محمد السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 00:47
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
شـرفني الأسـتاذ محمد حسـن السـعدي بطلب كتابة مقدمة لكتابه الموسـوم: «يوتوبيـا بيـن الهويدر والجبـل والشـيوعية»، وأرجو تحمل الإطالـة والإسـهاب لما فيـه نكش لما فـي الصدور.
مقدمة لا بد منها:
تعـود علاقتـي بالفكـر الشـيوعي منـذ الخمسـينيات؛ حيـث كنت أقضـي أيـام طفولتي فـي قلعـة الهويـدر، وكان أخوالـي الأربعـة أميين يعملـون فـي ضمـان البسـاتين منتميـن للحـزب، وكان ذلـك بتأثيـر جارهـم ومسـئولهم المعلـم المرحـوم محمـد الطيـار، أمـا أعمامي في كنعـان فلـم يختلطوا بـأي جهة سياسـية، وظلـوا ملتزمين بـأداء فرائض
الديـن وبتطرف شـديد.
أمـا فتـرة المراهقـة والشـباب فقـد قضيتهـا فـي بعقوبـة، كنت ولا زلـت أرتبـط بعلاقـات صداقـة وطيدة مـع جيـران وزملاء فـي مصرف الرافديـن، وطـلاب علـوم سياسـية في جامعـة بغـداد، كانـوا كلهم من المنتميـن للحزب الشـيوعي، كانـت المـودة والاحترام المتبـادل طابع
علاقاتنا المسـتمرة.
نشـأنافـيفتـرةالسـبعينياتكجيـٍلكانـتالمبـادئوالالتـزامبها سـمته الأساسـية، ولذا كان مـن المنطقـي أن نتقارب، كن ُت قـد انتميت لتنظيـم كان ُيثقفنـا بكتـاب د. إليـاس فـرح «تطـور الفكر الماركسـي»،
9
وُيقـررهعلينـافيكليةالعلومالسياسـيةضمـنمادةالفكرالاشـتراكي، ولازالإيمانـيراسـًخابمـاكانُيلقنـهلـيمسـؤولوالحـزب:«حزبنـا يسـتلهم التـراث دون التوقـف عنـد حـدود الماضـي، وينفتـح علـى الفكـر العالمـي - وفـي مقدمتـه الفكـر الماركسـي - ليأخذ ما ينسـجم مـع نضالنـا القومي»، وهكـذا تقرر لنـا أن نقيم علاقات احتـرام متبادل،
وحـوارا ٍت هادفـ ًة ونقاشـا ٍت مثمر ًة.
كانت نقاشـاتنا في الجامعة وفي جلسـات السـمر في بعقوبة تتركز علـى فقـرات البيـان الشـيوعي لماركـس وانجلـز، وكيـف قـام حـزب البعـث بتطبيـق معظم خطواتـه (تأميم قطاعـات الائتمـان والاتصالات والنقـل والمـوارد الطبيعية، ودمج المصـارف، والتوسـع والتكامل بين الصناعـة والزراعـة، وتوفيـر التعليم الشـامل، وإلغـاء عمالـة الأطفال، وكهربـة الريـف، وإعـادة المفصوليـن السياسـيين)، والوعـد بخطوات أخـرى (وقـد توج ذلـك بقيـام الجبهة الوطنيـة، حيث كان هناك شـعور
يترسـخ واتهامـات رجعيـة بـأن البعث وجه مـن وجوه الشـيوعية).
خـلال الفتـرة مـا بيـن (1980 - 2003) انتقلـت للعمل فـي وزارة الخارجيـة،وقـدأتـاحلـيالعملفـيالخارجالتعـُّرفعلـىالكثيرمن العوائـل ذات الانتمـاء السـابق فـي الحزب الشـيوعي والتفاعـل معهم دون تحفظـات أو حساسـيات بحكـم انفتـاح شـخصيتي، ولكونهـم أي ًضـا أفـرا ًدا مثقفيـن وجديريـن بـكل احتـرام كانـوا عراقييـن خ َّلـص، ورغـم أنهـم لم يؤيـدوا النظـام إلا أنهم وقفـوا ضد التحشـيد الأميركي
لغـزو العراق.
وعندمـا عـدت إلى العـراق بعد احتلالـه وجدت معظـم أصدقائي وزملائـي السـابقين يرفضـون الارتبـاط بالحـزب الـذي اشـترك فـي
10
مجلـسبريميـر،ونأوابأنفسـهمبعيًدا،فـيحيناندفعآخـرون-وهم قلـة - للتقـرب من رمـوز الاحتـلال من أجـل الحصول علـى مناصب ومراتـب ومقاولات.
