدّ أدنى من جرايات التّقاعد يساوي ثلثي الأجر الصناعي المضمون. كما تم إحداث صندوق خاص للنهوض بالسكن الاجتماعي، يساهم فيه الأعراف بنسبة 2% من الأجور وهو مخصص لبناء المساكن الاجتماعية وفي نفس الوقت انطلق برنامج بناء المساكن الاجتماعية الممولة من صندوق الضمان الاجتماعي وتولت الدولة تدعيم أسعار موارد الاستهلاك الأساسية (الحبوب ومشتقاتها، الزيت، اللّحم، السّكر، القهوة والمحروقات والنّقل العمومي والكرّاس المَدْرسي) عن طريق صندوق أُحْدِثَ للغرض وهو صندوق التّعويض.
ولكن هذه الاتفاقية لم يكتب لها أَنْ تُعَمّرَ طويلا ذلك أنّ تسارع الأحداث أدّى إلى المصادمة الكبرى عوضا عن استتباب السلم الاجتماعي. ففي أقلّ من سنة تصاعدت وتيرة الإضرابات العمّالية وتدهورت العلاقة بين الاتّحاد والحكومة حدّ القطيعة ونشوب أول إضراب عام في تاريخ تونس يوم 26 جانفي 1978 ونزول الجيش إلى الشارع وسقوط مئات الشّهداء وآلاف الضّحايا والانقلاب على الاتحاد العام التونسي للشغل والزج بالقيادة النقابية في السجن ومحاكمة أعضائها في واحدة من أكبر المحاكمات السّياسية في تاريخ البلاد.
سياسة تعاقدية بلا مرجعية
رغم استعادة الاتّحاد لشرعيته وعودته إلى النشاط بعد إزاحة حكومة نويرة وتولي محمد مزالي رئاسة حكومة "الانفتاح" وخوضه سلسلة من المفاوضات الاجتماعية في منتصف الثمانيات لم يحرز نتائج تذكر أولا بسبب توجه الحكومة نحو الإعلان عن زيادات من جانب واحد (زيادات رئيس الحكومة محمد مزالي) وثانيا بسبب ما شهدته الأوضاع العامة في تونس على جميع الأصعدة والمستويات، فقد انتهت تلك الفترة بفشل المفاوضات المباشرة بين الاتحاد والحكومة بخصوص الزيادة في الأجور ولجوء المنظمة النقابية من جديد إلى التصعيد (تجمع الوظيفة العمومية ّلأول مرة في تاريخ تونس 1984) الذي أدّى فيما أدّى لاحقا إلى أزمة جديدة وانقلاب جديد على الاتحاد وتنصيب ما يسمى بالشرفاء واستبعاد القيادة الشرعية ودخول الحركة النقابية والبلاد ككل في دهاليز أزمة عامة أدّت إلى انقلاب 7 نوفمبر 1987 ورحيل بورقيبة.
وحتى بعد طَيّ صفحة الأزمة وعودة الاتّحاد إلى النشاط بعد عقد مؤتمره الاستثنائي في سوسة أفريل 1989 لم تشهد السّياسة التعاقدية تغييرا جوهريا. فتم إرساء نظام تفاوضي جديد فيما يعرف بالمفاوضات الثلاثة (زيادات لكل 3 سنوات) جرت بمقتضاها جولات من التفاوض أدّت إلى زيادات متعاقبة وتم في بعض الجولات منها مراجعة القوانين الأساسية والاتفاقيات المشتركة التي بلغ عددها 52 اتّفاقية. وعلى خِلاف سياسة السّبعينات كانت المفاوضات في عهد بن علي تنطلق على أساس نِسَبٍ تُحدّدُها الحكومة (حتى وإن تمّ النّظر في نسب تقترحها المنظمة النقابية) في قطاع الوظيفية العمومية. وبناء على ما يقع الاتفاق فيه بخصوص هذه النسب يقع سحبها على القطاع العمومي (الشركات والدواوين العمومية) وعلى القطاع الخاص.
