الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 07:01
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
اتذكر جيدا تلك الظهيرة الدافئة من ظهيرات الربيع حين استقبلنا الأستاذ محمد مباركي في بيته، نحن ثلّة من الأساتذة، بدعوة كريمة منه إلى مائدة غداء بطعم الكرم والود. لكن ما سيبقى عالقًا في ذاكرتي ليس الأكل، بل تلك الهيبة اللطيفة التي تحيط بالرجل. تواضعه لا يُدرّس، يُعاش. تلامذته عند نهاية الحصة يقبّلون رأسه، لا طاعةً فقط، بل حبًا وامتنانًا. طريقته في الشرح ليست تلقينًا، بل عرضٌ مسرحيّ يشخص فيه التاريخ، يخطو نحو مكتبه ببطء محسوب، يلتفت كمن يلقي بيانًا ثوريًا، ثم يقلّد ستالين كأننا في الكرملين، لا في قسم بإحدى الثانويات المغربية. لا أبالغ حين أقول إن كل حصة له كانت عرضًا مسرحيًا يعيد فيه للحرفة التعليمية مجدها القديم. وكلما تذكرت كلمته الموجهة لي: "هاذ الشهبي واحد النمرة منو ماكين"، بلهجته الشرقية المميزة، ابتسمت. ليس فقط لأنها شهادة من رجل نادر، ولكن لأنها حملت نبوءة لقاء آخر، لكن هذه المرة، من خلال روايته: رائحة التراب المبلل.
لم يكن محمد مباركي في روايته أقل براعة مما هو عليه في فصله الدراسي. بل يمكن القول إن هذا العمل يشبهه تمامًا: هادئ في سرده، حاد في تشريحه، رصين في لغته، وفيًا للتفاصيل الصغيرة التي تُبنى منها حيوات بأكملها. رواية رائحة التراب المبلل ليست فقط سيرة "عسو/سعد"، بل هي سيرة بلد، وسيرة قرية، وسيرة آلام مضمرة في تربة هذا الوطن. رواية تضع إصبعها على الجرح، دون صراخ، وتلتقط هشاشة الإنسان المغربي في أطراف الهامش، حيث "العار" أقوى من القانون، و"البركة" أرسخ من المؤسسات.
من هنا، تبدأ قراءتي النقدية والتحليلية لهذا النص، الذي لا يكتفي بأن يُحكى، بل يُحسّ، ويُشمّ كما يُشمّ التراب حين تبلله أول قطرة مطر...
في قرية مغربية بعيدة، حيث يعانق المطر الطين في صمت، وتنسج الرياح أصداء الأساطير القديمة، تبدأ رواية ـ رائحة التراب المبلل ـ لمحمد مباركي، لتغمرنا برحلة تخترق حدود الواقع وتغوص في أعماق النفس البشرية. هنا، في هذا الفضاء الريفي الذي يحتضن الفقر والتقاليد كما يحتضن الأرض بذورها، يقدم مباركي حكاية "عسو"، الشاب الذي يحمل على كتفيه وصمة ولادته غير الشرعية، تلك اللعنة التي تحكم عليه بالنبذ منذ أن فتح عينيه على العالم. لكن هذه الرواية ليست مجرد سرد لمصير فرد، بل هي مرآة تعكس تناقضات مجتمع بأسره، ولوحة فنية تتداخل فيها الألوان الاجتماعية والنفسية والتاريخية، لتخلق عالمًا ينبض بالحياة والألم.
