محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8324 - 2025 / 4 / 26 - 08:49
المحور:
سيرة ذاتية
ماتت أمي وأنا في تونس، بعيد عن الوطن. لم أحضر موتها، ولا دفنها، ولا تلك اللحظة الأخيرة التي ينظر فيها الابن لأمه للمرة الأخيرة. كنت خائفًا من العودة، لأنني خرجت من الجزائر دون رخصة، ولا إذن، وكانت حرب العصابات مع الجماعات المسلحة في ذروتها. لم نكن نعلم وقتها هل نحن على صواب أم على خطأ... كنا فقط نركض، نتوارى، ونحاول النجاة.
ثم مات أبي، ودفنوه، ولم أره.
مضى أبي كما مضت أمي، كل واحد منهما رحل دون أن أقبّل جبينه، دون أن أتمتم بدعاء الوداع، دون أن يسمع صوتي أو ألمح وجهه للمرة الأخيرة. ومضيت أنا، بعيدًا، أتحمل كل تلك الحرقة وحدي.
تُقتلني الغصّة كل يوم. تحاصرني في كل لحظة، كلما رأيت ابنًا بجانب أمه، أو حفيدًا على حجر جدّه. أولادي لا يعرفونهم؛ لا صورة ولا ذكرى ولا حضن دافئ لهم. لا أحد هنا يعرف من كانت أمي، كيف كانت تربيّني إذا بكيت، أو كيف كان أبي يهمس لي حين أضعف. لا أحد هنا يعرف شيئًا... ولا حتى أنا أستطيع أن أشرح.
تسكنني الحسرة كلما نظرت في المرآة، كلما اشتدت بي الوحدة، كلما خيّم الليل وسكنت الأصوات.
وأقولها الآن بعد كل هذا العمر، بعد كل هذا البُعد: اسمح لي يا أبي... اسمحي لي يا أمي... خانني الزمن وخنتكما دون قصد. خذلتكما في وداعكما، خذلت نفسي حين اخترت الغياب. سامحاني على الغياب، سامحاني على الخوف، سامحاني على كل لحظة صمت فيها اسمي عنكما.
أعيش بعيدًا، عن الوطن، عن القبور، عن الماضي. لكن قلبي لم يغادركما أبدًا.
وكلما ضحكتُ في وجه الناس، ضجّت روحي ببكاء صامت.
وكلما مرّ يوم، أحسست أن ما تبقى لي من الحياة... مجرّد بقايا رجل يبحث عن وطنه بين صلاتين:
واحدة لم تُصلَّ على أمه،
وأخرى لم تُقرأ على أبي.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