أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)















المزيد.....


الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 14:48
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


يُشتقّ مصطلح "الكَبْرَنة" من الجذر العربي (ك-ب-ر)، الذي تدور معانيه حول العِظَم والتبجيل. ومنه جاء الفعل الرباعي "أَكْبَرَ" بمعنى عظَّم وأجّل، ومصدره التقليدي "الإكبار". لكن "الكَبْرَنة" لا تشير إلى مجرد إكبار أو توقير، بل تُصاغ كمفهوم حديث على وزن "فَعْلَنَة"، وهو وزن نحتيّ بات يُستخدم في العلوم الاجتماعية والسياسية للدلالة على تحول سلوك أو فكرة إلى ظاهرة منظمة، كما في "العسكَرة"، "الفرعنَة"، و"البعثنة". وعلى وفق هذا الاشتقاق يمكن تعريف الكَبْرَنة بأنها:
ظاهرة سلوكية نفس-اجتماعية، تتمثل في تعظيم مبالغ فيه للسلطة العليا أو للقادة، غالبًا على نحو جماعي، يتجاوز حدود التقدير الطبيعي، ويتداخل مع التملق والنفاق، بل ويترافق في كثير من الأحيان مع عدوانية داخلية مكبوتة تجاه الرموز المعظَّمة.
هذه الظاهرة لا تُختزل في الإعجاب أو الاحترام، بل هي فعل جماعي مركّب، يخفي وراء طقوسه الاحتفالية والمبالغ فيها، مشاعر قهر وتوتر وتناقض داخلي .فهي تعظيم من الخارج، وخوف أو مصلحة أو حتى غضب في الداخل لا يمكن التعبير عنه، فيظهر على شكل ولاء مُزيَّف أو تبجيل إجباري. وهذا ما يجعل "الكبرنة" أكثر تعقيدًا من مجرد "نفاق سياسي"، وأقرب إلى آلية دفاع جماعية تستخدمها المجتمعات حين تُمنَع من النقد، ولا تملك أدوات المساءلة، فتلجأ إلى تضخيم الرمز الحاكم ثم الانقلاب عليه عند أول فرصة، تتجلى في السياق العراقي الحديث في عدد من المظاهر:
من إطلاق الألقاب الكبرى على الزعماء، إلى طقوس التصفيق والتقديس، مرورًا بكتابة الأشعار، وصولًا إلى نَسب الخوارق والإنجازات العظمى إليهم، ومن ثم الانقلاب الحاد والعدواني عليهم عند سقوطهم، أو حتى بمجرد تراجع مكانتهم. وهكذا تشكلت علاقة مشحونة بين المجتمع والسلطة، فيها الكثير من الإجلال الظاهري، والكبت الداخلي، والانفجار المؤجل.
من هنا تبدو الكَبْرَنة ليست مجرد خلل في علاقة المواطن بالحاكم، بل هي خلل في البنية الثقافية للسلطة نفسها، وفي وعي المجتمع بحدود الرمزية، والمسؤولية، والمساءلة.
المظاهر السلوكية لظاهرة الكَبْرَنة
تتجلى ظاهرة الكَبْرَنة في سلوكيات اجتماعية وسياسية وثقافية واسعة النطاق، تتسم بمزيج من المبالغة في التقديس، والإلغاء المتعمّد للذات الجمعية، والإذعان النفسي الطوعي أو القهري لرمز السلطة، من أبرز تجلياتها:
1. التضخيم اللغوي الرمزي. أحد أبرز مظاهر الكَبْرَنة هو التوسّع المفرط في استخدام الألقاب والمصطلحات التمجيدية عند الإشارة إلى قادة الدولة، أو شيوخ العشائر وأئمة الدين بحيث تتحول اللغة نفسها إلى أداة تأليه. وبسببها صار المجتمع يُطلق على المذكورين ألقاب وتسميات، مثل: قائد الضرورة – الأب القائد - سليل الدوحة النبوية - فارس الأمة – مولانا – سيدنا – محفوظ - الوجيه – المنقذ – سماحة – فخامة – دولة – معالي – حفظه الله – دام ظله...الخ.
