|
إلى أين يتجه اليسار الجديد؟
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8324 - 2025 / 4 / 26 - 13:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ترجمة وإعداد :حازم كويي
لم يعد حزب اليسارالألمانيDie Linke) ) )كما كان في العام الماضي. من بين الأعضاء الذين يزيد عددهم الآن عن 100,000، إنضم نصفهم فقط خلال الأشهر الستة الماضية. هذا التحوّل يطرح تساؤلات جوهرية:
كيف سيواجه اليسار الجديد صعود اليمين المتطرف سياسياً؟
كيف سيتعامل مع الصراعات الاجتماعية الجديدة التي تتصاعد في المجتمع؟
وما هي رؤاه وإستراتيجياته في ظل عالم مُتغير اقتصادياً وسياسياً؟
هذه هي بعض من الأسئلة التي تسعى المقالة وعنوانها «إلى أين يتجه اليسار الجديد؟» لمعالجتها، من خلال تحليل ديناميكيات الحزب، تحولات قاعدته الاجتماعية، وإستجاباته السياسية.
عوامل كثيرة كانت وراء هذا النجاح. لقد كان لدى اليسار فريق مُتماسك على رأس الحملة الانتخابية الفيدرالية الأخيرة، وعملوا بجدٍ على عتبات المنازل وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. واُشبعت بروح الدعابة الجيدة. ولكن السرد الاستراتيجي، او الرؤية المشتركة للمستقبل، كان بنفس القدر من الأهمية لتحقيق النجاح. وتمت متابعته بشكل متواصل.
ما هو السرد؟ يعتقد الكثيرون أن هذا يعني تفسير الأحداث التي يمكن رؤيتها بطريقة أو بأخرى. وينبغي أن تكون الاستراتيجية السياسية المتبعة هي تكرار الرواية الخاصة في كثير من الأحيان حتى يصدقها أكبر عدد ممكن من الناس. التسويق، أو لنقلها بلا رحمة: الدعاية. كلاهما جزء من الاتصال السياسي. ومن يدعي خلاف ذلك فهو على الأقل يكذب على نفسه.
ولكن هناك إختلافات. من المؤكد أن التسويق الكلاسيكي للسلع يمكن إستخدامه بشكل فردي للأطراف. ومن المؤكد أن الأساليب النيوليبرالية، التي تستخدمها الأحزاب التقدمية أيضاً، واضحة للجميع بسرعة. ولكن في رأينا، هذا يتعارض مع سمة أساسية من سمات السرد الخاص بالحزب اليساري.
حتى من دون معرفة دقيقة بالكتاب المقدس، فالكثيرون يعرفون قصة داوود وجالوت: بحسب الرواية، تغلّب الراعي الصغير داوود على العملاق جالوت. مثل هذه الحكايات التي يُهزم فيها القوي على يد الضعيف تُروى كثيراً، ويُحب الناس أن يسمعوها.
هذا المبدأ المُلهم، حيث ينجح "المُستضعف" بشكل غير متوقع، تبنّاها حزب اليسارالالماني وقيادته في أسلوبهم الإعلامي: فهم يسوّقون أنفسهم كـ "داود" في مواجهة "جالوت" المتمثل في القوى الكبرى السياسية والاقتصادية، ويراهنون على قوة السرد البسيط القادر على كسر إحتكار الخطاب، تماماً كما كسر داوود سطوة العملاق بضربة واحدة.
لقد أستخدم حزب اليسارهذا المبدأ في جميع موضوعاته: "نحن هنا في الأسفل ضد أولئك الذين في الأعلى". لكن، وعلى عكس قصة داوود وجالوت في الكتاب المقدس، فإن الأقوياء والأثرياء لا يُهزمون بضربة واحدة من فرد شجاع، بل عندما يتّحد الناس في الأسفل ويتحركون معاً. هذه السردية، "من هم في الأسفل ضد من هم في الأعلى"، كانت من أهم أسباب فاعلية حملة اليسار الانتخابية.
