|
رواية الخبز الأسود للدكتور عمر الصديقي أو دعوة مفتوحة لكتاب السيناريو
عزيز باكوش
إعلامي من المغرب
(Bakouch Azziz)
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 14:03
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الرباط المعرض الدولي للكتاب والنشر النسخة 30 أبريل 2025 تقديم رواية الخبز الأسود للدكتور عمر الصديقي أود في البداية، أن أتقدم بالشكر الجزيل للمندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير على توفيرها فرصة هذا اللقاء المبارك . وهو بالتأكيد فرصة سانحة للتواصل والتداول في موضوع غاية في الأهمية. إنه بمثابة نداء للذاكرة الوطنية. الشكر موصول أيضا للسيد مصطفى لكثيري المندوب السامي للمقاومة وأعضاء جيش التحرير على حضوره فعاليات الندوة الفكرية حتى النهاية رغم انشغالاته كما نتوجه بشكر خاص للسيد د عبد الحميد لمودن رئيس قسم الدراسات التاريخية بالمندوبية السامية للمقاومين وأعضاء جيش التحرير على تيسيره الندوة وإثرائه فقراتها باقتدار وكفاءة عالية . وكذلك عن دوره الطلائعي ضمن هيئة تحرير المجلة التي تصدرها المندوبية السامية وطاقمها الساهر على تحرير نصوصها وإصداراتها الأدبية و العلمية القيمة . دون أن ننسى الجهود التي بذلها المندوب الإقليمي للمندوبية السامية للمقاومين وأعضاء جيش التحرير بتازة في التنسيق المحكم بين الشركاء والمتدخلين . شكر وامتنان مفعم بالمحبة على ما تقدمه هذه الهيئة للقراء المغاربة والعرب من عناوين جديدة ونصوص جيدة . ومن دون شك ، فإن هذا العمل ليس لمجرد سد الخصاص الملحوظ ،وإنما استجابة لرغبة أكيدة من رواد فضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير عبر التراب الوطني في الاستزادة من مثل هذه المقروءات والمؤلفات الموجهة للناشئة ولمختلف الفئات العمرية . كل ذلك بحس أدبي رفيع ومصاغة بأسلوب سلسل وبلغة شيقة، نأمل أن يجد أطفالنا في المؤسسات التعليمية المتعة والفائدة. وأن تحفز فيهم حب الاستطلاع والفضول المعرفي لتاريخنا المجيد، الطافح بالدروس والعبر ، بما يؤصل في النفوس حب الوطن وشرف الانتماء إليه، ويشحذ الهمم ويذكي العزائم من أجل رقيه وتقدمه، وإعداد النفس للتعبئة من أجل خدمته والتضحية في سبيل الدفاع عن مقدساته الدينية وثوابته الوطنية”. وأخيرا اللقاء مع جمهور نوعي كريم ومضياف من فنانين وسينمائيين ورجال فكر وثقافة وإعلام وأخص بالذكر الإعلامية القديرة بإذاعة فاس الجهوية الصحفية مريم لمغاري .و الشبكة الوطنية للقراءة والثقافة بكامل أعضائها .
قراءة في رواية “الخبز الأسود” للروائي عمر الصديقي: ضوء كثيف على صفحات مهمة من تاريخ المقاومة بالريف عزيز باكوش -إعلامي وكاتب باحث- سجلت الساحة الأدبية والفنية الوطنية مؤخرا ميلاد رواية جديدة للروائي والأديب الدكتور عمر الصديقي تحت عنوان” الخبز الأسود ”. هي رواية أدبية بنكهة تاريخية،استعاد من خلالها الكاتب يوميات الكفاح الوطني والمقاومة المسلحة المغربية ضد الاستعمار،بانتفاضاته الشعبية ضد الاستعمار، وبرموزه وأعلامه ومجاهديه الذين صنعوا ملاحم بطولية بالمغرب عموما، وبالريف المغربي تحديدا. ولعل ما يصبغ روح الموضوعية والجاذبية على هذا المنجز الأدبي-التاريخي، الصادر ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالرباط، في 126 صفحة من القطع المتوسط، هو ذاك السفر الممتع والمشوق نحو عوالم إنسانية واجتماعية متداخلة الأبعاد، متفاوتة القيم بين طقوس الحرمان والقهر الاجتماعي وقساوة المحيط من جهة، وبشائر الانعتاق نحو الحرية بفضل كفاح وجهاد أبناء الريف ضد المستعمر من جهة ثانية. لذلك، نجد أن رواية ” الخبز الأسود" موجهة أساسا للشباب المغربي والقارئ العربي والأجنبي على حد سواء، إذ هي في الأصل كتابة ثانية لرواية سابقة نشرها الكاتب باللغة الفرنسية بباريس سنة 2015، تحت عنوان “آلام متقاطعة”، لأن مضمونها لا يمكن حده جغرافيا وتاريخيا، بل هي مرجع أساس في التحسيس بالقيم الإنسانية النبيلة التي تروح خدمة الإنسان، وبالتالي هي بدلالات كونية ترتفع فوق الأجناس و الحدود الفاصلة بين الشعوب. تاريخيا، كانت منطقة الريف، الواقعة شمال المغرب، خلال مرحلة الحماية عبارة عن بؤرة شديدة القسوة والتوتر في السماء والأرض، بعدما باتت قبلة لأطماع توسعية غربية فرنسية وإسبانية بالأساس. وقد أفلح الروائي الصديقي في إحالة قرائه إحالة ذكية وموفقة على ريف بئس وملتهب، ريف الاضطهاد الاستعماري الغاشم الذي هيمن على مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. انه ريف القحط والمجاعة وقساوة الطبيعة وتحديات الحرمان الذي ساد جغرافيته وطبع تاريخه إبان فترة الحماية بالمغرب عامة، ومنطقة الريف على نحو خاص. لاسيما، بمنطقة "مثلث الموت" الشهيرة الممتدة جغرافيا بين تيزي وسلي وبورد وأكنول بقبيلة اجزناية المجاهدة، والمعروفة بأبعادها التاريخية والحضارية والثقافية والاجتماعية المشحونة بالتحديات الأشد إيلاما تاريخيا وجغرافيا. إن هذه المعطيات التاريخية الهامة ستجعل الإقبال على هذا المتن الروائي كبيرا، وذلك لملامسته