وهي تسميات وألقاب تتجاوز الوظيفة الإدارية والسياسية للقائد، والشيخ والامام توحي بعصمة أو قداسة أو استثنائية خارقة.
في الزمن السابق، كانت أجهزة الإعلام الرسمي، توحي للمتحدثين باستخدام سلسلة ألقاب وأوصاف مثل "حفظه الله ورعاه" وقد يَرجع المقال أو يُرجع الى كاتبه إن لم يذيل بهذا الوصف الذي لم يكن ضمن السياق الأدبي للمقال، بل واجب سلوكي مفروض يُراقَب ويُحاسب عليه المخالف.
عندما انتهى حكم صدام، اعتقد الجمهور أنه تجاوز مرحلة الإكبار أو التأليه، لكنه ولم يمض وقت طويل إلا وعاود هذا السلوك وبدأ بإطلاق الألقاب بينها ألقاب كانت جديدة على المجتمع العراق مثل: فخامة لرئيس الجمهورية، ودولة لرئيس مجلس الوزراء، والمعالي للوزير ولمن بدرجته.
2. الطقوس الجماعية للتصفيق والولاء. تُفرض مظاهر الولاء للقادة على شكل طقوس شعبية رسمية، تتكرر في المؤتمرات، والمهرجانات، والمناسبات مثل التصفيق بحماس، والهتاف بأعلى الصوت، والوقوف عند ذكر الاسم، وتقبيل الصور، وإقامة الجداريات في وضع وكأن الرئيس أو الحاكم في مشهد فتوحات سياسية، يشارك فيها جميع الحضور موظفين كانوا أم طلاب أو إعلاميين، وحتى الضباط الذين كانت المهنية في التعامل مع الأعلى تحكمهم بالاستعداد وأداء التحية دون التصفيق والهتاف.
في إحدى المؤتمرات الحزبية أوقف الحضور التصفيق لصدام حسين بعد ما يقارب الدقيقتين، فقال أحد المسؤولين الحزبيين الموجودين في القاعة: هل تعبت أيديكم؟" فعاودوا التصفيق ليستمر أكثر من عشرة دقائق متواصلة في مشهد أقرب للامتثال القهري.
3. تشييد التماثيل والنُصُب والجداريات. يتحول الجسد السياسي للقائد في ذاك الزمان إلى مادة بصرية معبّأة، تُترجم على شكل تماثيل عملاقة، وجداريات، ومنشآت هندسية تحمل صورته أو اسمه، بهدف تثبيت حضوره الرمزي في الوعي المكاني والعاطفي للشعب، وقد أُقيم لصدام حسين وحده أكثر من 5000 نصب وتمثال في كل أنحاء العراق، حيث لم تخل محافظة من تمثال يُظهره بحركات جسدية مصمّمة بدقة. بل إن بعض الروايات تقول إن تمثالاً كان يُخطط له من الذهب الخالص، يُطلق إلى الفضاء الصناعي.
وتحولت في هذا الزمن الى صور وجداريات، ولو لم تكن هناك إشكالات دينية للتماثيل في الموروث الديني لشيدت في هذا الزمن مئات التماثيل.
4. إقحام الزعيم في تفاصيل الحياة اليومية. في ظاهرة الكَبْرَنة، لا يبقى الزعيم قائدًا سياسيًا فقط، بل يتحوّل إلى مُنظّر في الطب، وفيلسوف في التعليم، ومرجع في الأخلاق، ومُلهم في الرياضة، يتم نسب الفضل إليه في كل إنجاز، وذكره عند كل فرصة، حتى شاع في الخطب والمكاتبات الرسمية وفي كلا الزمنين عبارة بتوجيه من ... يقولها المدير عند انجاز عمل قام به من صلب واجباته في حضرة المدير العام، ويؤكدها المدير العام في حال افتتاحه مشروعاً يقع من ضمن أعمال مديريته بالإشارة الى أنه قد تم بتوجيه معالي السيد الوزير، وكذلك الوزير في نسبه الإنجاز بتوجيه من دولة رئيس مجلس الوزراء.
