|
شيطانُ بازوليني 2 / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1803 - 2007 / 1 / 22 - 09:43
المحور:
سيرة ذاتية
خامساً ـ سنواتُ البدايات في تشرين الثاني عام 1945 ، كان بيير باولو في الثالثة والعشرين من سنّ عنفوانه وفتوّته وإرادته ، حينما قدم والده إلى بلدة الأسلاف " كاسارا " ، شائخاً منهكاً محطماً . ما كان كارلو ، الأب ، قد تخطى بعدُ حدودَ الخمسين من عمره ، إلاّ أنّه بدا أكبر من ذلك بكثير . هو الضابط المبعدُ عن الخدمة العسكرية ، رغم صدره المتخم بالأوسمة والنياشين ، بعدما إنهار بأسره النظام ُ الفاشيّ الذي خدمه بإخلاص حتى النهاية . وما كان الرجل ليأبه كثيراً ببرود عواطف إبنه البكر تجاهه ، لأنه مدرك مدى الهوّة الفاصلة بين عقليتيهما ؛ إنما صدمه ذلك التغيّر البادي على زوجه ، سوسانا ، التي إنكفأت إلى عالمها الداخليّ إثر النكبات المتوالية على حياتها ، وخاصة مصرع إبنها الشاب خلال الحرب . من جهة اخرى ، نرى شاعرنا يستعيد حيويته وتألقه ، فينبري للخوض في مسألة شائكة تهمّ مصير ومستقبل الأدب الإيطاليّ لما بعد مرحلة الفاشية ؛ مسألة اللغات المحلية وثقافاتها وتقاليدها ، والتي كبتت وقمعت أو همشت طوال العقود الماضية . وكما سبق إليه الإشارة في حلقتنا السابقة ، فقد أصرّ بازوليني الشاب على الكتابة بلغة إقليمه ، الفريولية ، مؤكداً على جدلية التنوع والتعدد والوحدة ، المطبوعة بها ثقافات بلاده ، وبطلان خرافة " الثقافة القومية " ، التي كانت تبشر بها الإيديولوجية الفاشية . بيد أنه عارض ، في المقابل ، إستغلال هذه المسألة من لدن مجموعات سياسية متطرفة ، تسعى إلى فصل الإقليم عن موطنه الأم ؛ مبتدئاً من ذلك الموقف طوراً آخر في حياته الأدبية / الإجتماعية ، كمحاور نشط ٍ ، صلب ، مشاكس ٍ إلى حدّ التهوّر ؛ المحاور الذي سيشغل إيطالية الستينات والسبعينات ، سواء بسواء خلال مساجلاته التلفزيونية أو الإذاعية أو الصحفية . منذ مستهلّ خطوه ، أدرك بازوليني أنه منذورٌ للشعر ، وفي كل المجالات الإبداعية التي خاضها كان أولاً وأخيراً ، شاعراً . وبشقوَته هذه ، لم يكترث بالصعاب والمشاق التي وجد جيله متخبطاً بها ؛ جيل ما بعد الحرب ، حيث البطالة والتشرد والبؤس والجهل .. والجوع أيضاً . شاعراً ، إذاً ، وفناناً ، كان لابد له أن يهتدي في غمار ذلك العقد الصعب ، المعقد ، إلى طريقه الصائب وأن يمضي فيه بكل جسارة وتحدّ وتوق ٍ ، ورغماً عن المجهول المنتظر . هاهو يختارُ البقاء في موطن أسلافه الجميل ، المحروس بمارد " الألب " ، الشامخ ؛ في بلدته الصغيرة ، كسارا ، ومع أهاليها المزارعين الطيبين ، الذين كانوا من الفاقة والحاجة ، أنهم لم يستوعبوا أهمية قرار الحكومة