تخوم عميقة من تاريخ المقاومة الشعبية ببلادنا، مما جعل المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير تبادر مشكورة،في إسم رئيسها الدكتور مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، إلى نشر هذا العمل الروائي الوازن الذي يوثق لمرحلة عصيبة من تاريخ المغرب. طبعا إلى جانب مئات من الإصدارات العلمية الوازنة الموثقة لفترة الكفاح الوطني الشاهدة على تضحيات الشعب المغربي من أجل تحرير البلاد والعباد. والزائر لفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير المنتشرة في كل ربوع المملكة، سيقف على خزانات علمية تضم أجود ما كتب في تاريخ المقاومة الشعبية المسلحة وجيش التحرير، من طرف أقلام المؤسسسين الذين خلفوا مذكرات مسارهم النضالي، أو الأساتذة الجامعيين الذين انكبوا على الموضوع بموضوعية ومنهجية علمية دقيقة، أو الباحثين في مختلف التخصصات الذين أثروا هذا الرصيد التاريخي بمقالات علمية حول خصوصيات وملابسات مجموعة من الوقائع التاريخية ذات الصلة بيوميات النضال من أجل الاستقلال . للأسف هذه الجهود وهذه المساعي المتواصلة لا تواكبها حملات الإبداع في مجال المسرح والسينما، إذ لا نكاد نرى اليوم عملا سينمائيا في المستوى المطلوب الذي يعكس هذا التوجه النبيل الهادف إلى التعريف بتاريخ المقاومة المغربية ورجالها ونسائها في المدن والجبال على حد سواء. وهنا لابد من فتح قوس كبير، لنشير - بحكم التجربة في الميدان- أن الذاكرة التاريخية للمقاومة المغربية تشكو من خطر التهميش والإقصاء في الفضاءات السمعية البصرية الوطنية، في ظل هيمنة محتويات ترفيهية سطحية تتجاهل النضال البطولي للمغاربة ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني. واستنادًا إلى تجربتي الشخصية المتواضعة، من خلال حضوري عشرات المهرجانات السينمائية والتظاهرات الثقافية، والمشاركة ضمن لجن تحكيم متعددة، أصبح من الضروري إطلاق مشروع وطني شامل يعيد الاعتبار للذاكرة التاريخية للمقاومة ويمنحها مكانتها المستحقة في الإنتاج الفني الوطني. مشروع وطني يهدف بالأساس إلى تعزيز استحضار أمجاد الملاحم البطولية التاريخية للمقاومة المغربية في أعمال السينما والإنتاج التلفزيوني والإبداع المسرحي المنفتح على كافة مكونات المجتمع المدني وعموم المواطنين ،إلى جانب العمل الأدبي المرتبط بالجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لزمن الحماية بالمغرب، خاصة ما تعلق بالمتن الروائي الأدبي- التاريخي . وفي هذا الصدد، لابد من الوقوف عند رواية "لخبز الأسود" موضوع القراءة والدراسة، فيتضح جليا أن الرواية الموسومة ب "الخبز الأسود" تندرج ضمن خانة هذا النوع من العمل الفني الهادف، إذ توفقت إلى حد بعيد في إعادة رسم ملامح مرحلة زمنية ماضية تحيل على عهد الاستممار الفرنسي بالمغرب، مرحلة اتسمت بالالتباس والنسيان. إنها المرحلة نفسها التي طبعت حياة الكاتب، ولازمته على غرار جيله. أليس هو ابن منطقة الريف؟ فعلا، إنها البيئة نفسها التي نشأ وترعرع فيها الكاتب وهو طفل، ثم شاب، مستمتعا بليالي الحكي والسهر الباردة، مستلهما بذاكرة الطفولة طقوسا درامية، وحكايات وقصص وروايات ما بعد العشاء، التي كان جده ووالدته يرويانها له طيلة مرحلة صباه، إذ لا غرابة في ذلك، فالكاتب سليل المقاومة وخلايا المجاهدين الأشاوس المخلصين للدين والوطن.
نعم إن جد الكاتب مقاوم وعضو من أعضاء جيش التحرير بمنطقة الريف، بالضبط من منطقة "مثلث الموت"، معقل ثورة جيش التحرير الخالدة، مما شكل لديه الحافز الروحي المتجذر عميقا في نفسيته لاستعادة هذا التاريخي المعتم، والباعث الرمزي لتضميد الجراح وتجفيف الدموع عبر الحكي والسرد، وتطريز سرديات ليالي الزمهرير القاسية التي لا تزال ندوبها نازفة حتى الآن. علاوة على ذلك، إن والدته، هي الأخرى عانت الويلات، كباقي نساء القبيلة، وعاصرت فترة الحماية القاسية، وعاشت زمن المجاعة العسيرة التي سادت المغرب خلال الأربعينات، فنقلت إليه بوفاء الطقوس اليومية التي عاش على إيقاعها أهالي الريف،لاسيما تلك الفترة الحرجة المعروفة ب "الهجرة" والتي تحيل على ظروف لجوء ساكنة اجزناية إلى القبائل المجاورة الواقعة داخل النفوذ الاسباني، زمن الاستعمار . وإذا أضفنا هذا وذاك إلى اشتغاله المهني بقطاع المقاومة وجيش التحرير-أي القطاع الرسمي الوصي على صيانة ذاكرة المقاومة المغربية، فإننا بالتأكيد نجد أنفسنا أمام كاتب يعيش مع روح المقاومين وأسر الشهداء وضحايا حرب التحرير. مما ج شجعه على توثيق جزء مهم من تاريخ الجهاد ضد المعمر الفرنسي بمنطقة تازة، مستعيدا في نفس الوقت أمجادها وأعلامها وأبطالها الذين صنعوا التاريخ بإيمانهم وسلاحهم، بعدما اطلع على مذكراتهم الشخصية وسيرهم النضالية، وجالس بعض رموز المقاومة والتحرير ، وسجل شهاداتهم الحية حول فصول المواجهة المباشرة بمختلف المواقع، كما نهل مما راكمته المندوبية السامية من أبحاث ودراسات علمية، وما أصدرته من منشورات علمية وإصدارات أكاديمية ذات مصداقية، لها صلة وثيقة بالذاكرة الجماعية للمقاومة الشعبية ببلادنا. إن