5. التهويل الإعلامي والتلفيق. من مظاهر الكَبْرَنة استخدام الإعلام أداة ترويج لإنجازات القائد حتى لو كانت وهمية، مع تغييب كامل لأي نقد أو مساءلة، حتى أصبحت نشرة الأخبار في محطة التلفزيون الحكومي نشيدًا للتمجيد، وتضخيم القرارات والأقوال والخطب وكأنها حدث تاريخي مصيري. فعند إطلاق "الحملة الإيمانية" مثلًا، تم تصوير صدام حسين وكأنه مصلحٌ دينيٌ، وأن مبادرته لهذه الحملة أعادت الروح إلى الإسلام الصحيح، رغم أن دوافعها كانت سياسية بالدرجة الأولى. وقد استمر الاعلاميون في هذا الزمان بمحاولة ذكر رئيس مجلس الوزراء أي كان في بدايات نشرات الأخبار وفي الصفحات الأولى من الصحف وإن كان الخبر الخاص به مجرد نشاط عادي .
6. الهستيريا الجماعية في الهدم بعد السقوط. أخطر مظاهر الكَبْرَنة لحظة الانهيار. إذ وعندما يسقط الرمز، يتحوّل الإكبار المَرَضي إلى عداء فوضوي، فيُهدم كل ما يتعلق به: التماثيل، الصور، الكتب، وحتى الإرث السياسي يُشوّه بالكامل، دون تفكير أو تحليل عقلاني، فسقوط تمثال صدام في ساحة الفردوس في 9/4/2003 لم يكن فقط سقوطًا لرمز بصري، بل تفجيرًا رمزيًا لكمية العدوان المكبوتة خلال عقود. وتكررت نفس الهستيريا مع تماثيل الزعماء السابقين.
الآثار النفسية للكبرنة في البيئة العراقية
لا تُعرَف الكَبْرَنة بالنصوص أو الشعارات، بل صيغة تفاعل لخزين الوعي تُرى وتُسمع وتُمارَس، إنها سلوك يتغلغل في طريقة الحديث عن الحاكم، وطقوس الاحتفال به وحجم حضوره في الفضاء العام، ومدى غيابه عن دائرة النقد. وعلى العموم كلما زاد عمق الكَبْرَنة في السلوك الجمعي، كانت نتائجها أشد تطرفًا عند الانهيار، نتائج لا تقتصر على طقوس التعظيم والتبجيل فحسب، بل تمتد لتخلف أثرًا نفسيًا عميقًا ومعقّدًا في شخصية الفرد والمجتمع، يتمثل في خلخلة التوازن النفسي، وانقسام الذات بين ما يُقال علنًا وما يُفكر به سرًا، من أبرز آثاره:
1. ثنائية التقديس والرفض. في ظل "الكبرنة"، يتعود الأفراد على إظهار الاحترام والولاء للزعيم علنًا، حتى وإن كانوا يحملون مشاعر رافضة أو ناقدة في داخلهم. تعارضٌ يوَّلِد ما يُعرف بـالتنافر المعرفي (Cognitive Dissonance)، وهو توتر نفسي ينشأ حين تتصادم معتقدات الفرد وقيمه مع سلوكه الظاهري أو ما يُفرض عليه اجتماعيًا. وكأن للمعني وجهان أحدهما علني يُبدي الطاعة والاحترام، وآخر داخلي يحتفظ بالرفض أو السخرية أو الغضب المكبوت . إنه آلية نفسية للدفاع والتكيّف مع واقع لا يتيح للفرد التعبير الحر عن ذاته الحقيقية.
كان سائد في الزمن السابق اجبار التلاميذ على ترديد عبارات الولاء للقائد في المدارس، وتمجيد الطلاب والموظفون والعسكريون أقوال القائد في التجمعات الرسمية، بينما يُخفون مشاعر التذمر أو المعارضة في أحاديثهم الخاصة، وبالتكرار تكرّست ثنائية في السلوك والمشاعر، يُمارس فيها الولاء كقناع اجتماعي، وتُختزن الحقيقة في الداخل كهمس أو صمت أو تهكم حذر.
