أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري
(Ahmed El Gohary)
الحوار المتمدن-العدد: 8324 - 2025 / 4 / 26 - 04:50
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المقدمة:
في خضم الصراع الطويل ضد الهيمنة الرأسمالية، ظهرت تجارب عدة ادّعت الانتماء إلى الاشتراكية، إلا أنها ما لبثت أن تكشفت عن أنظمة بيروقراطية سلطوية تمارس الاستغلال تحت ستار الاشتراكية، مما أوقع الجماهير في خيبة أمل عميقة. وفي هذا السياق، برزت رؤى نقدية مختلفة حاولت التمييز بين الاشتراكية الحقيقية وتجارب "رأسمالية الدولة" التي ارتدت عباءة الاشتراكية شكلاً بينما ظلت رأسمالية الجوهر والمضمون. من بين هذه الرؤى يبرز موقف كل من المفكر المصري فؤاد زكريا والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، اللذين انطلقا من خلفيات فكرية مختلفة لكنهما التقيا في نقد حاد للتجارب الزائفة التي شوهت معنى الاشتراكية.
يهدف هذا المقال إلى مقارنة وتحليل النقد الذي قدّمه كل من زكريا وتشومسكي لتجارب "رأسمالية الدولة"، من خلال توظيف المنهج المادي الجدلي، وضمن منظور اشتراكي تحرري لا سلطوي نقابي يرفض كل أشكال الاستغلال والقهر، سواء أتت من السوق أم من الدولة. وسنقوم بتحليل نصوص أصلية للكاتبين، مع اقتباس مباشر من مقالتيهما، والتعليق عليها في ضوء قراءة ماركسية-تشومسكية تنطلق من المبادئ الجوهرية للحرية والمساواة
التحليل: الاشتراكية الزائفة بين النظرية والتجربة – تأملات مادية جدلية
في سياق النقد الاشتراكي الجذري للدول التي ادعت تمثيل الاشتراكية – بينما حافظت عمليًا على بنية اقتصادية بيروقراطية وسلطوية – يظهر تقاطع جوهري بين أطروحات فؤاد زكريا ونعوم تشومسكي. كلاهما، انطلاقًا من مرجعية عقلانية وإنسانية، يرفضان اختزال الاشتراكية في السلطة المركزية أو في الدولة التي تدّعي تمثيل الطبقة العاملة بينما تمارس القهر والتسلط. ومن هنا تنبع أهمية تحليل مقاليهما باستخدام المنهج المادي الجدلي، الذي يفترض التفاعل بين البنية التحتية (الاقتصادية) والبنية الفوقية (السياسية، الأيديولوجية)، لفهم جوهر تلك التجارب لا من منظور شعاراتها، بل من واقعها المادي.
أولًا: فؤاد زكريا – نقد "اشتراكية الدولة" كإنتاج سلطوي لبنية طبقية جديدة
ينطلق زكريا في مقاله "الاشتراكية في مواجهة التخلف" من موقف نقدي جذري تجاه ما يسميه "الاشتراكية المتخلفة"، معتبرًا أنها لم تكن إلا غطاءً أيديولوجيًا لصيغة من رأسمالية الدولة. يكتب:
"أنشأت الدول التي تبنّت الاشتراكية في العالم الثالث جهازًا بيروقراطيًا متضخمًا احتكر وسائل الإنتاج باسم الطبقة العاملة، لكنه في الحقيقة لم يُخرجها من دائرة الاستغلال، بل نقل الهيمنة من طبقة رأسمالية تقليدية إلى جهاز بيروقراطي يستند إلى الدولة ذاتها."
هذا التحليل يتقاطع مع المادية الجدلية حين نلاحظ أن وسائل الإنتاج ظلت متمركزة في يد سلطة عليا غير خاضعة لرقابة ديمقراطية من القاعدة الشعبية. وهنا، يمكن القول إن ما جرى هو تغيير في الشكل السياسي وليس في نمط الإنتاج أو علاقات الإنتاج. البنية التحتية – أي ملكية وسائل الإنتاج – لم تنتقل إلى العمال فعليًا، بل إلى طبقة بيروقراطية جديدة، شكلت طبقة مستغِلة بامتياز. وبذلك، أعيد إنتاج التناقض الطبقي في صورة مموهة.
يضيف زكريا بوضوح بالغ:
"الاشتراكية التي لا تضع في صلب مشروعها تحرر الإنسان الفردي وتوسيع حرياته ليست إلا نقيضًا لما دعت إليه الاشتراكية الأصلية... لقد سقطت الاشتراكية البيروقراطية لأنها لم تكن اشتراكية أصيلة، بل نسخة مشوهة هجينة."