السبب الآخر لنجاح خطاب حزب اليسار كان التركيز. بدلاً من التشتت في مواضيع كثيرة، إتخذ الحزب قراراً مبكراً، بناءاً على محادثات مع الناس من باب إلى باب (عند طرق الأبواب)، بالتركيز على قضيتين واضحتين: الإيجارات يجب أن تنخفض، والأسعار يجب أن تهبط.
ورغم أن الحزب لم يتجاهل القضايا الأخرى ــ بل أظهر مواقف واضحة تجاهها وردّ على الاستفسارات عند الحاجة – إلا أن قنواته الرسمية ركزت على رسائل بسيطة ومباشرة: ثلاجات ممتلئة، وسكن آمن لك ولأحبّائك. هذه الرسائل لم تكن شعارات فقط، بل لامست واقع الناس اليومي، وركّزت على ما يهمهم بالفعل في حياتهم.
وهكذا، كان التركيز الواضح على أولويات حقيقية – بدلاً من الخوض في كل المواضيع دفعة واحدة – هو السبب الثاني وراء فاعلية حملة اليسار الانتخابية.
والباقي هو الحِرَفية. لا أحد يريد أن يسمع حزباً يقول إنه على حق بشأن نفسه. إن رسائل "أعتقد" هي أكثر تأثيرا من إعلان الحقيقة. والمزيد من الأمثلة، حول فوائد تذكرة النقل الرخيصة للأفراد. واللغة البسيطة أكثر قابلية للفهم من اللغة العامية اليسارية. إن المبالغات - دون أن تكون غير صحيحة أو غير واضحة - تجذب المزيد من الاهتمام بالمقارنة مع الاعتبارات المبالغ فيها. ويتم مخاطبة الناس عندما يكون التركيز على ما هو مهم بالنسبة لهم وما يعتقدون أنه صحيح. وشدد اليسار على القيم المشتركة في هذه الحملة الانتخابية. إن القواسم المشتركة والصدق يخلقان إرتباطاً عاطفياً. أصبحت هايدي رايشينك (37 عاماً، سياسية ناشطة وعضوة في البرلمان الألماني) ويان فان آكين (63 عاماً،عضو البرلمان الألماني، والرئيس المشترك لحزب اليسار) معروفان بخطاباتهما الناجحة على "تيك توك". فالسياسة ليست ندوة في الجامعة.
والسياسة هي تسويق أيضاً. عندما يقترن ذلك بموقف واقعي ونقد ذاتي، يمكن أن يكون الأمر أكثر من ذلك. الكلمات الرئيسية هي خفض الرواتب والاعتراف بالأخطاء. ولكن الأهم هو الاستماع بدلاً من التحدث بالهراء. وينطبق هذا على التحدث عند أبواب المنازل، وكذلك على أشكال الاتصال الأخرى. غالباً ما يفضل اليساريون العكس تماماً لما يقدّره الأشخاص الذين يريدون الوصول إليهم. لذلك، ينبغي إختبار الرسائل مسبقاً. إذا لم يكن لديك الميزانية اللازمة لإجراء إختبار احترافي، فيمكنك ببساطة إستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. إن التواصل السياسي يحتاج إلى رسائل قوية يفهمها الناس. ويجب إستخدام الرسائل فقط إذا كانت فعالة - وإلاّ فانك لن تجذب أي شخص.
وأخيراً، كلمة عن كلمات يان فان آكين الاستفزازية ولغة هايدي رايشينِك المباشرة. بعض الناس وجدوا بعض المداخلات مفرطة في الاندفاع. لكن كثيرين يرغبون بالضبط في ذلك: سياسيون يتحدثون كما يتحدث الناس في الشارع. كثيرون سئموا من لغة السياسة الرسمية والمصطلحات الجوفاء.
حزب اليسار تحدث في حملته الانتخابية كما يتحدث الناس في حياتهم اليومية، وهذا أمر جيد. لأن الناس يريدون الاستماع إلى بشر حقيقيين، وليس إلى روبوتات مُدرَّبة لا تجيب على الأسئلة وتتكلم جميعها بنفس الأسلوب.