2. الإحساس بالعجز الجماعي والتطبع مع القهر. تُعلِّم الكَبْرَنة الأفراد أن كل قوة ومبادرة ونجاح تنبع من "القائد"، فيتم تقزيم الذات الفردية والجمعية مقابل تضخيم صورة الزعيم. يؤدي هذا إلى حالة من العجز المكتسب تجعل الناس يشعرون بأن التغيير مستحيل دون إرادة عليا، حتى وإن عانوا من الظلم.
استمر كثيرون حتى بعد 2003 يرددون عبارة "احنه شعب ما يصير إلنا حاكم غير قوي"، وهو تعبير ناتج عن تراكم في خزين الوعي طويل زرعته الكَبْرَنة، بحيث يصبح القمع جزءًا من معادلة "الاستقرار".
3. الإفراط في الإسقاط والتخوين. عندما تسقط شخصية "القائد المعظَّم"، لا يواجه الناس انهيارًا سياسيًا فقط، بل صدمة نفسية نتيجة تهاوي الرمز الذي تعلقوا به قسرًا. فيحدث ما يُعرف بـ"رد الفعل الإسقاطي" (Projective Reaction)، حيث يُحمَّل القائد كل خطايا المرحلة، ويُنسى تمامًا دور المجتمع في صناعته.
بعد سقوط تمثال صدام، لم يجرِ فقط تحطيم التماثيل، بل جرى تحطيم كل مظاهر المرحلة، وسُحِبَ التقدير السابق بسرعة إلى أقصى طرف نقيض، وبات الكثير منا يكرر "كنا مغفّلين - كلنا منافقين - هو السبب بكل الخراب - ...الخ" إنه نوع من التفكير لا يسمح بتحليل نقدي متوازن، بل يعيد إنتاج الكَبْرَنة بشخص جديد.
4. تضخم الشعور بالذنب بعد زوال السلطة. ان الذين بالغوا في تمجيد الحاكم غالبًا ما يواجهون لاحقًا شعورًا بالذنب أو بالذل، خاصة حين تتغير المعادلة السياسية. وهذا يولد فيهم نوعًا من الاحتقار الذاتي أو العنف المعكوس تجاه النفس والمجتمع.
كان هناك من أبناء المجتمع أطباء، أدباء، ضباط، فنانون ورجال دين يُظهرون الولاء للنظام السابق، وجدوا أنفسهم بعد سقوطه في مواجهة الماضي، فتوجه البعض الى نفي الدور، وسقط البعض الآخر في عزلة اجتماعية ونفسية، واختار آخرون الصمت، وآخرون غيرهم حاولوا تبييض سيرهم بالكتابة والانتماء والتأييد، وكل ذلك يعكس اضطراب ما بعد التبجيل.
5. تكرار النمط في انتظار "مخلّص جديد". من أخطر الآثار النفسية للكَبْرَنة هو ترسيخ نمط "القائد المُخلّص"، بحيث يتكرر المشهد ذاته في خط مستقيم: سقوط الرمز- الفوضى - انتظار زعيم قوي يعيد الهيبة. وعلى هذا الخط تنتقل الكَبْرَنة من شخص لآخر، دون بناء وعي جمعي يرسّخ مفاهيم الدولة والمؤسسات.
بعد 2003، تعاقب على المشهد السياسي زعماء جدد، واختبر الناس الكَبْرَنة بشكل جديد: من رفع صور فلان في المظاهرات، وشم إطار سيارات الرمز إلى إطلاق ألقاب مثل: القائد - أبو التغيير – ولي الدم - الأب الروحي دون مساءلة حقيقية لأدائهم.
إن الأثر لمثل هكذا ظواهر في النفس طويل الأمد، يتسع كلما استمرت الظاهرة لتطال انعدام الثقة، والخضوع، والتناقض الداخلي، والسخرية السوداء، والحاجة المستمرة لزعيم خارق أي أنها لا تنتهي بزوال نظام بل تترسخ في خزين الوعي المجتمعي، وتنتقل من جيل الى جيل.