الاشتغال على تيمة التاريخ بانتكاساته وانتظاراته في هذا المتن الروائي البديع، ليس مجرد استلهام لجهاد أبناء الريف الذين رفضوا حياة الإذلال والخنوع والاستعباد، بالتصدي والمقاومة بالغالي والنفيس فحسب. وإنما في كون استحضاره، على هكذا نحو، يعطي للعمل رونقا أدبيا خاصا، ويسجيه بحساسية وطنية أشد تأثيرا وتأثرا في ذاكرة الجماعة الممتدة نحو الأجيال المتعاقبة. الأمر الذي يبرز حجم التحدي لدى هؤلاء، لا سيما مع قساوة الطبيعة وظلم المستعمر الغاشم الذي نهج سياسة التجويع في حق الأهالي والقبائل الثائرة من أجل إخضاعهم وتركيعهم ظلما وعدوانا. فالرواية، بهذا المعنى، امتداد طبيعي لما تم رصده حرفيا طوال عقود مضت من مذكرات تاريخية وروايات شفوية وإصدارات علمية في موضوع المقاومة المسلحة والحركة الوطنية والأعمال الفدائية الشجاعة بربوع البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، خاصة تلك الحقائق لم تنل حظها من الضوء والكشف، والتي تستحق الاستجلاء لفائدة الأجيال الصاعدة من أبناء هذا الوطن . وهكذا، ففي مقدمة الرواية بين أيدينا ،أشار السيد المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير إلى موضوع “تحالف الجغرافية القاسية والتاريخ المضطرب على بلاد المغرب منذ قرون عدة" ملاحظا أن " لا السياسة الاستعمارية جعلت منه بيئة حيوية مناسبة لتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية، ولا الطبيعة كانت رحيمة لطيفة بأهله في الأرياف النائية والبوادي العميقة". كما لم يفت الدكتور مصطفى لكثيري في تقديمه الوجيه للرواية تثمين هذا العمل الروائي بوصفه: “خير تعبير عن الوعي بالذات المعتزة بتاريخ وطنها المتشبعة بروح حضارتها والمنفتحة على القيم الإنسانية والكونية، وهي تعالج في قالب أدبي محكم مرحلة فارقة من تاريخ وطننا المغرب،سجل خلالها الشعب المغربي ملاحم بطولية من أجل إجلاء المستعمر وتحقيق الاستقلال والحرية". في الحقيقة،نحن أمام إشارة واضحة من المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير إلى تحفيز المبدعين والباحثين على النبش في الموروث التاريخي خدمة للذاكرة التاريخية، وإلى تنويع الآليات الكفيلة بإيصال الرسائل إلى الأجيال الحاضرة والصاعدة. فنيا وإبداعيا، تأتي رواية” الخبز الأسود” التي ترجم أصلها إلى بعض اللغات، منها الروسية و الرومانية، في المركز السابع ضمن ريبيطوار إصدارات الدكتور عمر الصديقي، القاص والروائي باللغتين العربية والفرنسية. مسار فني إبداعي متنوع غني بالعطاء والإنتاجات الهادفة، فبعد روايته الأولى “هي عاشقة والبحر شاهد ” 2007، حلت روايته الثانية " ذاكرة بقلب مفتوح" سنة 2013. كما أصدر كذلك ديوانا شعريا جماعيا تحت عنوان: " نوافذ عاشقة" سنة 2012 بتعاون وتنسيق مع جامعة المبدعين المغاربة بالدار البيضاء، ثم ديوانا شعريا آخر موسوما ب"بقايا أحلام" سنة 2014. وخلال أواخر سنة 2015، نشر بباريس روايته الفرنسية - Maux croisés، ثم قصة مثلث الموت أو " Le triangle de la mort"سنة 2020. هذا بالإضافة، إلى عدة إصدارات ومقالات علمية في مجال التاريخ والثقافة والقانون والسياسات العمومية. كما تجدر الإشارة إلى أن الدكتور عمر الصديقي إطار إداري بالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير منذ 1994. هو كذلك فنان تشكيلي وروائي وشاعر باللغتين العربية والفرنسية. حاصل على الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، ويشغل حاليا منصب نائب إقليمي للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بتازة. وإذا كان هذا المنجز الأدبي يروم بالأساس تجسير قنوات تواصل وتثاقف يتدفق عبرها الوعي بتاريخ المقاومة بالريف، بين ماض معتم وحاضر مبعثر، عبر ضخ منسوب مرتفع من القيم النبيلة في دماء الأجيال القادمة، فإن إبراز سمو التضحيات والإيمان القوي بالكفاح والنضال ضد المستعمر الأجنبي الغاشم بلغة سلسة، تجعل من الأدب طبقا معرفيا لذيذا بكل تأكيد. هنا والحق يقال،لقد أفلح الكاتب بنجاح ملحوظ في تثمين الذاكرة التاريخية وصيانة مكوناتها المادية وغير المادية لفائدة الأجيال الصاعدة من أبناء هذا الوطن الذي يحتفظ لهم التاريخ بسجل زاخر بالملاحم وروائع الكفاح الوطني، سجل مرصع بأعلام وأسماء بارزة أبلت البلاء الحسن في الدفاع عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية للبلاد، وذلك اعتمادا على لغة مبسطة وسرد قوي وأسلوب جذاب. وعبر فصول هذه الرواية الهادفة، يمكن للقارئ العربي معاينة شريط طويل من الوقائع الاجتماعية والأحداث التاريخية الهامة، كالعمليات الفدائية بالريف، بدءا بمهاجمة المصالح الاقتصادية للمعمرين، ومواجهة سنوات القحط والجفاف خلال الاربعينات، ولجوء الأهالي والنساء والعجزة إلى المنطقة الخليفية تحت قصف الطائرات الحربية، وهجرة بعض الفلاحين المغاربة – من ضمنهم أب الكاتب- إلى القطر الجزائري سعيا وراء خبز الشتاء، فضلا عن إثارة مسألة العملاء والخونة،وصور بالأبيض والأسود لثورة أكتوبر 1955، ثم قضايا أخرى…لزمتها عتمة الكتمان والإهمال والنسيان.”.