مـن الخطـأ الاعتقـاد بـأن النظـام يصنـع السياسـي الانتهـازي ليواجـه بـه السياسـي المبدئـي، أو ليشـتت المناضليـن ويفرقهـم عنـه كوسـيلة حصانـة أو حمايـة ذاتيـة لـه، وأن الانتهازيـة جزء مـن الطبيعة البشـرية. فـدور النظام يقتصر علـى الإغواء فقـط، والتزييـن والمراودة علـىالنفـس،لأنهنـاكدوًمـاقابليةنفسـيةلــ:الخيانة،والإثـراءغير المشـروع، والمناصـب العليـا، وبيـع الضميـر فـي سـوق النخاسـة السياسـية. لقد عانـت الحركـة الوطنية العراقيـة بأحزابهـا المتعددة من عـدة أمـراض أعاقتها وشـوهت ملامحهـا، وحالـت دون تبلورها، ولا تـزال تؤخر مـن تفاعلها لإنتـاج الصيغة المنشـودة للعمل المؤسسـاتي
الوطني المشـترك.
أحـد زملائـي هـؤلاء كان يعمـل فـي جهـاز المخابـرات، ولـه مواقـف متشـددة مـع أفـراد الأحـزاب المنافسـة، وصلـت إلـى حـد الاغتيـال، فوجئـت عـام 2003بجلوسـه فـي ندوة علـى الهـواء أقامتها القـوات الأمريكيـة فـي نـادي العلويـة لمجموعـة أطلقت على نفسـها «لجنـة متضـرري النظـام البعثـي». المفارقـة أنـي رأيت معـه مجموعة مـن الضبـاط والحزبييـن المعروفيـن بانتمائهـم الصميـم لتشـكيلات نظـاممـاقبـل2003،ِقْسـٌممنهـمأصبـحضمـنالنظـامالجديـدوتبوأ مواقـع جعلتـه مـن مليارديـرات العـراق، وبقينـا نحـن الذيـن يدعوننـا (أزلام النظـام) بـلا حقـوق أو رواتـب، وفـوق ذلـك وضعـوا إشـارة
حجـز الأمـوال المنقولـة وغيـر المنقولـة علـى أسـمائنا.
11
أمـا فـي ديالـى، فكثيـر مـن المعـارف تنصلـوا مـن كونهـم أعضاء فـي حـزب البعـث، اختلقـوا روايـات عـن نضـال سـري تحـت رايات أخـرى، وهـم اليـوم يتمتعـون بكامـل امتيـازات النضـال، يقـول المثل العراقـي الـدارج: «يامـن تعـب يامن شـكه، يامـن على الحاضـر لكه»، غريـب أمـر هذا التلـون في المواقـف في مجتمعنـا العراقـي المعاصر، أنتكـونمبدئًّيـاوواقعًّيـافـيهـذاالزمانأمـرصعبومحـضخيال، وإذتجـدمـنيعتـرفبأخطائـهوُيدونهـاعلـىعلاتهافذلـككلاٌمآخر وزمـاٌنمضـى،وأنتتـدرجفـيفكركمـنشـموليةالعقيـدةلتصلإلى
فضـاء الإنسـانية الرحـب فهـذا من روحانيـات زمـن الندرة.
دعونـي أقـدم لكـم مـن أسـميته الشـيوعي النبيـل السـيد «محمـد السـعدي»، ولقـب النبـل هـذا سـبق أن أطلقتـه علـى المرحوميـن: سـعدي يوسـف، ومظفـر النـواب.
كان ثمـة فـي الأحـزاب الشـمولية الحاكمـة أو المعارضـة مثقفون مبدئيـون تحكمهـم معاييـر أخلافيـة فطريـة، فلـم ينجرفـوا فـي فتنـة الانتهازيـة وغاياتهـا التي اسـتحكمت بحلقـات الثقافـة العراقية، وحين حلـت دولة الفوضـى محل الدولة الشـمولية هان عليهـم الانخراط في موجـة التحـول الأيديولوجي والطائفـي والقومي التـي خلعت إزار كل خجـٍلوتردٍد،وانغمـرتفينظاٍمجديٍديشـجعالانتهازيـةوالوصولية مـن أجل كسـب قاعـدة محليـة أفقدتها إيـاه سـنوات المنافـي الطويلة، فتغاضٍـى عـن كل الـولاءات والمخـازي الثقافيـة السـالفة لصالح ولا ٍء
وحيـد: هـو ولاء الطائفة.
مـن الإنصـاف القـول إن هـؤلاء الذيـن حافظـوا علـى مبدأيتهـم الفكريـةومـنمختلـفالِّنحـلالأيديولوجيـةالتقليديةالقديمـة-وإن
12
قـل عددهـم - قـد لاذوا بالصمـت أو الاعتـكاف، شـأنهم شـأن قلـة المسـتقلينالمهمشـينتاريخًّيـا،تعفًفـاعـنالخـوضفـيمسـتنقع الوصوليـةالـذييبـدوأنـهكانمربًحـا،بـلومربًحـابإفـراطحتـى للذيـن يفتقـدون أيـة كفـاءة أو تكويـن تعليمـي معقـول، إلا أن صاحبنا السـيد محمد السـعدي السـويدي الجنسـية والهويـدراوي الأصل ظل يتكلـمويعتـرفويفضـحانتهازيـةالقيـاداتالتـيبـاتيسـيللعاُبهـا أمـامالمناصـبوالامتيـازاتوالرواتـبوالُّرتـب،ليعكـسلنـاصورة
المناضـل كمـا يجـب أن تكـون.