الأسباب الثقافية والاجتماعية لظاهرة الكَبْرَنة
لا تنشأ ظاهرة "الكَبْرَنة" ولا أية ظاهرة من فراغ، بل تتغذى على أرضية ثقافية واجتماعية خصبة تشجع على تمجيد السلطة وتضخيم الرموز، وفي السياق العراقي، تتداخل عدة عوامل ثقافية وتاريخية واجتماعية جعلت من الكَبْرَنة نمطًا متجذرًا في علاقة الفرد بالحاكم، لأسباب أهمها:
1. الإرث القبلي والبنية الأبوية. يُعَدّ المجتمع العراقي، بجذوره القَبَلية والعشائرية، من المجتمعات ذات الطابع الأبوي الصارم، حيث يُنظر إلى الزعيم أو الأمير أو الشيخ بوصفه الأب المطلق، صاحب السلطة والرحمة والعقاب، نموج إكبار ينتقل من "شيخ العشيرة" إلى "قائد الدولة"، حيث يُمنح الحاكم خصائص استثنائية، تحول دون انتقاده أو يصبح من العيب انتقاده، كما يُحرَّم نقد الأب في الثقافة العائلية:
عند وصف أحمد حسن البكر بـ"الأب القائد"، لم يكن مجرد توصيف رمزي، بل امتدادًا لسلوك جماعي يخلط بين الحاكم والقيم الأبوية التقليدية، مما يبرر الطاعة ويُحرِّم العصيان.
2. الإرث السياسي السلطوي والتقلبات الدموية. منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، عايش العراق سلسلة من الانقلابات، والاغتيالات، والثورات التي رسّخت ذهنية الخوف والرضوخ، وسقط فيها غالب الزعماء بشكل دموي، فتعلّم الناس التماهي مع السلطة لا حبًا بها، بل حمايةً للذات من ظلمها، وبالتكرار أصبح التعظيم غطاءً للخوف، والتملق آلية دفاعية في مواجهة القمع، وأصبح التهليل للقائد أحد سبل النجاة، وتطورت قدرة الناس لقراءة الواقع والدفع باتجاه مشاركة الواقع.
3. غياب الثقافة النقدية وضعف التعليم التنويري. الثقافة العراقية، رغم غناها الأدبي والفكري، عانت من فترات طويلة من التسييس والتأميم الثقافي، ما جعلها تفتقر إلى أدوات التحليل والنقد والشك البنّاء. وعندما تُختزل الثقافة في "الشعر المناسباتي" و"الجداريات الرسمية" و"المناهج المدرسية الممجدة"، يتحول الجمهور إلى مستهلك رمزي لصورة الزعيم، ويغيب التفكير النقدي:
ان قصائد مدح القائد في المهرجانات، ووضع صور الزعيم في الصفوف المدرسية والمناهج الدراسية، جعلت الأطفال يُربّون على تقديس الصورة أكثر من تحليلها.
4. الإعلام الدعائي وأسطرة السلطة. الإعلام العراقي، خصوصًا في الحقبة البعثية، كان أداة مركزية في صناعة "القائد الضرورة"، حيث اختزل الوطن بشخص واحد، وخلّد اسمه في كل نشيد ومَعلم، وحين تتكرر عبارات مثل: "قائدنا المنقذ"، "فارس الأمة"، "رمز العرب"، دون وجود إعلام نقدي مضاد، تُصبح هذه العبارات معتقدًا جماهيريًا. وتصبح التماثيل التي تنتشر في كل المدن، والأناشيد المدرسية مثل "بالروح بالدم نفديك يا صدام"، والاحتفالات بكل المناسبات وأعياد الميلاد، عامل تعزيز لصورة الزعيم في لاوعي الناس، لا كمسؤول، بل كـقدر.