"عسو"، بطل الرواية، ليس مجرد شخصية روائية، بل هو رمز للإنسان المحاصر بقيود المجتمع والماضي. منذ طفولته، يعيش تحت ظل الحكم الاجتماعي القاسي الذي يرفضه لخطيئة لم يرتكبها، فتصبح هويته مشوهة بوصمة "ابن الزنا". هذا الرفض ليس مجرد نبذ اجتماعي، بل هو إعدام رمزي لكرامته، يجبره على العيش في هامش الحياة، كظل يتحرك بين الأحياء دون أن ينتمي إليهم. عندما يقرر الفرار من قريته، يحمل معه أملًا هشًا بأن تغيير المكان سيمنحه فرصة لبداية جديدة. لكنه، حين يصل إلى قرية أخرى، يكتشف أن الماضي ليس مجرد ذكرى، بل هو شبح يلتصق بالروح، يتبعه كالرائحة التي لا تفارق التراب المبلل بعد المطر. هنا، يطرح مباركي سؤالًا وجوديًا عميقًا: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من أغلال تاريخه؟ هل يكفي تغيير الجغرافيا لإعادة صياغة الهوية؟
الرواية لا تكتفي برسم مأساة "عسو"، بل تمتد لتصور مجتمعًا يعيش في ظل موروث ثقيل من العادات والخرافات. في الريف المغربي الذي يصوره مباركي، يتشابك الفقر مع التشبث بالتقاليد، ليخلق واقعًا يعتمد فيه الناس على الفقهاء والأولياء الصالحين كملاذ أخير من أقدار مجهولة. هذه الصورة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي بطل آخر في الرواية، فالمجتمع هنا ليس خاملًا، بل هو كائن حي يتنفس، يحكم، ويعاقب. يبرز مباركي هذا الواقع من خلال تفاصيل دقيقة: أصوات الأذان التي تمتزج بأناشيد الطقوس، رائحة البخور التي تملأ البيوت، ونظرات الجيران التي تحمل أحكامًا صامتة. لكن وراء هذه التفاصيل، ثمة توتر خفي، وهم جماعي بالهروب—ليس من القرية أو الفقر فحسب، بل من الهزائم اليومية الصغيرة التي تتراكم كالغبار على القلوب.
ما يميز الرواية هو نقدها الحاد للتناقضات الاجتماعية والثقافية. مباركي لا يكتفي بتصوير المجتمع المحلي، بل يوسع دائرة النقد لتشمل الاستعمار وتداعياته. في شخصية "موريس"، المستعمر الفرنسي، نرى تجسيدًا لهذا التناقض. موريس يسخر من الخرافات المحلية في العلن، لكنه في السر يدعمها، بل ويستفيد منها لتعزيز سلطته. هذه الازدواجية ليست مجرد سمة شخصية، بل هي رمز للاستعمار نفسه، الذي يدعي التنوير بينما يغذي الجهل لضمان استمرار هيمنته. من خلال موريس، يطرح مباركي تساؤلًا جريئًا: هل العدو الخارجي مختلف حقًا عن العدو الداخلي؟ وهل الاستعمار الخارجي إلا امتداد لاستعمار داخلي يمارسه المجتمع على نفسه؟ هذه الأسئلة لا تجد إجابات نهائية، بل تظل معلقة، تدعو القارئ إلى التفكير والتأمل.
براعة مباركي تتجلى أيضًا في طريقة تعامله مع البنية السردية. الرواية ليست مجرد تسلسل زمني للأحداث، بل هي نسيج معقد من التحولات المكانية والنفسية. انتقال "عسو" من قرية إلى أخرى ليس مجرد حركة جسدية، بل هو رحلة داخلية تعكس صراعه مع ذاته. كل مكان يزوره يحمل دلالات رمزية: القرية الأولى تمثل الماضي الذي يرفضه، والقرية الثانية تمثل الأمل الذي يسعى إليه، لكن كلا المكانين يشتركان في شيء واحد: هما سجنان للروح. مباركي يستخدم الجغرافيا كأداة لاستكشاف التحولات النفسية، فكل خطوة يخطوها "عسو" هي انعكاس لتغير في وعيه، في إدراكه لنفسه وللعالم. هذا التلاعب بالمكان والزمان يضفي على الرواية عمقًا فلسفيًا، يجعلها أقرب إلى تأمل وجودي منها إلى سرد تقليدي.
وفي قلب هذه الرحلة، تأتي شخصية "سعدية"، الزوجة التي تمثل لـ"عسو" شعاع الأمل الوحيد في عالم مظلم. سعدية ليست مجرد شخصية ثانوية، بل هي رمز للخلاص المؤقت، للحب الذي يمنح الحياة معنى وسط اليأس. لكن، كما هي طبيعة الأمل في عالم مباركي، فإن سعدية لا تدوم. موتها ليس مجرد حدث درامي، بل هو نقطة تحول حاسمة في الرواية. مع رحيلها، يبدأ "عسو" في الانزلاق نحو الجنون، نحو التيه، نحو عالم من الأسئلة التي لا إجابات لها. هذا التحول ليس نهاية، بل بداية جديدة، بداية لرحلة أعمق في النفس، حيث يواجه "عسو" أسوأ مخاوفه: الحقيقة التي لا مفر منها، وهي أن الإنسان لا يستطيع الهروب من ذاته.