القاضي ببناء مدارس شعبية في الأرياف تمهيداً لفرض التعليم الإلزامي . وقرر شاعرنا ، من جهته ، إمتهان حرفة التعليم في تلك المدارس المستحدثة ، مستفيداً من إكماله بنجاح وتفوق لدراسته الجامعية ، ومعرفته الحصيفة للغة وآداب إقليمه ، الفريوليّ ، فضلاً عن تاريخه وحضارته وتقاليده . في العام التالي ، أصدر بازوليني مجموعته الشعرية الثانية ، " قصائد " ، وعن ذات المطبعة التي سبق له أن أنشأها في بلدته . ولكي يجلب الصيت لمؤسسته الصغيرة هذه ، إستطاع إقناع شاعر كبير بحجم " مونتالي " ، أن ينشر ديوانه فيها ؛ الشاعر الذي كان معجباً جداً به ويعرفه عن طريق المراسلة ، وفي الفترة التي سبقت منحه جائزة نوبل للآداب . وبالمقابل ، أبدى مونتالي تعاطفه مع الشاعر الشاب ، ودعاه إلى الكتابة في مجلته الأدبية " إل موندو " ، المهمّة ، المرجحة على مثيلاتها في العاصمة الإيطالية . وشاء شاعرنا ، الفريوليّ ، أن يسِمَ مطبعته بأعز الأسماء إليه ، " غيدو " ؛ تكريماً لذكرى شقيقه وتوأم روحه ، البيرتو غيدو ، الذي سقط صريعاً في المعركة ضد الفاشية ولمّا يبلغ بعد سنّ العشرين . وكم كانت رائعة وحميمة لفتة الأب ، حينما عرضَ على بيير باولو قبوَ منزل العائلة ، لكي يستخدمه كمقرّ للمطبعة ؛ الأب الصارم ، نفسه ، من أدرك الآن في شيخوخته المبكرة ، مقدار الطاقة الإبداعية المشحونة في الإبن البكر . وما شارف على نهايته ، عقدُ أربعينات القرن المنصرم ، إلا وهذا الإبنُ الضالُ ، المشاكس ، يتقدّم من والده بإهداء مجموعة شعرية جديدة ؛ هي الرابعة في حظّ تسلسلها المطبوع ، والتي باشرها بهذا العنوان الغريب ، " عندليبُ كنيستنا الكاثوليكية " . هوذا شاعرنا بنفسِه الرومانسيّ ، ينشدُ بتجلّ :
" لقد أحببتُ كثيراً : طفولياً كان ، وبلا جدوى ، أملي الناعمُ : لم أخترْ أحلامي سواء المؤجلة منها ، أو المتبسّمة : كانت أصيلة على أيّ حال . وقبلاتي ، غير المتبادلة ، كانت من الجدوى أنها جنّبتْ أفكاري من هلاكٍ مُحقق ٍ. ودربُ الموتِ مُشرعٌ لي "
سادساً ـ سنواتُ الغليان في الفترة الفريولية ، تلك ، والتي أعقبت الحرب ، إقترب شاعرنا فكرياً أكثر فأكثر ، من معسكر اليسار ؛ المعسكر الذي أفاءَ تحت خيمته الحمراء نخبة َ أهل الثقافة الإيطالية ، من أدباء وفنانين وصحفيين . بفراسة ذهنه وعمق معرفته لواقع بلده ، أدرك بازوليني الشاب أنّ الخلاص من رواسب النظام السابق ، الإيديولوجية ، ومخلفات عقليته الفاشية إجتماعياً وسياسياً وثقافياً ، لايمكن ضمانه بدون فضح ركائزه الطبقية . صارت مقالاته تنحو بقوّة في هذا الإتجاه ، فيكتب في إحداها : " إن مقتي للبرجوازية مسألة لاتحتاج إلى إثبات أو مناقشة ، إنها مسألة محسومة " . ويستطرد