لذلك فإن السرد الاستراتيجي يتطلب عدة مستويات من التواصل. بالإضافة إلى مستوى المحتوى، هناك أشياء أخرى مهمة لتجسيد السرد بشكل موثوق: المشاعر، واللغة الأكثر شخصية من المصطلحات المعتادة، والزي المناسب، على سبيل المثال. بالنسبة لبعض اليساريين، قد تكون هذه مجرد أمور سطحية.
لكن دعونا نكون صادقين: كان أسلوب التواصل اليساري في الماضي مُحرجاً في كثير من الأحيان. فعندما ظهر اليساريون بشكل بارز في ساحة السيرك الإعلامي، كان ذلك غالباً في دور المهرج.
أما الآن، فهم أصبحوا أشبه بآكلي النار. وليس هذا من قبيل الصدفة، بل نتيجة إستراتيجية تم إتباعها بشكل متسق ومدروس.
وبطبيعة الحال، احتفل اليسار بالنجاحات التي حققها من خلال حملة طرق الابواب خلال الحملة الانتخابية: ولكن مواقف وتوجهات العمال الذين يُريد "الوصول إليهم" في وطنهم بهذه الطريقة يمكن أن تكون ذات حدين تماماً. وفي ضوء ذلك، كيف من المفترض أن نعمل وفق مبدأ "نحن معاً ضد أولئك الذين يتربعون القمة"؟
العمال المرتبطون بالأجر ليسوا طبقة عاملة موحّدة، ولا حتى مجموعة متجانسة. إذ تتجلّى إختلافاتهم، على سبيل المثال، في الاستجابة الإيجابية التي يلقاها الهجوم المتواصل على مستلمي "إلاعانات " من قِبل كثيرين وأولئك الذين "يكدّون يومياً في العمل". والاجتهاد، الكفاءة والانضباط ، هذه الفضائل التي تُنسب إلى "الشرفاء"، تشهد في خضمّ الركود الاقتصادي رواجاً غير مسبوق. أما الرعاية الاجتماعية والضمان، فقد أصبح يُنظر إليهما كمجرد أعباء مالية لا أكثر.
لفهم مثل هذه المواقف داخل الطبقات المُهمَّشة، من المفيد أن نلقي نظرة أقرب على الخلفيات السياسية والاجتماعية التي تشكّلها. فذلك قد يُظهر لنا كيف يمكننا الاقتراب من المواقف والاهتمامات المختلفة، وما هي الآفاق المشتركة التي يمكن أن تنشأ منها سياسة تحررية ذات معنى.
والمقصود هنا ليس مجرد "إستقطاب" الناس، بل بناء شئ مشترك يتجاوز الشعارات، ويأخذ تجاربهم وأوضاعهم على محمل الجد.
مفيد في هذا السياق هو الكتاب الجديد، "المنتجون والطفيليون"، للفيلسوف ميشيل فِير، الذي يُحلّل فيه حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف بزعامة لوبين في فرنسا من خلال مفهوم "الإنتاجية".
يرى فِير أن حزب لوبين يقسم المجتمع الفرنسي إلى طبقتين مُتضادتين أخلاقياً:
المنتجون: وهم من يعيشون فقط من عائد عملهم، مثل أصحاب المشاريع والمستقلين والعاملين. هؤلاء يُعتبرون ملتزمين بقيم الجدارة والاستحقاق.
الطفيليون: وهم من يرفضون "قيمة العمل" ويستولون بسهولة على الثروة التي يُنتجها الآخرون. هؤلاء يتم تصويرهم ككسالى أو "لصوص"، سواء كانوا في الأعلى (مثل المضاربين الماليين) أو في الأسفل (مثل متلقي الإعانات الاجتماعية).
أما "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف (AfD)، فيختلف من حيث تركيزه: فهو لا يهاجم الطبقات العليا (المضاربين الأثرياء)، بل يركز نقده فقط على من هم "في الأسفل"، أي على المُحتاجين والمُهمشين. أما "المُضاربون العالميون"، فغالباً ما يتم تصويرهم من قبل الحزب على أنهم "ماركسيون ثقافيون" أو مزيج خيالي من "النخب اليسارية الخضراء المُتعفنة"، وليس كرأسماليين تقليديين.