رمزية "التراب المبلل" تتخلل الرواية كخيط ذهبي يربط بين عناصرها. التراب، كرمز للأرض والجذور، يصبح أيضًا رمزًا للذاكرة، للماضي الذي يتشبث بالإنسان مهما حاول الفرار. رائحة التراب المبلل ليست مجرد وصف حسي، بل هي استعارة للحالة النفسية لـ"عسو"، لحياته التي تظل مشبعة بالألم والحنين والخسارة. هذه الرائحة تلاحقه، تذكره بأصله، بقريته، بكل ما حاول أن يتركه وراءه. مباركي يستخدم هذا الرمز ببراعة ليخلق شعورًا بالاستمرارية، فمهما ابتعد "عسو"، يبقى التراب جزءًا منه، كما يبقى الماضي جزءًا من كل إنسان.
ما يجعل ـ رائحة التراب المبلل ـ عملًا استثنائيًا هو قدرتها على الجمع بين النقد الاجتماعي والتأمل الفلسفي. الرواية لا تكتفي بتصوير مجتمع أو سرد قصة، بل تذهب أبعد من ذلك لتستكشف جوهر الوجود الإنساني. من خلال "عسو"، يطرح مباركي أسئلة لا تنتهي: ما معنى الحرية في عالم يحكمه الماضي؟ هل الحقيقة شيء نكتشفه أم شيء نخلقه؟ وهل الموت نهاية أم بداية لرحلة أخرى؟ هذه الأسئلة لا تجد إجابات قاطعة، بل تظل مفتوحة، تدعو القارئ إلى التفكير والتساؤل.
في كل صفحة من الرواية، يفاجئنا مباركي بطبقة جديدة من المعنى. حين نظن أننا فهمنا "عسو"، يظهر جانب جديد من شخصيته يعيد تشكيل رؤيتنا. حين نظن أننا أدركنا المجتمع الذي يعيش فيه، يكشف مباركي عن تناقض جديد يجبرنا على إعادة النظر في افتراضاتنا. هذه القدرة على إعادة صياغة الأفكار والتحدي المستمر لتوقعات القارئ تجعل الرواية تجربة فكرية وجمالية في آن واحد.
ـ رائحة التراب المبلل ـ ليست مجرد رواية عن الخرافات أو العادات، ولا هي قصة عن الريف المغربي أو الاستعمار. إنها رواية عن الإنسان، عن صراعه الأبدي مع ذاته، مع مجتمعه، مع قدره. "عسو" هو كل واحد منا، يحمل جروحه وآماله، يهرب من ماضيه لكنه يجده في كل خطوة يخطوها. والتراب المبلل، برائحته النفاذة، هو تذكير دائم بأننا، مهما ابتعدنا، نظل مرتبطين بجذورنا، بذكرياتنا، بكل ما شكلنا.
وحين طويت الصفحة الأخيرة من رائحة التراب المبلل، أحسست وكأنني أودّع قريةً عشت فيها حقبةً كاملة، مررت بأزقتها، جلست إلى ظل زيتونةٍ عجوز، وشاركت أهلها أفراحهم الصغيرة ومآسيهم الكبرى. لم تكن مجرد قراءة، بل كانت معايشة داخل شريط من التفاصيل الموجعة والمضيئة معًا، كأن التراب ذاته الذي كتب عنه مباركي قد التصق بأطراف الذاكرة، وبقيت رائحته عالقة لا تمحى.
تذكرت يوم لقائنا بذلك الرجل الذي يعرف كيف يجعل التاريخ حيًا في قاعة درس، وكيف ينسج من الألم سردًا يليق بمحنة الإنسان في الهامش. محمد مباركي، الذي يجلس بهدوئه، ويبتسم بكلماته الشرقية، أثبت في هذا العمل أن الرواية ليست فقط صنعة أدبية، بل موقف، ومسؤولية، ووفاء لذاكرة الأرض ولمن مشوا فوقها حفاة القلوب.
رواية رائحة التراب المبلل لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش. تنزل بك إلى قاع الإنسان، لترفعك نحو السؤال: كم فينا من "عسو"، وكم في الذاكرة من تراب لم يُبلّل بعد؟
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