بعـد أن أسـهم بدمـه وأعصابـه وفكـره بإغنـاء الثقافـة الإنسـانية هاجـر إلـى بـلاد الغربـة كواحـد مـن أعظـم وأكفـأ مناضلـي العـراق، لقـد شـرفني عدة مرات برسـائل أبـدى فيها إعجابـه بالكثير ممـا أكتبه، وكِثيـًرامـاكنـتأعتدأمامنفسـيوأمـامأصدقائـيبهذاالتشـريف،لم َيـكَّلالرجـليوًمـاولميتراجـعجهدهوعطـاؤهالفكريحتـىكأنهكان فـيسـباقمعنفسـهومـعالزمن،ورغـمأنيلـمأكنشـيوعًّياولاحتى ماركسـًّياإلاأننـيألتقـيمـعهـذاالمهاجـرالنبيـلعلـىمحبـةالعراق والإنسـان،متمنًيـاأنيبقىموجوًدابيننـاوفيكلحواراتنـاعنالوطنية ومعناهـا الحقيقـي، ويبقـى قلمه ينبـض فـي أقلامنـا، ولا زال ذكره يرد فـيمجالسـناالاجتماعيةوالثقافيـة،لأنمواقفالرجـاللا ُيقِّدرهاولا يحفظهـا ولا يجاهـر بها إلا الناس الشـجعان الصادقـون أصحاب القيم
والأخـلاق والشـرف الرفيـع الذيـن لا يخشـون فـي الحق لومـة لائم.
إنذويالأصـولالكريمـةيـزدادونرفًقـاونبـًلاكلمـاترقـوافـي سـلم الحيـاة، وتجدهـم يحرصـون علـى أن يقـوا مـن هـم أقـل تجربة منهـم أشـواك الرحلـة وغبارها. المؤسـف أن فرصـة السـيطرة والنفوذ
13
قلمـا ُتتـاح لهـؤلاء، وطالمـا كانـت الأحجـار الكريمـة نـادرة فـي هذا العالـم،لـذافهـيثمينةعاليـةالقيمـة،وليسكلسياسـييرفعشـعاًرا طموًحـاوهادًفـايكسـببـهتعاطـفالجماهيـرموسـًعابـهقاعدتـه النضاليـة-هـوسياسـيذومبـدأ،فالمبـدأليـسشـعاًراُيرفـعولابياًنا ُيتلـى،بـلهـونضالمسـتميت،وهـذامـا ُيميـزصاحبناالهويـدراوي، السياسـي المبدئي، عن السياسـي الانتهـازي الذي يرفع المبدأ كشـعار
يتكسـب منـه، ويبتـز ويسـاوم لأجـل تحقيـق طموحـات أنوية.
الخالدان سـعدي يوسـف ومظفر النواب سـجلا كلمتيهما ومشيا، كمـا فعـل محمـد السـعدي ذلـك أي ًضا؛ حيـث أشـهر وطنيتـه وأعلاها علـى كل خلافـا ِت وعذابـا ِت ومـرارا ِت الصراعـات مـع منافسـيه فـي الوطـن ومـع انتهازيـ ّي التنظيم، لـم يقبل علـى الاصطفاف مـع الغازي ولا الجلـوس فـي مجلـس حكمـه، وفـي زمـن التفاهـة، وفـي أجـواء التـر ّدي والإحبـاط والانكسـارات، تسـقط المبدئية وتنتصـر الانتهازية وتتفشـى النفعيـة. مـن المؤسـف أن التفاهـة قـد انتقلـت عدواهـا إلـى بعض المحسـوبين علـى الثقافة، مـن الذين يفترض أن يكونـوا نموذ ًجا للمبدئيـة ضـد حسـابات الربـح والخسـارة، وبـد ًلا مـن ذلـك نكسـوا رايـات المبدئيـة، ورفعـوا رايـات الانتهازية التي لا تسـتحي من شـيء،
وللتغطيـة علـى ذلك ر َّوجـوا لخطاباتهـم التافهـة باسـم (الواقعية).
سـلاًماعلىالبشـرالحقيقييـنالذينيخبرونـاأنثمةضـوًءاخافًتا فـيعتمـةالحيـاة،ويجعلوننـانحلـمأنهـذاالضـوءسـيصبحيوًمـا سـاطًعا،وتصبـحالأرضمكاًنـاصالًحـاللحيـاة.
صباح حزمي الزهيري
#محمد_السعدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