حتى بعض اليساريين، إذا أعتبروا أن العمل في ظل الظروف السائدة يمكن أن يكون نقطة إنطلاق مفيدة لتقديم عرض جماعي للهوية، فإنهم بذلك يقعون في فخ "الإنتاجية" الذي ينتقده ميشيل فِير.
مثال بارز على هذا المنظور الإنتاجي هو الاقتصادي الأمريكي جيمس بوكانان، مؤسس (نظرية الاختيار العام)، والتي ترى السياسة على أنها ناتجة عن السعي الفردي لتعظيم الفائدة.
بوكانان قام منذ عقود بتقسيم ما إعتبره "طفيليات" إلى أربع فئات: العاطلون عن العمل، مستفيدو البرامج الاجتماعية، العمال المنظمون نقابياً، الذين يتمتعون بمزايا لا تتناسب – حسب رأيه – مع إستحقاقهم الشخصي، الموظفون الحكوميون "الكسالى"، النخب الثقافية.
بالتالي، فإن هذا النموذج يفترض أن الطفيليات ليست فقط في الأعلى (كما تقول بعض الخطابات اليسارية)، بل أيضاً في قطاعات واسعة من الطبقات العاملة أو الوسطى التي تحظى بأشكال من الحماية أو الدعم.
اللافت في هذا التصنيف هو ما يغيب عنه: المضاربون والأثرياء "اللصوص" لا يجري ذكرهم على الإطلاق. أما النتائج السياسية المُستخلصة من هذا الفهم "الإنتاجي"، فهي واضحة وتُطبق حالياً في الولايات المتحدة بقوة ودون تردد: خفض أو إلغاء المساعدات الاجتماعية، تحرير سوق العمل (أي تقليل الحماية القانونية للعمال)، ربط رواتب القطاع العام بالأداء الفردي فقط، إعادة هيكلة تمويل الجامعات (غالباً بتحميل الطلاب التكاليف).
كل هذه الإجراءات تُستمد من منطق الإنتاجية والمساءلة الفردية، وتُفرض بقوة، من دون أن تُطرح تساؤلات جادة حول العدالة أو المساواة في التوزيع.
لكن لماذا يبذل من يُسمّون بـ"الأكفاء" أو "المنتجين" كل هذا الجهد؟
إجابات على هذا السؤال يقدمها الفيلسوف جيسون ريد في مقالة لافتة نُشرت مؤخراً في كتاب جماعي حرره بن غووك بعنوان "اقتصادات الشهوة في أزمنة الأزمات"، تحت عنوان: "التضامن السلبي – الاقتصاد العاطفي في إنحدار النيوليبرالية".
ريد، أستاذ الفلسفة، يقدّم وجهة نظر جديدة في فهم المواقف السياسية إنطلاقاً من علاقات الطبقات الاجتماعية.
ففي زمننا هذا، أصبحت القدرة المطلقة على العمل والتشغيل الذاتي هي المثال الأعلى، أي أن يصبح الفرد "رائد أعمال لنفسه".
ويفسر ريد هذا التوجه كسردية (قصة) تنتقل من الخوف إلى المتعة، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن المشاعر السلبية إلى مشاعر الفرح والإنجاز.
بمعنى آخر: العمل لم يعد مجرد وسيلة للعيش، بل أصبح وسيلة للهوية، وإثبات الذات، حتى لو كان ذلك في سياق الاستغلال.
إنه إنتقال لا يعني التحرر أو التخلص من الخوف والحاجة، بل يمثل نوعاً من الخضوع.
ويبلغ ذروته في الفكرة الحديثة بأن الإنسان يجب أن يجد تحقيقه الذاتي وشغفه في العمل نفسه.
لكن الواقع أن الاستهلاك أو العمل المأجور لا يجلبان إلاّ القليل من الفرح، ومع ذلك لا يؤدي ذلك إلى رفضهما أو إلى نقد للرأسمالية، بل يُظهر نموذجاً جديداً للعمل على أنه إنضباط ذاتي.
ويُنظر إلى التغيير الذاتي "النافع" كوسيلة للحصول على الاعتراف والتقدير. أما التركيز على تحمّل المسؤولية الفردية لتجاوز المعاناة أو الصدمات الشخصية، فهو يُنتج في المقابل شكاً كبيراً في أي حل جماعي أو مؤسسي.