5. الدين المسيس وتبرير الخضوع. في عديد من الفترات الزمنية والى يومنا هذا، يجرى توظيف الدين لإضفاء طابع القداسة على السلطة، واستخدام آيات وأحاديث تُحرِّم الخروج على الحاكم، لتبرير الطاعة المطلقة، مهما بلغت قسوته. وحين يُربط بين "طاعة ولي الأمر" و"طاعة الله"، تتجذر مفاهيم الخنوع، ويُحوَّل الزعيم من كائن سياسي قابل للمحاسبة، إلى شخصية شبه مقدسة لا يجوز المساس بها، أضيف اليها في الوقت الراهن بث لقنوات فضائية دينية، ومواقف لمراجع دينية، تؤكد على الطاعة العمياء لزعامات سياسية بدعوى المحافظة على وحدة الطائفة أو درء الفتنة، مما أعاد تدوير الكَبْرَنة بأشكال دينية.
6. النكتة السياسية كتنفيس لا كتحليل. رغم أن العراقيين من بين الشعوب التي تستخدم السخرية والنكتة السياسية، إلا أنها غالبًا ما تكون وسيلة للتنفيس وليست أداة لتغيير حقيقي أو مساءلة. كذلك تُستخدم أي النكتة لتقويض صورة الزعيم سريًا، إلا انها لا تُترجم إلى موقف علني، مما يُبقي الكَبْرَنة قائمة في العلن، وإفراغ الطاقة الاحتجاجية في السر:
كان العراقيون يتداولون نكات عن صدام بذكاء ساخر وسرية عالية، لكنهم في المناسبات الرسمية يرفعون صوره ويهتفون باسمه، وهو ما يعكس ثقافة "الخضوع الواعي" أكثر من الثورة الصادقة.
إنها أسباب مجتمعة تُغذّي، ظاهرة الكَبْرَنة في العراق، وتجعلها تتكرر بصيغ مختلفة رغم تغير الوجوه والأنظمة، سيظل على وفقها المجتمع يبحث عن "قائد جديد" يُصفّق له... ثم يسقطه لاحقًا في دائرة لا تنتهي من الإكبار والعداء.
نماذج معاصرة للكَبْرَنة
يزخر المشهد العراقي في الزمن الحالي بمظاهر الكَبْرَنة" بشكلٍ واضح، وإن تغيّرت الأساليب من تماثيل البرونز والرخام إلى الجيوش إلكترونية، ومن هتافات الشارع إلى تعظيم الشاشة والترويج الإعلامي، بينها:
1. الكبرنة الحزبية: الزعيم الحصين في خطاب أتباعه. لقد أصبح الحديث عن القيادات الحزبية الدينية أو نقدها نقدًا ناعمًا – محرمًا ضمن الدوائر المحيطة بها، وقد يمتد أحيانًا الى الشارع. وشاعت بعض الألقاب مثل "حكيم الأمة"، أو "سيد المقاومة"، أو "صمام الأمان"، وهي أوصاف تُطلق بتلقائية أو بتوجيه حزبي لا تقبل النقاش أو المعارضة، وفي المحيط الحزبي أو التجمع الديني تُمنع الإشارة للزعيم والمرجع بالاسم الأول فقط، ويُفرض استخدام ألقاب مثل السماحة والشيخ المفدى ...الخ، مما يرسّخ هيبة إكبار مصطنعة.
2. الكَبْرَنة الرقمية: جيوش إلكترونية لحماية الصنم. انتقل التمجيد من ساحة المدينة إلى فضاء الإنترنت، فكثرت الحسابات الوهمية والجيوش الإلكترونية حتى أضحت أدوات كبرنة حديثة، تفرض خطابًا واحدًا وتخوّن كل مخالف، وأصبحت التغريدة التي تنتقد زعيمًا حزبيًا أو قائدًا ميليشياويًا، محرّمة، وقد تجرّ على صاحبها حملة من الشتائم والتخوين، بل وحتى التهديد المباشر. وأصبح استخدام الوسوم مثل: #القائد الضرورة، أو # منقذ العراق، في كل مناسبة، حتى وإن كانت بعيدة عن السياسة تمامًا.
3. الكَبْرَنة الدينية: تغليف القائد بهالة الشرعية الإلهية. في بعض الحالات، يتقاطع التقديس الديني مع التمجيد السياسي، ويُحاط الزعيم بهالة من الطهرانية، وكأنه معصوم عن الخطأ أو موفد بقدر إلهي، حتى راح البعض يشبهون بعض القادة المعاصرين بالإمام الحسين (ع) في خطابات سياسية، ويستخدمون آيات قرآنية في الترويج لزعامات دنيوية، وكأنهم مأمورون من السماء.