والكاتب، لا يقتصر على النقل الحرفي للوقائع والأحداث التاريخية لأبطال المقاومة، رجالا ونساء، وإنما يصب الأحداث الاجتماعية كذلك بمدها وجزرها في قالب أدبي بديع لذيذ. الأمر الذي يجعل من سفره رحلة بحث شيقة وماتعة، ضمن أنساق أدبية وأجناس صحفية تتراوح بين القصة الخبرية والتحقيق الصحفي والاستطلاع الإخباري، وهي أنساق بديعة ملهمة تستجيب لانتظارات القراء من كل الفئات والأعمار. فضلا عن كونها لا تكتفي بمجرد التعريف بهذا الموروث الثقافي والحضاري، بل تحرص بشدة على غرسه في وعي الأجيال الصاعدة. هذه الأجيال التي يبدو أنها تعرف عن تاريخ العالم أكثر ما تعرفه عن تاريخها المغربي. ” أليست الكتب هي ثروة العالم المخزونة وأفضل إرث للأجيال والأمم، لمن يمتلك جرأة الفعل والإقدام على ذلك؟ على حد تعبير هنري ديفد ثورو. وانطلاقا من ص 11 من الرواية، يصف الكاتب الريف وساكنته بكونه عبارة عن "مداشر وقبائل متناثرة، لياليها طويلة ومقفرة لا يدفئها سوى حساء الذرة ونكت وأحجيات متوارثة عن الأجيال السالفة". وهو يتذكر ملازمته جده الذي قضى ربيع شبابه وهو يقاوم الفرنسيين في الجبال والغابات والأودية. لقد أدرك مبكرا سر نجاح الإنسان وقدرته على أن يجعل من الخيبات والإخفاقات منطلقا لنجاحه ونهضته. فكان حديث الجد عبارة عن فسيفساء من الحكايات المقتبسة من حياة الأنبياء وقصور الملوك ومناورات الضباع وحكايات الجن والإنس ومأساة البارود والحروب مع الفرنسيين والإسبان في جبال الريف. وكان في الوقت نفسه العبرة والمستقبل المضيء”. ومادام الشيء بالشيء يذكر، فإن الفصل الذي يتحدث فيه الكاتب عن فرار الأسرى من السجون، يمكن أن يشكل وحده مشتلا ضخما للسينما المغربية،وخزانا لا ينضب لاستلهام الأفكار والسيناريوهات، لتجسيد بطولات برع أبناء الريف من خلالها في المقاومة والتصدي للاستعمار .... وعلى المركز السينمائي المغربي وباقي مهنيي السينما الاشتغال عليها ميدانيا وتحفيز من يخرجها فنيا، بدل تلك الأعمال المتواضعة و الأسطوانات المشروخة التي اعتدنا عليها كمستهلكين للمادة الثقافية من خلال القناتين الرسميتين. ولعل كتابة سيناريو ناجح عن العم "أبو جهاد" مثلا، بإمكانه أن يقدم للمشاهد المغربي أشهر أفلام السينما المغربية على الإطلاق. فلنتخيل سينمائيا، كيف خطط العم أبو جهاد لعملية اغتيال المعمرة صاحبة الحانة داخل قبو إقامتها، وكيف بادر إلى سكب براميل خمرها الأحمر في شارع الفضيلة وسط المدينة....الصور حاضرة وجاهزة تنتظر من يشتغل عليها لأفلمتها وإخراجها إلى الضوء السينمائي في قالب مفيد وممتع. وفي أفق إنصاف الذاكرة الوطنية في الإنتاج التلفزيوني المغربي، لقد أسعفتنا التجربة المتواضعة سواء عبر حضور عشرات المهرجانات الموضوعاتية ومئات التظاهرات الثقافية والفنية ومشاهدة عروض على الشاشتين الصغيرة والكبيرة عبر مختلف قنوات البث الفضائي والأرضي، إلى جانب مشاركتنا حضورًا فعليًا وافتراضيًا ضمن لجان تحكيم مسابقات في مجالَي السينما والمسرح والأشرطة التربوية، لأن يكون لنا رأي صريح في ما يحدث من تهميش وإجحاف ممنهج في حق الذاكرة الوطنية والمقاومة المغربية ضد الاستعمار الغربي عمومًا، وضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني في الريف والجنوب على نحو خاص. إن ما يُعرض اليوم على التلفزيون المغربي من رداءة وتفاهة وسطحية، لا يرقى لا لذوق المواطن المغربي، ولا لتاريخه العريق ولا لكفاح أجداده. ويزداد الوضع استفزازًا خلال البرمجة الرمضانية، حيث تُعرض على المغاربة "سفالة بالجملة والتقسيط" المريح زمن الذروة، في غياب شبه تام لأي إنتاج يستحضر ملاحم البطولة والنضال الوطني . فالخطاب موجه هنا لكافة مكونات المجتمع، من قطاع خاص، ومؤسسات حكومية، ونوادي سينمائية ومبدعين في مختلف التخصصات للاشتغال على موضوع السينما التاريخية والاستثمار فيها خدمة للتنمية ببلادنا، على غرار الدول التي تصلنا إنتاجاتها وثقافا تها وتاريخها، عبر التسويق والإشهار والدعاية . لقد سبق لنا، في أكثر من محطة، أن قدمنا توصيات واقتراحات للجهات المنتجة والمؤسسات الداعمة، وأكدنا على ضرورة الانفتاح على التاريخ الوطني المقاوم، وتحويله إلى مادة درامية وسينمائية تعيد الاعتبار للبطولات المنسية، وتعرّف بها الأجيال الجديدة. غير أن تلك المقترحات غالبًا ما قُوبلت بالتجاهل أو بالوعود المؤجلة. وذلك