في مكان آخر : " ليس مهماً بالنسبة لي أن أكون من ذوي الحظوة في هذه المدينة " اوديني " ، المحظوظة ، أو من بقية " فريولي " ؛ ولا أهتم حتى بنيل الإعتراف من نخبتهما الراقية ، البرجوازية " . لا ريب أن كون شاعرنا شقيقاً لأحد شهداء الحزب الشيوعي ، الأنصار ، قد عزز لديهم شعور الثقة به . ومن ناحيته ، قيّم بازوليني نضال الحزب ضد الفاشية وتضحياته ، والدور الذي اضطلع به بعيد الحرب للدفاع عن مصالح الفقراء ، علاوة على إيجابيته فيما يتعلق بالثقافات الإقليمية ، المهمشة ، في إيطالية . وبهذا الشأن ، كتب في إحدى مقالاته : " فيما يتعلق بما نسميه " فرادة فريولية " ، كان الحزب الشيوعي هو المتوقع منه تحويل البدائية إلى تاريخ ، والطبيعية إلى معرفة " . ويضيف أيضاً في مقاله ، بأن : " هذا الحزب لديه " ميكانيزم " نحتاجه لتسييس الثقافة ، أو لخدمة الثقافة عبر السياسة " . وكذلك الأمر بالنسبة لإعجابه بصمود الدولة السوفياتية أمام الجحافل الهتلرية ، حتى أمكن تحقيق النصر : ما كان ليخطر ببال أحد ، في تلك الأعوام الحماسية التي أسكرت العقول المثقفة ، حجم الجرائم التي إرتكبها النظام الستاليني بحق الشعوب السوفياتية ؛ وبشكل أحدّ ، ثقافاتها وآدابها ؛ الجرائم الفظيعة التي سيكشفها بعد عقد كامل ، الرفاق الروس أنفسهم . هكذا تمكن بيير باولو من فرض إسمه ككاتب ، سواء بشعره أو بمقالاته الصحفية ، وأضحى الآن صديقاً حميماً للحلقة الضيقة ، المتنوّرة ، في " اوديني " ، عاصمة الإقليم ، والتي ضمّت رفاق الفكر والكلمة والريشة . ولم يكن الشاعر الشاب ، إبنُ الريف ، المتجذر ، ليسعى عبْر صحبته للنخبة المدينية ، إلى إستحواذ إعجابهم وتقديرهم ، بقدر ما هدفَ لتأطير جهوده معهم خدمة ً لثقافة الإقليم الخاصة ، المميزة . فالعهد الفاشيّ ، الطويل ، وكما سبق الإشارة إليه ، تعمّد التعتيم على خصوصية الثقافات الاخرى ، بفرضه لغة وآداب الإيطالية الكلاسيكية على المجتمع ؛ وفي مجال التعليم بشكل أكثر صرامة . ولقد نظرتْ تلك النخبة المثقفة في المدينة ، بعين الإكبار لإصرار الشاعر الفريوليّ على الكتابة بلغته الخاصة ودأبه على تطوير آدابها ، والتفرغ لإستنباط الحلول الكفيلة بالمحافظة على تراث إقليمه وفلكلوره وإثنوغرافيته . خارج منطقته ، إمتدت صداقات بيير باولو مع أدباء الوطن ، سواء من خلال المراسلة أو الكتابة للمجلات المدارة من قبلهم . وقد سنحت له الفرصة لإرتياض روما ، عاصمة الفكر والفن ، والتعرف إلى أحد أحبّ الكتّاب إليه ، كونتيني ؛ والذي من جهته ، سيجيب دعوته لاحقاً ويزور بلدته كسارا . خلال زيارته الثانية للعاصمة ، وقعَ ما كان يحاذره بيير باولو : يطلع والده ، مصادفة ربما ، على " المفكرة