عالم الأنثروبولوجيا الثقافية ديفيد غريبر فسّر لماذا لا تؤدي حتى "الوظائف التافهة" إلى ازدراء عام أو تمرد. بل على العكس: العاملون المأجورون يكتسبون شعوراً بالكرامة والقيمة الذاتية – بالضبط لأنهم يكرهون وظائفهم.
يبقى الناس في أعمالهم لأنها مؤلمة أو مهينة أو صعبة. ومن يفخر بعمله لأنه صعب، يشعر بالغضب تجاه أولئك الذين لا يعملون، وكذلك تجاه من تكون أعمالهم "سهلة جداً" أو "غير مُجهدة كفاية".
ومن خلال هذا المنطق، يمكن فهم كيف تنشأ الكراهية تجاه العاطلين عن العمل ومتلقي الإعانات، وكيف يمكن إستغلال هذه المشاعر سياسياً. تصوّرات القيد والعجز تُستوعب داخلياً – بحسب جيسون ريد – كنوع من تمجيد للصلابة الشخصية والانضباط والقدرة على التحمّل، وكأنها آخر ما تبقّى للناس من مصادر للفرح.
ومن هنا تنبع المطالب بـ: المزيد من فرص العمل - إجراءات تقشّف أشد - ملاحقة أقوى للفئات الضعيفة والمهمّشة.
هذا النمط من النضال، الذي لا يسعى للتحرّر بل للتشدّد في الطاعة، يسمّيه جيسون ريد: «التضامن السلبي».
وهكذا نعود إلى نقطة البداية: أين يمكن فعلياً "التقاط" الطبقة المُستَغَلّة؟
هل يكون ذلك في الفخر بالعمل؟
أم في القبول بشروطه القائمة، رغم أنها تسير أساساً وفق منطق الربحية وليس العدالة؟
في عملٍ تُحدده أخلاقيات الجهد الفردي، لا حماية جماعية؟
الإجابة ليست سهلة كما توحي بها أحياناً التصوّرات التقليدية عن "مصالح طبقية واضحة".
فالانطباعات والمواقف التي تتكوّن من داخل علاقات العمل القائمة ومنطق التبعية تجعل المسألة أكثر تعقيداً.
هذا التحوّل لا يعني التحرر أو الخلاص من الخوف والحاجة، بل هو شكل من أشكال الخضوع. إنه يبلغ ذروته في الفكرة الحديثة القائلة بأن تحقيق الذات والشغف يمكن أن يُوجدا في العمل نفسه.
وبالرغم من أن الاستهلاك والعمل المأجور لا يقدمان فعلياً سوى القليل من المتعة، فإن ذلك لا يؤدي إلى رفضهما أو إلى نقد للرأسمالية .بل على العكس، يُعاد تقديم العمل كمثل أعلى للانضباط، ويُنظر إلى تغيير الذات بشكل "مفيد" كوسيلة للحصول على الاعتراف والتقدير.
وفي هذا السياق، تؤدي الفردية المتطرفة إلى نقل كامل للمسؤولية عن المعاناة والمآسي النفسية إلى الشخص نفسه – ما يولّد عدم ثقة عميقاً بأي حل جماعي أو مؤسساتي.
بمعنى آخر: إنك وحدك المسؤول، ولا أحد سيساعدك.
إذن نعود إلى النقطة الأساسية: أين يحدث "جمع" الطبقات المُسَتَعبَدة؟ هل في الفخر بالعمل أو حتى الاعتراف بظروفهم التي تقوم أولوياتها على معايير الربحية؟ هل هو العمل الذي يتميز بـ أخلاقيات الالتزام الفردي بدلاً من الحماية الجماعية؟
الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، خاصة عند النظر إلى المواقف التي تنبع من العلاقات الاجتماعية السائدة. فبمجرد أن نغوص في الواقع، نكتشف أن الاهتمامات الطبقية لا تكون دائماً بسيطة كما قد يوحي بعض الخطاب السطحي عن التفاوت الطبقي.