اقتداء وتجاوبا مع تجارب عربية: الجزائر وتونس نموذجًا وفي هذا السياق، تزداد الغصة حين نُقارن واقع الإنتاج المغربي بنظيره في دول شقيقة، مثل الجزائر وتونس، حيث تحضر الذاكرة الوطنية بقوة في الأعمال الدرامية والسينمائية، لا كمجرد خلفية تاريخية، بل كمكوّن هوياتي رئيسي يخدم مستقبل الشعب وتنمية البلاد. في الجزائر، تُخصص ميزانيات ضخمة سنويًا لإنتاج أفلام ومسلسلات عن ثورة التحرير، وتُعرض في أوقات الذروة، في رمضان وغيره، في التفاتة واعية إلى أن الدراما التاريخية ليست ترفًا، بل أداة لتأصيل الوعي الجماعي، وتحصين الأجيال ضد التفاهة والنسيان. ويكفي أن نستحضر أفلامًا مثل "معركة الجزائر" أو "الخارجون عن القانون"، وغيرها من الأعمال التي حصدت جوائز دولية ونالت إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء. أما في تونس، فقد تميزت بعض الإنتاجات الدرامية بجرأتها في طرح فصول من الاستعمار الفرنسي لم تُتناول من قبل، مع رؤية نقدية فنية تعيد الاعتبار للإنسان التونسي المقاوم، دون تقديس ولا شيطنة. فإلى متى ستستمر مقاومة الريف ومعركة أنوال وملاحم الجنوب الشرقي مجرد حواشٍ باهتة في مقررات مدرسية باردة؟ بينما تتحول في بلدان أخرى إلى مسلسلات تتابعها الجماهير الواسعة داخل البلاد وخارجه؟ أليست لدينا شخصيات بطولية كـ "محمد بن عبد الكريم الخطابي"، "عسو أوبسلام، "موحى أوحمو الزياني"، و"علال بن عبد الله"، و"ماء العينين" في الجنوب تستحق أن تتحول إلى رموز درامية بصرية تُسائل الحاضر وتلهم المستقبل؟ إن الإنصاف الثقافي والرمزي لمرحلة المقاومة ليس ترفا نضاليا، بل واجب وطني وحضاري ، نأمل أن يعاد طرحه بجدية ضمن استراتيجيات الدعم والإنتاج التلفزيوني المغربي، لأن من لا يحترم تاريخه لا يستحق حاضره. وتجدر الإشارة إلى أن مع استمرار الإعلام المغربي في تغييب الذاكرة الوطنية، ستنتصر التفاهة وسيود الجهل ويموت الانتماء وتضمحل الهوية وينتهي التاريخ.. إذ رغم تراكم التجارب الفنية والاحتكاك العملي بالفعاليات الثقافية والمهرجانات الموضوعاتية، يظل واقع الإعلام السمعي البصري المغربي مخيبًا للآمال، خاصة في ما يتعلق بتمثيل الذاكرة الوطنية وتاريخ المقاومة ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني، حيث يُقابل هذا التاريخ المجيد بتهميش ممنهج لصالح إنتاجات سطحية، تافهة، بل ومسيئة أحيانًا. لقد أصبح ما يُعرض و ما نراه يوميا على الشاشتين المغربيتين إجمالا، من فينة إلى أخرى، وهنا وهناك، مرادفا للرداءة والسطحية: كوميديا هجينة، دراما مستهلكة، ومسلسلات تفتقر إلى القيمة الثقافية والفنية. لقد صارت هذه البرمجة في نظر المشاهد المغربي نوعًا من "الإهانة الممنهجة" المتكررة كل عام. في نفس الوقت، هي مفارقة صادمة: كيف يعقل أن بلدا يمتلك ذاكرة نضالية ثرية كتاريخ المقاومة المسلحة في الريف والأطلس، وثورة الملك والشعب، لا يستطيع أن يكرّس إنتاجًا دراميًا وسينمائيًا يخلد هذا الكفاح؟ في المقابل، تُخصص ميزانيات ضخمة لأعمال استهلاكية لا تقدم للمشاهد سوى التهريج. هنا والصدق لا بد أن يقال، هذه توصيات عملية نراها كفيلة على المديين القريب والمتوسط ، ونأمل أن تكون مخرجات هذا البحث، وثمار نقاشاته وجلساته مقدمة لبنات تأسيسية تسهم في أوطنة السينما إذا صح التعبير ، سواء بإخراجها من ضيق المصلحة المحسوبية والاستغلال التجاري إلى فضاء الهوية والاعتزاز بالماضي البطولي والتاريخ الملهم للأجيال القادمة . وبناء على ذلك تبدو الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى إحداث صندوق خاص بدعم الإنتاجات الفنية المرتبطة بتاريخ المقاومة الوطنية. وإلزام القنوات العمومية بنسبة مئوية سنوية من البرامج التي تستحضر الذاكرة الوطنية. على أن لا نغفل جانبا مهما يتمثل في إشراك المؤرخين والمختصين في لجان قراءة النصوص الدرامية ذات الطابع التاريخي.تحفيز الإنتاج المشترك مع مؤسسات تعليمية وثقافية لتوفير محتوى ذي جودة تربوية وتاريخية. علاوة على فتح نقاش وطني حول الوظيفة الثقافية للتلفزيون العمومي وضرورة مراجعة التوجهات البرمجية الحالية.المقاومة ليست فقط تاريخًا يجب أن يُدرس في المدارس، بل هي أيضًا ذاكرة يجب أن تُروى في الدراما، تُغنّى في الموسيقى، وتُخلّد على الشاشة. فمتى ينتقل الإعلام المغربي من تسويق التفاهة إلى صناعة الوعي؟.