تحليل زكريا يعكس رؤية مادية جدلية دقيقة، إذ يربط سقوط تلك النماذج بعدم اتساقها الداخلي، أي التناقض بين شعاراتها والبنية الاقتصادية التي حافظت على منطق السيطرة. فكما يعلمنا المنهج الماركسي، فإن التناقض بين القوى المنتِجة وعلاقات الإنتاج يولّد أزمة. وهنا، الأزمة لم تكن فقط اقتصادية، بل سياسية وأخلاقية، وهو ما أفضى إلى سقوط الاتحاد السوفيتي ومعه النموذج السلطوي المركزي الذي حاد عن الاشتراكية العلمية.
ثانيًا: نعوم تشومسكي – سلطة الدولة أم سلطة العمال؟
في مقاله "الاشتراكية الحقيقية والاشتراكية الزائفة"، يقدم تشومسكي نقدًا حادًا لمفهوم الدولة الاشتراكية كما تم تجسيده في الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية. يقول:
"الاشتراكية، في جوهرها، تعني تحكم العامل بعملية الإنتاج، لكن ما رأيناه هو دولة تستولي على الإنتاج وتديره بالنيابة عن العمال، ما أدى إلى استبدال الطبقة الرأسمالية القديمة بطبقة بيروقراطية جديدة."
يتطابق هذا التصور تمامًا مع رؤية زكريا، غير أن تشومسكي يعمق تحليله من زاوية أناركية، متأثرًا بالتراث الليبرالي التحرري والاشتراكية النقابية. فهو يرى أن الدولة، مهما حاولت أن تتزين بالشعارات الاشتراكية، ستبقى – بطبيعتها – مؤسسة قمعية. لذا، فإن البديل ليس "دولة اشتراكية" بل "مجتمع بلا دولة"، يقوم على اتحادات حرة للعمال، ديمقراطية وقاعدية.
ويضيف تشومسكي:
"كلما ابتعدنا عن المبدأ الأساسي – أي أن العمال يجب أن يديروا الإنتاج بأنفسهم – كلما اقتربنا من نسخة من رأسمالية الدولة، حيث تكون الدولة هي الرأسمالي الأكبر."
هذه الرؤية تنسجم مع موقفنا الاشتراكي التحرري النقابي، الذي يرفض الحلول الفوقية، ويشدد على ضرورة الانتقال إلى نمط إنتاج تعاوني قاعدي، يربط الديمقراطية الاقتصادية بالديمقراطية السياسية. وهنا، تظهر أهمية النقابات المستقلة كأدوات للتحول الاجتماعي، لا كأذرع للسلطة. تشومسكي لا يقف فقط عند النقد، بل يفتح أفقًا للممارسة، عبر تجارب مثل كومونة باريس، أو مجالس العمال في إسبانيا الثورية، كنماذج للاشتراكية الحقيقية.
ثالثًا: الدولة كإعادة إنتاج للهيمنة – رؤية مادية جدلية مقارنة
إذا ما استخدمنا أدوات المادية الجدلية، فإن الدولة، في التجارب الاشتراكية الزائفة، لم تكن سوى تجسيد لمصلحة طبقية جديدة. لقد انتقلت السيطرة من الرأسمالي إلى البيروقراطي، دون أن تتغير البنية العميقة للعلاقات الإنتاجية. بل إن هذه "الاشتراكية" كانت، في واقع الأمر، نمطًا خاصًا من الرأسمالية، حيث استُبدل رأس المال الخاص برأس مال الدولة، مع بقاء العمل المأجور، والانفصال بين المنتج ووسائل الإنتاج.
زكريا، من جانبه، ينبه إلى خطر تأليه الدولة:
"إن الدولة التي تُنصّب نفسها وصية على المجتمع تحت ذريعة تحقيق الاشتراكية، تُعيد إنتاج الهيمنة، وتحوّل الاشتراكية إلى أداة قمع لا تحرر."
بينما يقول تشومسكي:
"حين تُسلَّم أدوات الإنتاج إلى الدولة دون ضمانات ديمقراطية، فإننا لم نقم بثورة، بل فقط استبدلنا ربّ عمل خاص بربّ عمل جماعي لا يمكن محاسبته."
في كلا المقولتين، نرى البنية التحتية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية تُعاد إنتاجها، لا على أساس الحرية والمشاركة، بل على أساس الإخضاع والسيطرة. وهنا، يصبح التناقض واضحًا بين الاشتراكية كتحرر شامل، وبين التطبيق السلطوي لها الذي يحافظ على منطق الاستغلال، وإن تحت أسماء مختلفة.
رابعًا: وعي الطبقة العاملة – من الاغتراب إلى التنظيم الذاتي
المادية الجدلية تعلمنا أن الوعي ليس منعزلًا عن الشروط المادية. في هذا السياق، يمكننا فهم لماذا لم تنهض الطبقة العاملة في دول رأسمالية الدولة لتطالب بحريتها. لقد كانت تلك الدول تمارس شكلًا جديدًا من "الاغتراب"، حيث يُطلب من العامل أن يؤمن بأنه "يحكم" من خلال الدولة، بينما يُمارس عليه القمع باسمه. أي أن الاستلاب لم يكن فقط اقتصاديًا، بل أيديولوجيًا كذلك.