إذا اتبعنا تشخيص فير، يمكننا أن نلاحظ أن العديد من القوى اليسارية تتبنى (الإنتاجية) التي تعاني من صعوبة في الانفصال عن العلاقات الرأسمالية الحالية. ففي هذا الإطار، يُصنف البرجوازيون، من الاشتراكيين الديمقراطيين إلى حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، بوصفهم "المتطفلين" الذين يعيشون من إنتاج الآخرين، بينما يحاولون استبدالهم بـ "الطفيليات العليا"، أي المليارديرات.
لكن هذا الاقتراح، في النهاية، يبدو غير فعال: في إطار الإنتاجية المتحمسة، من السهل التعامل مع الفقراء الذين يعتمدون على المدفوعات الحكومية ويظهرون في الواقع بشكل أقرب، مقارنةً بـ المليارديرات الذين يَبقون بعيدين وغير قابلين للمساس. والأسوأ من ذلك، أن أشخاصاً مثل إيلون ماسك أو مارك زوكربيرغ أصبحوا اليوم نجوماً، يُتوقع منهم تقديم إلهام ورؤى جديدة.
إن إستراتيجية التحرر اليسارية تحتاج لأكثر من مجرد مهاجمة الأغنياء أو الأقوياء أخلاقياً. فالقيم مثل الانضباط، الاستفادة القصوى من الذات، وتحمل المعاناة في العمل ليست بالضرورة "تقدمية"، بل هي أقرب لخطاب اليمين أو الليبراليين الذين يستخدمونها لتبرير سياسات التقشف والتنافس.
والنقد الإضافي هو أن اليسار أحياناً يركض وراء الحملات الإعلامية والغضب الشعبي دون أن يكون عنده رؤية مجتمعية واضحة أو إستراتيجية مستقلة تجعل الناس فعلاً ينجذبون له بشكل إيجابي.
وأخيراً، كإشارة مهمة بشكل خاص، عندما نتحدث عن المواقف الأولية والبديهية التي يتبناها الناس في حياتهم اليومية (ما يُسمّى بـ المواقف ما قبل السياسية أو الاتجاهات السابقة على الوعي السياسي) فذلك لأنها تشكل الأرض الخصبة لأي مشروع سياسي حقيقي.
تظهر مثل هذه النواقص المفاهيمية أيضاً في عودة الحديث عن "الطبقات المقهورة" داخل الأوساط السياسية ذات الإلهام الاشتراكي خلال العقد الماضي. فبدلاً من إفتراض وجود مصلحة طبقية موحّدة للعمال المستغَلّين، أو الانجرار وراء صورة مثالية ومصقولة للفخر بالعمل، يجب التركيز أكثر على تمييز ظروف الطبقات المختلفة، أي أشكال السيطرة المتعددة والتجارب المختلفة في طرق الحياة والمعيشة.
إن الآليات الاقتصادية لهذه الطبقات لا تقتصر على المجال الإنتاجي فقط، بل تتغلغل وتُعيد تشكيل علاقات إعادة الإنتاج الموسّعة، حيث تظهر في جميع مجالات أنماط الحياة – في إعادة الإنتاج الاجتماعي، وفي المؤسسات الحكومية، وعالم الاستهلاك، والتركيبات الاجتماعيةــ الثقافية.
إن تجمعات الخضوع، والمصادرة، والاستغلال تمارس ضغوطاً بأشكال متعددة داخل أنماط الحياة. وتندمج علاقات العمل في هذه الأنماط تحت شروط متغيرة لقيمة رأس المال وتوظيفه.
وفي السياق ذاته، فإن عملية (تشكّل الذات) لها بُعد آخر في تشكّل المصالح الطبقية، أي البنية التي تتكوّن من المواقف الشخصية، والقناعات، والرغبات داخل السياق الاجتماعي المعين. ويتم إعادة إنتاج هذه البنية باستمرار في الحياة اليومية، كما يمكن أن تؤدي في الوقت نفسه دوراً في تعويض التجارب السلبية.