ما من شك في أنّ هذه الزيادات ساعدت إلى حدّ ما على حماية المقدرة الشّرائية ولكنها في المقابل ساعدت الحكومة على معالجة التضخم والموازنات العامة للدولة وشكلت قاعدة صلبة لسياسة السلم الاجتماعية ذلك الاتحاد كان يلتزم عقب كل اتفاقية ثلاثية بالإحجام عن الإضرابات وعدم المطالبة بمطالب ذات انعكاس مالي. وفي المقابل كانت الحكومة في كل مرّة تسحب باليد اليسرى ما أعطته باليد اليمنى. ولم تتعدّ تلك الزيادة مفعول التسكين المؤقت لآلام الاحتياج والفقر وتحوّل الاتحاد ما بين سنة 1990 وسنة 2010 إلى السند الاجتماعي لنظام بن علي. وبطبيعة الحال انعكست هذه السياسة "التعاقدية" الفاقدة لأي مرجعية واضحة (على خلاف اتفاقية 1977) بأن شهد العمل النقابي نوعا من الفتور وفقدت شعارات النضالية والاستقلالية شيئا من وهجها وحرارتها.
وتبخّر كل شيء تقريبا
تحيي الطبقة العاملة اليوم عيدها في وضع يتميّز باستفحال الأزمة العامّة التي تعصف بالبلاد والمجتمع والدّولة ولكن أيضا بالاتحاد العام التونسي للشغل وبالحركة النقابية والديمقراطية ككل. تحتفل وهي تحت وقع مشاعر الانكسار والبهتة والخوف منكّسة الرايات لا تقوى على رفع شعارات العادة إلا بصوت مبحوح ليس له صدى.
فمنذ 1921 تنكّر قيس سعيد الذي استوى على عرش الحكم إلاها واحدا أحدا لحق العمّال والمنظمة النقابية في التفاوض. ورغم صدور القانون المتعلق بإحداث المجلس الوطني للحوار الاجتماعي (2) فإنه لم يقع تفعيله ولم يقع احترام ما ورد في فصله الثاني (تأطير المفاوضات الاجتماعية... وتقديم مقترحات بخصوص تطور الأجر الأدنى المضمون في القطاعين الفلاحي وغير الفلاحي الخ...) لأنه ببساطة تم إلغاء المفاوضات الاجتماعية أصلا من قاموس منظومة سعيد الشعبوية. فشعارها هو اجتثاث كلّ الأطر السياسية التي تعبّر عن المجتمع، أحزابا ومنظمات وجمعيات ونقابات وتحت هذا الشعار سعت وتسعى إلى تفكيك الاتحاد واضمحلاله بتعلة "عدم رضاها" على رموز القيادة وهي في الحقيقة تستهدف حقوق العمال وسائر جماهير الشعب.
في الأثناء شهدت الأسعار ارتفاعا جنونيا وبلغ التضخم نسبا عالية كانت ذروتها سنة 2022 أكثر من 10% وافتقدت السوق الكثير من مواد الاستهلاك الأساسية وتراجعت قيمة الدينار بشكل لافت وارتفعت نسب البطالة والفقر وتردت حالة المرافق العمومية والخدمات الاجتماعية (المرافق الصحية والتعليمية وخدمات النقل الخ...).
وقد قابلت قيادة الاتحاد هذه الأوضاع بالانغماس في شؤونها الداخلية وهندسة الانقلاب على المكتسبات الديمقراطية القليلة في التسيير الداخلي (إلغاء الفصل 20 من النظام الداخلي) لاستدامة كراسيها وأدارت ظهرها لمطالب الشغالين تحت عنوان "النضال الصامت" فانفردت الحكومة بالإعلان عن زيادات مهزلة في الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي وبتنقيح أحكام مجلة الشغل وأوصدت باب المفاوضات حول الأجور والقوانين الأساسية والاتفاقيات القطاعية المشتركة.
تحتفل الطبقة العاملة التونسية ولا خبر عن زي الشغل أو عن الزيادة في الأجور أو عن تنقيح قوانين الشغل أو عن تفعيل مجلس الحوار الوطني. لقد ضاع كل شيء وتبخّر.
الهوامش:
1 – جاء في الميثاق الاجتماعي أنه حصل اتفاق بين الأطراف الموقعة عليه على تشكيل لجان لوضع مقاييس الإنتاج والإنتاجية في مختلف القطاعات ابتداء من سنة 1977 وذلك تنفيذا للاتفاق على الزيادة في الأجور كلما زادت الأسعار ولمدة 6 أشهر أكثر من 5% وأيضا وفق معدلات الإنتاج والإنتاجية.
2 – القانون عدد 54 لسنة 2017 المؤرخ في 24 جويلية 2017 المتعلق بإحداث المجلس الوطني للحوار الاجتماعي وضبط مشمولاته وكيفية تسييره.
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