4. الكَبْرَنة الأكاديمية: تزييف العلم لخدمة الزعامة. تم تسخير بعض الأكاديميين لكتابة بحوث جامعية تمجد زعماء معاصرين، وتُدرّس في أقسام العلوم السياسية أو الإعلام، وتم إعداد رسائل ماجستير ودكتوراه عن "الحكمة القيادية لفلان"، أو "دور فلان في بناء العراق الجديد"، بدون أي نقد موضوعي أو توازن علمي، وكذلك تأسيس جامعات تحمل أسماء دينية، يراد لها أن تُعامل كرموز مقدسة لا يجوز المساس بها ( جامعة الإمام الصادق – جامعة الامام الكاظم – جامعة الزهراء للبنات – جامعة أهل البيت - جامعة الكفيل – جامعة وارث الأنبياء)
5. الكَبْرَنة المُسلحة: قدسية البندقية المرتبطة بالزعيم. في غالب الجماعات المسلحة التي تأسست بعد 2012 لمقاتلة داعش والدفاع عن الطائفة، أصبح القادة فيها ليس فقط رؤوس التنظيم، بل هم "رموز الجهاد"، والطعن بهم يُعد خيانة عظمى، علقت صورهم في الشوارع إلى جانب "صور الشهداء"، وأصدرت بيانات عسكرية بأسمائهم أو مقاطع تُروَّج لهم كمنقذين "روحانيين وعسكريين" في آنٍ واحد. ما يُضفي عليهم صفة الفداء والتضحية دون أن يكونوا فعليًا هم كذلك.
وختامًا يمكن القول: أن الكَبْرَنة ما تزال تحتل حيزًا في خزين الوعي الجمعي العراقي، لكنها وبتأثير تفاعل هذا الخزين مع الواقع الجديد غيّرت جلدها. انتقلت من "كاريزما الفرد الواحد" إلى "هالة الجماعة" أو "الرمز المقدس"، ومن تصفيق الشوارع إلى اللايكات والهاشتاغات، ومع هذا بقي الجوهر كما هو:
سلطةٌ ينفخ فيها المجتمعُ حدودَ التأليه، حتى إذا تهاوى وهجُها تحت ثقل التناقضات، سَحقَها بزهوٍ.
***



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية
- توازن المواقف القلق
- الشيخ والدولة
- تعري الطفولة الآثم
- 8 شباط تعزيز للهدم المنظم
- المساءلة والعدالة
- إلتقاء التضاد في خراب البلاد
- خلع العباءة لا يكفي
- لوثة في خلايا عقل
- نصف الحكاية
- ذكرى نهاية حرب
- معركة الموصل وعملية استثمار الفوز


المزيد.....




- أردوغان: تركيا لن تسمح بأي كيانٍ آخر غير سوريا موحدة
- حدث خيري في موسكو يفرش السجادة الحمراء لكلاب فرنسية هجرها أص ...
- إسرائيل تستهدف مسلحين -تحضروا لتنفيذ هجوم ضد الدروز جنوب دمش ...
- مهام صعبة بانتظاره.. من يكون وزير خارجية ألمانيا القادم؟
- رئيس الأركان الإسرائيلي يوعز بالاستعداد لمهاجمة أهداف سورية ...
- مفتي سوريا يدعو السوريين لنبذ الفتن تعليقا على الاشتباكات بب ...
- أردوغان: هجمات إسرائيل على سوريا محاولة لتقويض المناخ الإيجا ...
- مدير أمن ريف دمشق يكشف تفاصيل جديدة عن أحداث جرمانا وأشرفية ...
- غارات إسرائيلية تستهدف أشرفية صحنايا في محيط العاصمة السورية ...
- غارة إسرائيلية تستهدف أشرفية صحنايا بريف دمشق وأنباء عن تحلي ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)