لنتخيل طقس المحكمة التي تصدر حكما قاسيا وظالما في حق العم "أبو جهاد"، أحد أبطال الرواية ، بالسجن مع الأعمال الشاقة . ” أليس هذا من أفضل تيمات الاشتغال السينمائي على الذاكرة المغربية؟ كما تأتي الرواية كذلك على قصة غريبة لرجل صنديد يدعى “أوشن”، وما حدث له مع ضبع ماكر ذات ليلة من ليال الجهاد بجبال الريف زمن الاستعمار. أوشن هذا، مقاوم مشهود له بالشجاعة والاستماتة والذكاء عند أهل الريف إلى اليوم . فما نكاد ننتشي ببطولة هذا الرجل المثالي، حتى يعرج بنا الروائي نحو معالم أخرى أشد ألما وإثارة، من بينها صورة تكريس المستعمر لأزمة غذاء مفتعلة حتى يحل القحط والبؤس. ولعل أهل الريف يتذكرون “أيام المسغبة”، زمن أزمة الشعير حين كان المستعمر الفرنسي يقوم بتحويل المنتوج الفلاحي بالكامل إلى الخيول الفرنسية المرابطة على الجبهة الإيطالية. وهو قرار عنصري جائر جعل الأهالي يقتاتون على النباتات وجذورها وبعض التين والخروب والبلوط والبقول..” بعدها، وبنفس الإثارة والتشويق، ينتقل بنا الكاتب من أزمة إلى أخرى مستعرضا أشكال المقاومة الشعبية، فيتوقف عند ما حدث في مارس 1955 حين وصلت باخرة “دينا” -الملقبة لدى المقاومين ب"العروسة- إلى الساحل الشمالي للمغرب. والتي اتفق الوطنيون على استقبالها سرا بمنطقة "قابوياوا"، قرب مدينة الناظور، غير بعيد عن الأراضي الجزائرية، حتى لا ينفضح أمرها، ويبلغ عنها الخونة إلى علم السلطات الفرنسية والإسبانية. لا سيما وأن على متنها حمولة قيمة من السلاح....آه كم كنا كقراء نستعجل المتطوعين الشجعان والرجال الأقوياء كي يفرغوا الباخرة بسرعة من شحنة الأسلحة قبل مطلع الفجر والاختفاء عن الأنظار. وفي نفس السياق، ينقل لنا الكاتب على لسان جده، كيف استفادت الثورة الجزائرية من ثلثي الشحنة من الأسلحة، فيما بقي للمغاربة الثلث. وبفضلها ويا لمكر التاريخ، استطاعت المقاومة والكفاح في البلدين الجارين مهاجمة الجيوش الفرنسية مستعينين بذلك بالخبرة العسكرية التي اكتسبها المحاربون القدامى في ساحات القتال الميداني بالهند الصينية وفي كورسيكا وإيطاليا. حيث كان الحلفاء يتصدون للجيوش النازية.
وبقدر ما كانت تتوالى الاحتجاجات والانتفاضات وتضطرم عزائم أهل الريف الأشاوس في التصدي للاستعمار وأذنابه، بقدر ما اجتهدت السلطات الاستعمارية في الانتقام من مجاهدي ثورة أكتوبر الذين ألحقوا الذل والعار بالقوات العسكرية الفرنسية، وكبدوهم خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد. وبالعودة إلى مضمون التقارير الفرنسية المواكبة، نجدها تتحدث عن عشرات القتلى في صفوف جنودها، وإحراق بعض المراكز الإدارية، وهدم السجون لتحرير المعتقلين والمتمردين وفك قيود المقاومين الأسرى. وبإيقاع قيامي متصاعد، ينقلنا الكاتب إلى دراما أخرى من أشكال المقاومة وهذه المرة مع ” بومنجل”، صاحب المنجل المختص في قطع أسلاك وأعمدة الهاتف لمنع أي تواصل بين المصالح الاستعمارية داخل البلاد. وهو المتهم كذلك، بنسف خطوط السكة الحديدية الرابطة بين الجزائر والدار البيضاء... وبسبب خطورة "جرائمه"، كانت السلطات القضائية تهيئ حكم إعدامه في ساحة القرية. لكن لحسن حظه، استطاع الفرار من قبضة الشرطة، ثم اخترق الحدود باسم مستعار، بعدما قام بالسطو على مكتب البريد الاستعماري، بما فيه من أموال وودائع نفيسة . تتعدد أساليب المقاومة وتتصاعد وتيرتها صوب المستعمر، وتتطور أشكالها في ظل القمع والترهيب والبطش الذي يتعرض له الأهالي . فيحول الكاتب كاميرته إلى مقاوم من عيار ثقيل أسمه ” الرجل الغريب” المعروف ب "بوقطوط ”. هذا البطل وأسلوبه التكتيكي في إبداع التصدي للمستعمرن يستحق أن يدرس في الجامعات والمعاهد الوطنية .إنه درس في الجهاد المدني بعيدا عن أساليب وتقنيات وتجهيزات الحرب المعتمدة . ذلك أن بطلنا “الرجل الغريب” أحرق مزارع القمح الطري، وحول خزان الحبوب بواسطة كتيبة القطط المشتعلة إلى رماد ". وهنا لابد من توجيه رسالة لكتاب السيناريو المغاربة للاشتغال حول هذه التيمات المبتكرة من تكتيكات المقاومة والكفاح الوطني في الريف. واستلهام أحداثها في صناعة سينما تليق بالتاريخ المجيد للغاربة، وتعيد الاعتبار لتضحياتهم الجسام من أجل الاستقلال والحرية. لقد استفز "بوقطوط"، صاحب فكرة القطط المشتعلة، فرنسا اللعينة وأربكها وأرعب ذيولها من المرتزقة والخونة الفاسقين... لا زال تاريخ المدينة يحتفظ بذكرى هذه العملية الفدائية التي وصفتها الجرائد الفرنسية مثل “لا فيجي ماروكان” وبريد