الحمراء " ، ويعلم منها ما كان يجهله هو ، ويعرف به كثيرون داخل العائلة ومحيطها : مسألة المثلية عند الإبن البكر ، وتفاصيل من مغامراته بهذا الميدان . ما من ريب أنّ من كان يدعوه بيير باولو ب " الجنرال " ، على سبيل التفكه ، قد صُدمت مشاعره الأبوية بعنف ، لمعرفته هذه الحقيقة المرّة بالنسبة لعسكريّ صارم ، متربّ على الإيمان الكاثوليكيّ العميق والمطعّم بمفاهيم فاشيّة . بيْد أنّ شاعرنا لم يكترث كثيراً بالموضوع ، تاركاً سجيته على عوائدها ومألوفاتها ، مؤمناً بحريته الشخصية وكارهاً لتقييدها ؛ هو الرافض لمبدأ الإدانة والحُرم والتوبة والندم ، المسيحيّ . ولدينا شهادة إحدى صديقاته ، سيلفيا ، ممن سبق وقضت فترة من الوقت بصحبته في البلدة الريفية : " مثليته الجنسية كانت ما تزال ، إلى هذا الحد أو ذاك ، لعبة أطفال أكثر منها جدية . حاولت مراراً ، مازحة ً ، إقتناص دفتر يومياته الأحمر ، وما كان ليتكدّر . على أنني كنت أرقبه وهو ينظر ، بقلق خفيّ ، إلى الأطراف القوية المتأرجحة لأولاد الذوات الأنيقين ، المارين بقربنا . كنا فيما بيننا ندعوهم ب " الأشجار الفتية " ، ونقارن بين وجوههم المتوردة المتعافية ، وبين وجوه أبناء فقراء القرية ، المسودة من شحوب الجوع " . وإلى هذه الصديقة بالذات ، سيكتب بيير باولو رسالته الأخيرة من كاسارا ، شارحاً لها الأسباب التي تدفعه للتفكير بترك الريف الفريولي ، الذي عشقه ، والإنتقال مجدداً إلى المدينة الكبيرة : " منذ رسالتي الأخيرة ووضعي يسوء بشكل مأساوي ، وخاصة في هذا الشهر تحديداً . والدي ، الذي أصيب كالعادة بإحدى أزماته العصبية ، نتيجة لخبث طبعه أوجنونه ، لا أدري . ما أعلمه أنه للمرة الخمسين يتهددني وأمي أن يهجرنا ، وأنه قام بإجراءات لبيع أثاث المنزل . لا يمكنك أن تتصوري مقدار ألم الأم وتأثرها بحالته تلك ، ومن جهتي لا يمكنني أن أبقى متفرجاً وعاجزاً ، دون أن أفعل شيئاً إزاء وضعها اللا إنساني وغير الممكن وصفه . لقد قررت أن أصحبها معي _ ربما غداً صباحاً _ إلى روما " .
سابعاً ـ عقدان من الإبداع في صيف العام 1950 ، وبعد صرفه النظر مؤقتاً عن خطته للرحيل من البلدة ، إعتقل بازوليني من قبل البوليس بتهمة التحرش بثلاثة صبية مراهقين . ورغم أنهم أخلوا سبيله ، وبرأته المحكمة فيما بعد ، إلا أن هذه الواقعة كشفت للملأ " ناصيته الخاطئة " ؛ مما خلق ردّ فعل عنيف تجاهه ، سواء بسواء عند الأهلين أو النخبة المثقفة . وإلى هذه الفترة أيضاً ، يعزى تركه صفوف الحزب الشيوعي ، الذي ما كان أبداً على وفاق تام مع آرائه ومواقفه . على أن ّ تلك القضية / الفضيحة بعرف زمنها ، أدتْ إلى إنهيار أسرته ؛ أو على الأقل ، إنشقاقها عن " جنرالها " . فبعد مشاحنات متوالية ، قررت الأم التخلي عن رجلها ومرافقة إبنها الوحيد ، سراً ، إلى مأوىً جديدٍ ؛ رحيل آخر ، وإلى روما هذه المرة . سنوات الخمسينات ، العاصفة في دم شاعرنا الناضج ، المتأجج ، الذي يغتلي فيه الإبداعُ ؛ سنواتٌ أثمرتْ شجرته في أوان كل ربيع فيها عن مجموعة شعرية أو رواية أو نص انتولوجيّ أو سيناريو سينمائيّ . على أنّ بازوليني المتجهم ، المتبرّم دوماً بالحياة ، لا يرضيه كل هذه الإنجازات وعمله الإبداعيّ المكثف ، المدهش في غزارته وتنوّعه . ها هو يصف حالته في روما بعد سنوات عديدة من إستقراره فيها :
" في روما الخمسينات وحتى اليوم ؛ آب 1966 لم أفعل شيئاً مجدياً ، أكثر من المعاناة والعمل المرهق . إثر عام واحد من البطالة ، تجدني معلماً في مدرسة خاصة والحياة كانت تبدو في منتهاها اليائس ؛ من أجل راتب شهري لا يعادل أكثر من سبعة وعشرين دولاراً . مع الوقت ينتقل الوالد إلينا ، منضماً إلى بؤسنا ولا تدعونا نذكر أبداً ، قصة هروبنا منه أنا وأمي . هكذا الحال دوماً ، كان ترحالٌ في جزئين في منزل بلا سقف ، بلا نافذة أو كوّة حتى ؛ منزل الفقراء في الضاحية القصيّة من المدينة ، حذاء السجن فرنٌ لاهب في الصيف ، وخلال الشتاء مستنقعٌ : بيْد أنها إيطالية .. إيطالية العارية والمتضخمة بصبيتها ونسائها ، بياسمينها وحسائها البائت "
منزلٌ متداع ٍ ، إذاً ، وفي أبعد مكان من ضواحي روما ، يمكن أن تصل إليه الحافلة . الأسرة الصغيرة ، المتوحّدة ، تعاودُ لمّ شملها إثر إهتداء الأب لعنوانها الضائع ؛ الأبُ المكسور الخاطر ، ومن ظلّ يصرّ أمام رعيته بأنه لم يغادر كسارا فراراً من فضيحة إبنه ؛ كسارا ، بلدته التي لن يراها ثانية في حياته . ضابطٌ معتدّ بمجده الحربيّ ونياشينه ؛ أمّ معروفة كانت بأناقتها وزينتها ؛ وإبنٌ موهوبٌ لا يفارق إسمه صفحات الجرائد ، أدبية كانت أم سياسية : جميعاً هنا ، تحت سقفٍ فقير ؛ لا يعانون من عوَزٍ على أيّ حال ، بل من إفتقادهم لرابط حميم سبق له أن جمعَ عاطفتهم العائلية ؛ وإن كان لفترة قصيرة ، أشبه بالحلم . بيير باولو ، البارد تجاه والده ، والأكثر إهتماماً بالأمّ ، ما كان لديه ، في واقع الحال ، الوقت للتفكير بوضع العائلة ؛ ما كان بطبعه مضياعاً لوقته الثمين ، وكأنما شعورٌ خفيّ أوحى لشيطان حياته بالمهلكة الوشيكة ، المقدّرة أن تخترمه وهو في عزّ العطاء . عام 1954 ، كان دافقاً بالإبداع " البازوليني " ؛ بإصدارات مميزة على صعيد الشعر والرواية والدراسة واللغة . وكانت إحدى رواياته المعنونة ب " الباطون المسوّر " ، قد نالت حظها من الإهتمام العام ، وقيّمها النقاد كفتح ٍ جديد في أسلوب الكتابة السردية ؛ الأسلوب الذي تبناه أو تأثر به ، لاحقاً ، العديد من الكتاب المبرزين في إيطالية . شهد ذلك العام أيضاً تجربة بازوليني الاولى في الكتابة للسينما : فرغم عشقه للفنّ السابع والمتجلي بإقباله ، مذ كان طفلاً ، على صالات العرض ؛ هو المولود في بولونا ، المدينة الكبيرة ، والتي إستقبلته ثانية في فتوّته طالباً _ رغم ذلك ، كان بيير باولو ، في ربيع ذلك العام ، خليّ البال تماماً من أيّ فكرة يمكن أن تراوده بخصوص العمل في ذلك الميدان الأثير ، الغامض . جَرَت الأمور بمحض الإتفاق ، حينما إحتاج سيناريست يُعدّ نصاً لفيلم حربيّ من إنتاج كارلو بونتي ، لكاتب خبير باللهجات المحلية ؛ فأرشده أصدقاء مشتركون إلى شاعرنا ، الذي جُرّت قدمه إلى دروب ما عهدها من قبل : الإستديو ومواقع العمل في الهواء الطلق أو تحت الأسقف الديكورية ؛ أضواء الكاميرات العجيبة والأجهزة الأغرب وجيش العاملين المدجج بمختلف الوسائل الإلكترونية والكهربائية ؛ وأيضاً وخصوصاً ، وجودُ مشاهير الممثلين ، الضجرين ، وغير المبالين سوى بإنهاء أدوارهم والهرب من ثمّ من ضوضاء المخرج والمنتج والسيناريست وطاقم التصوير . حينما حضر بيير باولو للمكان ، متأبطاً حقيبته المترتب فيها أوراق السيناريو ، كان هناك أشخاص يعرفهم من أسمائهم حسب ؛ بونتي ، المنتج الأشهر ، والمخرج ماريو سولداتي ، والممثلة جينا لولو بريجيدا ، فضلاً عن ممثلة اخرى تنافسها البطولة ، هي صوفيا لورين ؛ في أول أدوارها ومن سيختارها المخرج بونتي ، فيما بعد ، شريكة لحياته . بعد عامين من تجربته في مجال الكتابة للسينما ، يرغبُ المخرج العظيم فريديريكو فيلليني رؤيته ، ليتفقا بعد لقائهما الأول على العمل المشترك في فيلم جديد . كان فيليني بالأساس رسام كاريكاتور وصحفي ، ثم تحوّل للإخراج ؛ مثله في ذلك مثل بازوليني الكاتب والصحفي ، الذي أضمَرَ موهبته طويلاً في ميدان آخر . كل منهما إكتشف ، متأخراً نوعاً ، دربه الحقيقيّ ومضى فيه بطاقة عبقرية خلاقة ؛ فلا غرو أن يضاهيا أهم المخرجين المحترفين في القرن المنصرم . وإذاً ، من السيناريو إلى الإخراج ، في أفلام متميزة غلبت عليها الأجواء التاريخية ؛ كما هو حال إبداعه جميعاً : كان بازوليني ، أيضاً وأيضاً ، رساماً وموسيقياً ، والعديد من مآثره السينمائية حفلتْ بلوحاته كخلفية للمَشاهد ، علاوة على وضعه بنفسه لألحانها ؛ كما في الموسيقا المدهشة ، الإسطورية والسرانية ، لفيلمه الشهير " اوديب ملكاً " ( 1967 ) ، و توأمه الملحميّ ، فيلم " ميديا " ( 1969 ) ؛ وهذا الأخير قامت ببطولته المغنية الاوبرالية ماريا كالاس ، وصُورت أحداثه الرئيسة في قلعة حلب ؛ القلعة الأيوبية المنيفة التي إهتدى إليها بازوليني خلال رحلة له برفقة صديقه الروائي مورافيا .