زكريا يلمّح لهذا حين يقول:
"إن أخطر ما في الاشتراكية البيروقراطية هو أنها تُشعر العامل بأنه جزء من السلطة، بينما يتم سلبه فعليًا من كل قدرة حقيقية على اتخاذ القرار."
أما تشومسكي، فيذهب أبعد:
"حين يُقال للعامل أنه يعيش في دولة العمال، بينما هو لا يملك حق الإضراب أو التنظيم المستقل، فإن هذه ليست اشتراكية، بل دعاية."
هنا تتضح أهمية التنظيم الذاتي للعمال. فبدون بناء مؤسسات قاعدية – مثل المجالس العمالية أو النقابات الديمقراطية – يصبح الحديث عن الاشتراكية مجرد واجهة أيديولوجية لتبرير القمع. وهذا ما نلمسه اليوم في دفاعنا عن النقابية الثورية كأداة لتحقيق الاشتراكية من القاعدة إلى القمة، لا العكس.
خامسًا: الاشتراكية التحررية مقابل الاشتراكية السلطوية
المقارنة بين زكريا وتشومسكي تكشف عن تقاطع كبير في النقد، وإن اختلفت الخلفيات الفلسفية. زكريا يأتي من خلفية عقلانية نقدية ذات توجه إنساني، بينما تشومسكي يجمع بين العقلانية الأناركية والمادية الاجتماعية. لكن كليهما يرفضان النزعة السلطوية، ويؤكدان على مركزية الإنسان كذات فاعلة.
التجارب الاشتراكية السلطوية، كما يحللها الكاتبان، فشلت لأنها انحرفت عن جوهر الاشتراكية، المتمثل في تحرر الإنسان، لا في خضوعه. لقد سعت إلى السيطرة لا التحرر، وإلى المركزية لا التشاركية. وفي كل مرة كان يتم فيها نفي الديمقراطية بحجة "بناء الاشتراكية"، كان يتم في الحقيقة تقويض الاشتراكية نفسها.
من هنا، يتعين علينا كاشتراكيين تحرريين أن نعيد الاعتبار للفكرة الجوهرية: الاشتراكية لا تُفرض، بل تُبنى من الأسفل. لا تأتي عبر الحزب الواحد، بل عبر التنظيمات القاعدية الحرة. لا تقوم على الدولة، بل على المجتمع المنظم ذاتيًا.
الخاتمة:
إن استحضار النقد الجذري الذي قدمه كل من فؤاد زكريا ونعوم تشومسكي لما يسمى بالتجارب "الاشتراكية" يكشف بوضوح مدى الزيف الذي أحاط بهذه التجارب، ويعزز الحاجة إلى إعادة تعريف الاشتراكية باعتبارها تحررًا فعليًا من الهيمنة الاقتصادية والسياسية معًا. كلا المفكرين، رغم اختلاف السياق الثقافي والسياسي، اتفقا على أن الاشتراكية لا يمكن أن تُختزل في امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج، بل يجب أن تعني ملكية جماعية ديمقراطية، وإدارة ذاتية فعلية من قبل العمال أنفسهم.
لقد عبّر زكريا وتشومسكي بطرق مختلفة عن قناعة واحدة: لا اشتراكية بدون حرية. ولا حرية في ظل دولة تستولي على مقدرات المجتمع وتحتكر السلطة. إن جوهر الاشتراكية الحقيقية هو في التحرر من كل سلطة استبدادية، سواء كانت السوق أم الدولة، وفي إقامة نظام يقوم على التعاون، واللامركزية، والسيطرة الشعبية.
الاستنتاج:
من خلال مقارنة نقد فؤاد زكريا ونعوم تشومسكي للتجارب الزائفة التي رفعت راية الاشتراكية زورًا، يتضح أن المسألة ليست مسألة شعارات أو مصطلحات، بل مسألة بنية سلطوية يجب تفكيكها. إن الاشتراكية الحقيقية، من منظور اشتراكي تحرري لا سلطوي نقابي، هي مشروع جماهيري جذري يقلب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية رأسًا على عقب، لا مشروع نخبوي تقوده بيروقراطية الدولة. ومادامت التجارب المسماة اشتراكية تحافظ على علاقات الهيمنة – حتى وإن تم تغيير أسماء الطبقات – فإنها ليست سوى رأسمالية متخفية.
المصادر:
• فؤاد زكريا، "هل كان ما طبّق في الاتحاد السوفيتي اشتراكية حقيقية؟"، مجلة العربي، العدد 186، سبتمبر 1974.
• نعوم تشومسكي، "Government in the Future"، محاضرة في معهد برودواي، 1970. النص المترجم إلى العربية والمنشور على موقع الحوار المتمدن، ترجمة د. عبد الله صالح.
#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)
Ahmed_El_Gohary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