المغرب” والسعادة ” الناطقة بالعربية ب "العمل الإرهابي". لقد أقلق سلطات المستعمر وأشعل غيظ العملاء والشيوخ والمقدمين والقواد الذين كانت تعتمد عليهم الإدارة الفرنسية في تركيع واستعباد الأهالي العزل، ومن بينهم المدعو” القايد جعفر”. القايد جعفر الذي خصص له الكاتب فصلا مثيرا. وهو الذي كان أسياده الفرنسيون ينادونه ب ” كايد جافر” . هو من أعيان المدينة ومن ذيول فرنسا في المغرب. شخص ميسور ورث الممتلكات عن المستعمرين، بعد ما سرق الوطن وخان ثقة المغاربة الشرفاء. وإمعانا في الافتخار بصمود ومقاومة أهالي الريف، نستمتع برواية ما حدث ذات ليلة من ليالي الصيف الملتهبة. إذ قام المدعو ” بوقطوط” بإحضار كتيبة من القطط التي قبض عليها من أحياء المدينة وحملها إلى ركن منزو من حديقة بيته استعدادا لعملية شهر غشت الحارقة. ...فبعد عملية تمشيط للمحيط وتحديد المواقع المستهدفة من مزارع القمح الطري المترامية الأطراف بالضواحي التي يعمل المستعمر على توجيه محصولها إلى جيوشه وخيوله بفرنسا عبر السفن، بلل القطط بالبنزين ثم أوقد فيها النار وألقى بها وسط المزرعة الهادئة. ... وبسرعة فائقة، انطلق كومندو القطط المذعورة المشتعلة صوب أمواج القمح المصفرة. فبقدر ما كانت القطط المسكينة تجري للتخلص من اللهيب اللاصق بها، بقدر ما كانت ألسنة النيران تمتد، ورقعة الحريق تتسع بسرعة في كل الاتجاهات بشكل لا يمكن التغلب عليها بسهولة “. وفي شريط آخر، قدم لنا الكاتب الأسير الثاني “الحاج بوكلاطة”، العدو اللدود للقايد جعفر. وبوكلاطة هذا ، كان في الأربعينيات محاربا شجاعا تحت الراية الفرنسية بالهند الصينية وألمانيا، وكان يعتقد جادا كباقي المحاربين القدامى أن فرنسا ستلتزم بوعدها، وتعترف باستقلال المغرب بمجرد الانتصار على النازية....لكن لم يتحقق شيء من هذا. وفي مشهد عميق الدلالة يصف لناالروائي بطله” بوكلاطة”، وهو يتحسس ويلاطف بدقيته التي اشتهر بها، ويتحدث معها كأنها كائن حي يتنفس. لها مكانة خاصة عند بوكلاطة، إنها حصته الوحيدة من الأسلحة التي وصلت على ظهر باخرة” دينا ”...فبعد الاستقلال بسنوات، رحل إلى العالم الآخر مخلفا وراءه ابنته الوحيدة “دينة”، لقد سماها بهذا الاسم تبركا وتيمنا واستحضارا لذكرى الباخرة الشهيرة التي جاءت بأسباب السلام والخلاص النهائي. ولأن الوطن لا يغفر للخونة والمرتزقة الجرائم الفظيعة التي اقترفوها في حقه، ومع تطور أحداث الرواية سينتحر القايد جعفر هربا من سلسلة الفضائح التي اقترفها،فمات مخنوقا بحزامه العسكري الذي ورثه عن الإدارة الفرنسية. وتخلص الرواية إلى كون المجاهدين أبطالا أزعجوا واستفزوا وطردوا فرنسا التي وصفتهم في تقاريرها السرية والعلنية وجرائدها اليومية ب"المجرمين الخطيرين والمتمردين والثوار "، لأنهم ثاروا ضد الوجود الفرنسي على أرضهم وهاجموا مصالح فرنسا، واغتالوا عملاءها وأتباعها المارقين وأحرقوا ضيعاتهم وممتلكاتهم بالمدينة. ولأن الكاتب لا يتذكر شيئا من ملامح أبيه الفلاح الذي هاجر إلى الجزائر للعمل وسط حقول الألغام التي زرعها الاستعمار بين البلدين الشقيقين، فإنه خص والدته باهتمام كبير، بعدما فقد والده، وهو طفل صغير .لكنه بالمقابل يذكرنا بالدور البطولي الذي لعبته المرأة في حرب الريف من خلال امرأة ريفية شجاعة لقبتها الجماعة ب «أمي ميمونة”. الأم ميمونة عاصرت حرب الريف التي خاضها عبد الكريم الخطابي ضد الإسبان، و التي انتصر فيها على الجنرال الإسباني سيلفيستري في معركة أنوال الشهيرة، لذلك، اقترن اسمها ب"البارود"، على الرغم من كونها لم تحمل قط سلاحا ناريا في معركة من المعارك. ومع ذلك، بصمت بقوة على يوميات الكفاح من أجل تحرير البلاد، ودعمت جهود المقاومين، حيث تبرعت بحليها وفراشها وحصائرها القديمة، ونقلت مناشير التحريض على القتال ووزعتها سرا في المداشر....كما ساندت المعتقلين وأسرهم ودحرجت بيديها الهزيلتين الصخور من المرتفعات لقطع الطريق أمام تقدم الدبابات الفرنسية، وطبخت الطعام وهيأت "الخبز الأسود" للمتطوعين للجهاد، وحرصت على تمريضهم وتضميد الجرحى منهم في تلك المحنة العصيبة من تاريخ البلاد. أحداث كثيرة مأساوية وأخرى فجائعية ارتبطت بحياة الكاتب، ما جعلها أقرب من سيرة ذاتية، أو بالأحرى سيرة جماعيةتشكل بكل المقاييس مصدرا ماديا يوثق لحقب تاريخية مؤلمة اتسمت بقساوة الجغرافيا، و طبعت بالإيمان القوي لأبناء الريف بالكفاح الشعبي من أجل الحرية والاستقلال.مرحلة ستحتفظ بها الذاكرة التاريخية وتتوارثها الأجيال المتعاقبة.