كل هذا ـ أي هذا المزيج الجماعي من علاقات الطبقات ـ يصبّ في بُعد ما قبل سياسي من مصالح الطبقات. هذا البُعد ينشأ من مواقف الناس اليومية، بتناقضاتها وصراعاتها وتقلباتها المزاجية. ومن هذه المواقف يمكن أن يتكوّن الأساس الأولي لوعي طبقي، غير أنه لا يتبلور بوضوح إلا من خلال الارتباط بمقاومات جماعية وصراعات طبقية.
هذا التفكير يُمكن أن يُكمل أفكار فيهر و ريد، التي تقول إنّه لا يكفي، في بناء الاستراتيجيات السياسية وتوجيه التعبئة، أن يتم الاعتماد فقط على مواقف فردية مُتشظّية وعلى ما تُمليه عمليات العمل. فمثل هذا التبسيط لا يُغفل فقط ظروف (تشكل الذات)، وأنماط حياتهم، وآليات إستثمار رأس المال، بل يُغفل أيضاً من أن البعد السياسي الراهن يتصف بانتشار العدمية واليأس.
مع ذلك، تُوفّر علاقات الطبقات أيضاً فرصاً للتعبئة التحررية، كما يتضح من مواقف الناس تجاه السكن والصحة. لكن ما يزال من الضروري، من منظور أشتراكي، بناء قوة جماعية مستقرة لتلك التدخلات السياسية، قوة تكون قادرة على تحويل هذه المواقف إلى حركة فعالة ومنظمة.
ما يهم اليسار الآن
لدى اليسار فرصة لتقديم بديل موثوق. لقد منحتنا نتائج الانتخابات الفيدرالية شعوراً بالارتياح، ولكن لا اليسار ولا أنصاره أو المتعاطفين معه يستطيعون أن يرتاحوا إلى هذه النشوة الأولية. مع إنتقال المجموعة البرلمانية إلى القاعات البرلمانية التي ناضل من أجلها آلاف الناشطين بشدة، يتعين على جميع الأعضاء - سواء الجدد في الحزب أو أولئك الذين كانوا نشطين في اللجان لسنوات - أن يفهموا ما هو مهم الآن.
إذا إستبعدنا النجاح الذي حققته وسائل التواصل الاجتماعي وديناميكيات التعبئة خلال الحملة الانتخابية، فلا بد من القول إن النتيجة القوية للانتخابات ترجع في المقام الأول إلى إستراتيجية واحدة: الرفاق الملتزمون الذين نظموا هذه الحملة الانتخابية على مستوى القاعدة الشعبية عرفوا كيف يبثون حياة جديدة في إستراتيجية ديمقراطية إجتماعية أصيلة (نُسيت منذ زمن طويل). كان الحزب قريباً من الناس، ويعرف همومهم وإحتياجاتهم، مركزاً بشكل واضح على القضايا الاجتماعية.
وعلى المستوى البرلماني، فإن التفويض واضح: إن القرارات المقبلة لحكومة ميرز (من الحزب الديمقراطي المسيحي) فيما يتصل بحُزم الاستثمار وإعادة التسلح والبنية الأساسية لن تؤدي إلى تغيير أي من الأزمات المُتفاقمة في الحياة اليومية. لن تنخفض أسعار المتاجر الكبرى، ولن يكون السكن رخيصاً أو وفيراً، ناهيك عن المعاشات التقاعدية. وهنا من المهم تكثيف الصراع الطبقي.
لا ينبغي أن نضع نجاح اليسار الانتخابي فوق إنتصاره الحقيقي: دخول عشرات الآلاف من الأعضاء الجدد. إن القوة اليسارية القوية اجتماعياً لا تتواجد بشكل أساسي في البوندستاغ، بل في المقاهي والحانات، والمساحات الثقافية، والبرلمانات المحلية، والجمعيات في المدن. إن قاعدة حزبية أقوى بمرتين من قاعدة ("حزب البديل لألمانيا") اليميني المتطرف قادرة على تغيير الهيمنة السياسية في ألمانيا وأوروبا بشكل مستدام. ويجب إغتنام هذه اللحظة وتعزيزها بشكل أكبر.