ثامناً ـ أعوامُ الختام بعد إنقضاء حوالي العقديْن من واقعة فصل بازوليني من عضوية الحزب الشيوعيّ ، هاهو في العام 1968 يجد نفسه بمواجهة جديدة ، أكثر ضراوة ، مع رفاق الأمس . فما عُرف بـ " ربيع براغ " ، تزامن مع إنتفاضة الطلبة ، العارمة ، التي هزت بلدان اوربا الغربية ، وأشعلت نيرانها حرائق في الفكر والسياسة والإجتماع ، وحتى العقيدة الدينية . ففيما أيّد شاعرنا تلك الحركة الشبابية وهلل لتمردها على قيم الغرب الرأسماليّ ، فإنّ موقف الحزب الشيوعيّ كان رافضاً لها حدّ الإدانة ؛ ما ألهب وطيس جدل مستعرّ بين كلا الفريقين المتخاصميْن ، حيث إتهم بازوليني الشيوعيين بالجمود الفكري وردّ هؤلاء عليه بنعته ، معاً ، كطفولي ومزاجي وفوضوي ! في واقع الحال ، أن كتابات شاعرنا الأدبية وأفلامه السينمائية ، هي التي كانت قابعة في عتمة ذلك النعت " الجدانوفيّ " ، وعلى الرغم من إدانة الشيوعيين الإيطاليين للستالينية ، وموقفهم السلبيّ من إجتياح القوات السوفياتية لتشيكوسلوفاكيا ، لوأد ربيعها . إن هذين الحدثيْن ، على أهميتهما ، أوقظا الفارط من أمر الخلاف النظريّ ، الجذريّ ، المستحكم بين بازوليني وبين رجالات الفن والأدب ، من الشيوعيين الملتزمين ، فيما يخص شؤون الثقافة والمعرفة . فهؤلاء الأخيرون ، كانوا ما فتئوا على نظرية أسلافهم العقائديين ، الستالينيين ، بالتطلع على الأعمال الإبداعية عبرَ خرم إبرة الواقعية الإشتراكية ؛ النظرية الواقعية التي رأى بازوليني ، مستخفاً ، " عدم واقعيتها! " ، مبيناً كذلك في مقالاته ومحاضراته وأحاديثه الأثيرية ، مدى تهافتها وتحجرها وتغربها عن التطور الثوريّ الحاصل في المجالات الإبداعية كافة . وبالمقابل ، بشر شاعرنا بالواقعية الجديدة ووفاها حقها بكونها إسلوباً وليست نظرية أو مدرسة ، معرّفاً إياها كإنسجام بين الواقع المرئي والخيال الفانطازي ، دون أن يغفل تقييمه الإيجابيّ للسوريالية والواقعية السحرية وغيرها من الأساليب الفنية . على أبواب العقد الخامس من عمره ، كان بازوليني في أوج عمله الإبداعيّ ، متفجّر الطاقات كما لو أنه ما زال في أول عهده مع الكلمة ؛ هو الذي ضمّت مكتبته ، آنئذ ، دزينة من المجموعات الشعرية وروايات أربع وعشرات الأفلام وغيرها من ثمرات عبقريته ؛ فضلاً عن نشاطه الإجتماعيّ والسياسيّ ، سواء كمحاضر أو محاور . وعلى تفاوت الآراء فيه ، إلا أنها أجمعت كلها تقريباً على الإعتراف بأصالته ونقائه ، بغض الطرْف عما كان يشيعه عنه من أقاويل وهراء ، أولئك الرجعيين ، المنتمين إلى السلك البابوي ، أو المجموعات المنبوذة من الفاشيين الجدد . كانت الصحف الصفراء دائبة في إصرارها على الخوض في خصوصيات الشاعر الحياتية ، مشيعة ً عنه ما أسموه " إصطياده " للمراهقين المحتاجين والمشردين ، في خروجه الليليّ ، اليوميّ ، راكباً سيارته الصغيرة وخائضاً بها دروب الأحياء الفقيرة ، الواقعة على هامش العاصمة روما . وبلغ التحريض أوجه مع عرض فيلمه " أيامُ سدوم المائة والعشرون " ؛ الفيلم الذي شاء مقدور الشاعر ، الظالم ، أن يكون آخر أعماله الإبداعية . لم تكن المشاهد المتناهية في القسوة ، فعلاً ، هي التي خدشت المشاعر الرهيفة لكتبة الصحف تلك ، الصفر . فتناهضوا محرضين القراء من خلال تركيزهم على مسألة الذوق والأخلاق وحرمة الدين ، بغية تأليب الجمهور على فنانه الأكثر شعبية في إيطالية الستينات والسبعينات : فما أثارهم في ذلك الفيلم ، حقيقة ، هو تعريف بازوليني للفاشية بدلالات مشاهد غاية في الوحشية والسادية ، تصوّر أربعة معتقلين سياسيين في قبضة رجال موسوليني ، عشية إنتهاء الحرب العالمية الثانية . في بلدته كاسارا ، جارَة جبل " الألب " الشامخ ، يرقد بيير باولو بازوليني بجانب أمه ، التي لم يمحض أحداً ، غيرها ، قلبَهُ الكبير ؛ قلب الشاعر ، وآثرَ العيش معها حياً وميتاً . في تلك المقبرة العائلية ، المظللة دوماً بالعرائش وبفوح الياسمين ، يتجاور أيضاً قبرا الأب والشقيق الشهيد . لم يبقَ من الأسرة كلها ، فردٌ واحد ليضع زهوراً على الأرماس المتوحّدة . ومن سلالة القديسة جوانا ، حامية فريولي ، ما فتيء العِرْق النابض بدم حماة إيطالية ، يعلنُ السلام والراحة والطمأنينة للراقدين أبداً تحت التراب . في قصيدة مبكرة ، مهداة إلى الأم الشجاعة ، سوسانا ، يُنشد شاعرنا بصوته الداوي ، النقيّ كإبداعه :
" من الصعوبة في حالتي ، أن أتحدث إليكِ مثل ذلك الإبن الموجود شبيهه ، بدرجة أقل ، في قلبي . أنتِ الوحيدة في العالم ، التي ترَينَ ما هو دوماً موجودٌ ثمة ، في قلبي ، قبل أيّ حبّ آخر . لذلك عليّ البوح لك ، بتلك الفظاعة التي لابد معرفتها : إنه في رحم عفوك ، ندَمي المولودُ . أنتِ غير قابلة للتعويض . ولذلك الحياة التي منحتها لي محكومة بالوحدة . ولكنني لا أرغب بالعيش متوحّداً . جوعي للعشق بلا حدود ، عشقي للأجساد بدون روح . ذلك أنّ روحي فيك ، وهو أنتِ ، ولكنك أمي أنت وحبك عبودية لي : عبَرتُ خلل الطفولة مثل رقيق ٍ تحت ذلك السمو، غير الشافي ، شعور أن ذلك مهمة غاية في الصعوبة . ذلك كان البوح الوحيد لحسّ الحياة ، اللون الوحيد ، الشكل الوحيد : والآن كل شيء إنتهى . هبينا ننجو : إنه من المجدي في حياةٍ تُبعثُ بعيداً عن الطمع . أنا أركعُ لك ، اوه ، أنا أرجوك : لا تموتي بعيداً عني . أنا هنا ، وحيدٌ ، معك ، في ربيع ٍ آتٍ "
بيبلوغرافية :
1 _ Barth David Schwartz , Pasolini requiem ( en biografi ) , Stockholm 1994 2 _ Lars Gustaf Andersson , Änglarnas barn ( om Pasolnis filmer ) , Lund 1992 3 _ Gunnar Bergdahl , Pasolini lever! ( en antologi ) , Göteborg 1996 4 _ Pier Paolo Pasolini , Gramscis aska , svensk tolkning av A Lundgren , Stockholm 1975 5 _ P P Pasolini , Jordiska Rader , svensk tolkning av C H Svenstedt, Bromma 1988 6 _ P P Pasolini , Skrifter i fel tid , svensk tolkning av I Beck , Stockholm 1993 7 _ Rune Waldekranz , Filmens historia ( del III ) , Stockholm 1998
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطاغية والطفولة
-
أفلامُ عطلةِ الأعياد ، المفضّلة
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية / 2
-
شيطانُ بازوليني 1 / 2
-
نفوق الوحش ونفاق الإنسان
-
نوتوريوس : هيتشكوك وتأسيس الأدب السينمائي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 3
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 2
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية
-
النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟
-
الهولوكوست اليهودي والهلوَسة الإسلاموية
-
سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
-
نادية : نهاية زمن الرومانسية
-
العتبات الممنوعة
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|