و"الخبز الأسود" ليس سوى استعادة شريط تاريخي طويل مستمد من ذاكرة الماضي المرتبطة بزمن الاستعمار بجبال الريف. سواء كان ذلك عبر الرواية الشفوية لأفراد العائلة الذين جايلوا المرحلة، أو على تجميع الشهادات الحية لمجموعة من المقاومين الذين عاصروا حرب التحرير بالمغرب، لتنضم إلى جملة من المذكرات والإصدارات العلمية الصادرة عن قطاع المقاومة حول الأوضاع العامة بجبال الريف خلال نفس المرحلة. والرواية بهذا المعنى، صورة ناقلة لأحداث ووقائع تاريخية بأسلوب سلس سريع التوغل في المشاعر وقابل للاشتعال حماسا وافتخارا في نفوس القراء الحقيقيين والمفترضين، باعتبارها تبئيرا صرفا لوضع اجتماعي مجحف بالريف وهو يرسف في قيود الاستعمار الفرنسي الغاشم على محور تازة منذ سنة 1914، حتى ثورة أكتوبر المجيدة التي أشعل فتيلها أبناء جبال الريف بمنطقة “مثلث الموت” سنة 1955. والحق يجب أن يقال، لقد استمتعت بجميل السرد وبديع الرواية، التي سلطت الأضواء الكاشفة على جوانب معتمة من تاريخ الريف المغربي المقاوم في ظل مراحل بسط فيها المستعمر سلطته وبطشه، لكن جهاد أبناء قبائل الريف وكفاحهم من أجل الحرية سيبقى شاهدا على تضحيات جسام قل نظيرها في تاريخ الشعوب. وهذه بعض التوصيات الإستراتيجية والتصورات العملية، ضمن مشروعنا الطموح النهوض بالذاكرة التاريخية: 1. إبرام اتفاقيات شراكة رسمية بين المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير والمركز السينمائي المغربي، تروم تحويل الأرشيف الوطني للمقاومة إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية موجهة للناشئة التربوية وعمو م المواطنين. 2. التعاون مع الدول الاستعمارية سابقًا:إطلاق شراكات إنتاج حول الذاكرة المشتركة مع فرنسا وإسبانيا لإنجاز أفلام تتناول الذاكرة المشتركة من منظور إنساني وتاريخي، بعيدًا عن العاطفة أو الحسابات السياسية. 3. رقمنة الأرشيف وتيسير الولوج إليه عبر إطلاق بوابة إلكترونية وطنية لاستثمار (4 ملايين وثيقة وصورة المستوردة من الخارج في إطار جهود المندوبية السامية في الموضوع )، لتكون متاحة أمام المخرجين وكتاب السيناريو والباحثين الموضوعاتيين . 4. تحفيز الإبداع الفني:إحداث منح دعم خاصة بالأعمال التي تتناول موضوع المقاومة، وتشجيع الشباب على الاستثمار في هذا الرصيد الوطني من خلال مسابقات وورشات تدريبية. 5. إحداث جوائز وطنية سنوية:إحداث جوائز ضمن المهرجانات الوطنية لأفضل فيلم عن المقاومة، وأفضل سيناريو تاريخي، وأفضل ممثل/ممثلة في دور تاريخي. 6. إشراك الشباب والناشئة:تنظيم مسابقات مدرسية وجامعية لإنتاج نصوص أو أفلام قصيرة حول أبطال المقاومة، وعرض الأعمال الفائزة في مهرجانات مخصصة للشباب. 7. إشعاع دولي:دعم ترجمة الأعمال حول المقاومة إلى لغات متعددة وترويجها في المهرجانات والمحافل الدولية. 8. سياسة إعلامية داعمة:إنتاج برامج وسلاسل وثائقية دورية تسلط الضوء على شخصيات وملاحم المقاومة، بتنسيق مع القنوات الوطنية. 9-. فتح خزانة المندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير أمام المهتمين والمخرجين وكتاب السيناريو . ووصعها طبقا مجانيا كمادةأساسية في الوطنية الصادقة. ولعل رواية "الخبز الأسود " للدكتور عمر الصديقي نموذجا يقتدى وحقلا خصبا وغنيا بالوقائع الملهمة والأحداث البطولية الملهمة والأشد حماسة ودهشة على الإطلاق البالغة الحماسة . خاتمة: يمثل هذا المشروع نداءً إلى كافة الفاعلين الثقافيين والمؤسسات الوطنية المعنية بضرورة صون الذاكرة الجماعية وتثمينها، وجعلها منطلقًا لإبداع فني يعزز الهوية المغربية ويصون جذورنا التاريخية من النسيان. كما يعمل على تأصيل حب الوطن وشرف الانتماء إليه في نفوس الناشئة ، ويشحذ الهمم ويذكي العزائم من أجل رقيه وتقدمه، وإعداد النفس للتعبئة من أجل خدمته والتضحية في سبيل الدفاع عن مقدساته الدينية وثوابته الوطنية”. دبي- دولة الإمارات العربية المتحدة
#عزيز_باكوش (هاشتاغ)
Bakouch__Azziz#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهرجان أكورا للسينما والفلسفة بفاس - المغرب أو حوار الدهشتين
-
رواية - حلم العم- للشاهق الشامخ دوتويفسكي أو قصة الأمير وما
...
-
أثر التقنيات الرقمية على مستقبل صناعة المحتوى الإعلامي بالمغ
...
-
-معاً من أجل فاس: تأريخا للماضي، وتقويماً للحاضر، واستشرافاً
...
-
البروفيسور أحمد شراك : ثورة رقمية بأربع مقاربات
-
قراءة في كتاب -السينما والفكر النقدي - لخليل الدامون - سينما
...
-
الغرافيتيا من المادي إلى الرقمي –أسئلة سوسيولوجية حول الكتاب
...
-
الفيلم المغربي - تباين- DISPARITY- يفوز بالجائزة الكبرى للنس
...
-
مركز الجزيرة للدراسات وجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس مؤتم
...
-
التربية الإعلامية والرقمية، ومستقبل التعليم محور ندوة وطنية
...
-
إطلالة على منظومة الأجور في مجال السينما والتلفزيون في المغر
...
-
التصوير من الجو عربيا لم ينضج بعد
-
خبراء مغاربة وأجانب بالجديدة يتدارسون افضل السبل لإدماج الذك
...
-
لا يعذر أحدهم بجهله القانون
-
نجم الأكشن جيسون ستايثم Jason Statham من غطاس إلى مقاتل متوح
...
-
تفاصيل أمسية شعرية احتفاء بصدور ديوان -نبش ذكريات محرمة- فكر
...
-
التحول الرقمي المفهوم والتحديات
-
كيانو ريفز نجم أفلام - John Wick - أو النجاح المشحون بالصدما
...
-
معرض للفن المعاصر يطرح آسئلة الهويات و التنقل
-
سعادة الجنرال في حفل زفاف موظفه البسيط بسلدومينوف دون أن يوج
...
المزيد.....
-
غارة جوية إسرائيلية تهز جنوب بيروت وتعليق من نتنياهو وكاتس
-
ما المطلوب للخروج من الدولة السلطانية إلى الدولة المدنية الح
...
-
السعودية وقطر تسددان ديون سوريا للبنك الدولي وتعلنان دعم مرح
...
-
صدمة في فرنسا بعد مقتل مصلٍّ مسلم تلقى 50 طعنة داخل مسجد جنو
...
-
بالصور: وردة بيضاء وحيدة تزين ضريح البابا فرنسيس
-
ثمانية قتلى من عائلة واحدة في قطاع غزة، وقطر تشير إلى -بعض ا
...
-
لماذا تخشى أوروبا تقارب بوتين وترامب؟
-
ليفربول يكتسح توتنهام بخماسية ويتوج بطلا للدوري الإنكليزي ال
...
-
هجوم كشمير.. تداعيات خطيرة وشكوك بشأن دوافعه
-
المنصات تسخر من حكم الكلاسيكو.. بدا -كـأب ضايع- بين أطفاله ف
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|