لا يمكن الافتراض أن الأعضاء الجُدد العديدين يجلبون الخبرة السياسية والمعرفة النظرية إلى الحد الذي يجعلهم يبذلون الطاقة في الحملة الانتخابية. ويجب فتح المساحات الخطابية والمناقشات الاستراتيجية وجعلها مُتاحة لتمكين التعليم السياسي والمشاركة على المدى الطويل. ويجب أن نأخذ تجارب النضالات الماضية في الاعتبار: فأي شخص شهد حركات الاحتجاجات العديدة وبمسميات مختلفة، يعرف أن الوعود غير المدروسة والتكيف مع المجموعات الوسطية يعني الموت السريع للحركات القوية.
والآن أصبحت لدى اليسار الفرصة لتقديم بديل موثوق لنهج "العمل كالمعتاد" الفاشل. ويجب أن تكون هذه المسؤولية مشتركة وأن يتم عيشها طوال الفترة. إن النتيجة القوية في زيادة نسبة الأصوات في الانتخابات البرلمانية في مدينة هامبورغ مؤخراً توضح أن الحزب يسير على الطريق الصحيح. المعركة لم تنته بعد، لقد بدأ الأمر للتو.
المصادر 1.لوكا ليون ماركمان، من مواليد عام 1998، هو حاصل على منحة من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، وطالب ماجستير في العلوم السياسية في مدينة ماربورغ. 2.والتر بيكر وأولي فيسر هما من أعضاء مجموعة "التغيير الجذري للنظام" في مدينة فرانكفورت أم ماين. 3.يان شليمرماير، من مواليد عام 1983، هو عضو في مجلس إدارة معهد الحداثة التضامنية وعضو في حزب اليسار (Die Linke).
#حازم_كويي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترامب وأزمة المناخ
-
مقارنات الحقبة النازية وإستمراريتها
-
أميركا تستعد لتأثيرات ترامب في فترة رئاسته الثانية
-
دكتاتورية الليبراليون الجُدد
-
الرجعيات العالمية والشبكات اليمينية في أنحاء العالم
-
كيف سيتصدى حزب اليسار الألماني أمام صعود اليمين المتطرف
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
-
عودة حزب اليسار الألماني
-
تزايد المشاكل التي تواجه جورجيا ميلوني
-
هل هذه هي الفاشية الآن؟
-
اليسار يواجه ثورة ثقافية حقيقية
-
رياح منعشة تهب داخل حزب اليسار الألماني
-
-الاتحاد الأوروبي يواجه الإنكسار-
-
الأثرياء في ألمانيا لا يخلقون الثروة بل يستنزفوها
-
خمس عواقب لسياسة الرسوم الجمركية التي ينتهجها دونالد ترامب ع
...
-
إجراءات ترامب بقطع مساعدات التنمية
-
العقل المدبر للذكاء الاصطناعي في الصين
-
قوة ترامب مبنية على الرمال
-
وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تجعلك مريضاً عقلياً. الرأسما
...
-
الحزب كقوة خلاقة
المزيد.....
-
وفد عن حزب التقدم والاشتراكية برئاسة الأمين العام الرفيق محم
...
-
البابا فرنسيس يلم شمل الإنسانية.. الفقراء والأغنياء يجتمعون
...
-
قداس وعظة مؤثرة تظهر مناقب البابا فرنسيس نصير الفقراء والمها
...
-
جنازة مهيبة لـ-بابا الفقراء- فرنسيس بحضور عالمي كبير
-
تغطية مباشرة: العالم يودع البابا فرنسيس في جنازة تجمع الفقرا
...
-
المونسنيور عبدو أبو كسم: اليوم هو يوم وداع رسول الفقراء البا
...
-
اللجنة الوطنية للأطباء البياطرة المفتشين تندد بمحاولة تمرير
...
-
كيف علقت الفصائل الفلسطينية على مخرجات اجتماع المجلس المركزي
...
-
إيطاليا: صدامات في تورينو بين الشرطة ومتظاهرين في الذكرى الـ
...
-
فو نغوين جياب آخر قائد تاريخي لفيتنام الشيوعية
المزيد.....
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
-
قراءة ماركسية عن (أصول اليمين المتطرف في بلجيكا) مجلة نضال ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسائل بوب أفاكيان على وسائل التواصل الإجتماعي 2024
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|