أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)















المزيد.....


الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 13:26
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


على مدى عقود، تقاذف العراقيون أمواج الضغوط: حروب، وانقلابات، واستبداد أحكم قبضته على الأرواح. في خضم ذلك، تبدلت القيم والأعراف، واهتزت التقاليد، وتغيّرت الطباع تحت الضربات المتواصلة والأوجاع، حتى تزيّف ـ بل وتعفّن خزين الوعي، فأنتج ظواهر اجتماعية ألقت بظلالها الثقيلة على النفوس. في كل واحدة منها إجابة خفية عن أسئلة حائرة: ماذا يجري في العراق؟ من بينها: الغلونة.
الغلونة
الغلو، المغالاة، والغلواء بفتح الغين وضمّها، أضيفت له (نة) لتوكيد الانتشار كظاهرة صيغة تحاكي "الشيطنة" و"العولمة"، للتعبير عن ظاهرة سلوكية واجتماعية تقوم على المبالغة الشديدة والتضخيم في المواقف والانفعالات. تشير إلى نهجٍ يتجلى في الإفراط اللاواعي في تأييد الأفكار أو رفضها، وفي حب الأشياء أو كرهها، وفي دعم الأشخاص والمواقف أو معارضتها، إلى حدّ يُقصي الاعتدال ويقصّر عن التوازن، وفي حالتها يتسم السلوك بالتشدد والانحياز الأقصى، دون فسحة للنقد أو التريث أو البحث عن حلول وسط. لا يكون الفرد أو الجماعة بمجرد "مع" أو "ضد"، بل تمامًا مع أو بشدة ضد، على نحوٍ يتجاوز المعقول إلى حدود الانفعال المطلق.
المغالاة، الإفراط، التطرف.
في اللغة والسلوك والفكر، تتكرر ثلاث كلمات تصف نزوع الإنسان إلى تجاوز الحدود في السلوك والتفكير والانفعال هي: المغالاة، والإفراط، والتطرّف.
المغالاة تعني المبالغة في القول أو الفعل أو الشعور، حيث يُحمَّل الشيء أكثر مما يحتمل، وتُضخَّم القيم أو الأشخاص أو المواقف خارج نطاق المعقول.
الإفراط يشير إلى تجاوز الحد المقبول في السلوك، سواء في العاطفة أو الاستهلاك أو الحكم، وغالبًا ما يكون مدفوعًا بردّ فعل غير مدروس أو انفعال متهور.
أما التطرّف، فيحمل حمولة أيديولوجية وسياسية أحيانًا، ويُفهم غالبًا بوصفه انحيازًا قاطعًا لطرف واحد، مع رفض تام للطرف الآخر، دون فسحة للحياد أو التوازن.
ورغم الفروق السياقية بين هذه المفاهيم، فإنها تتلاقى عند جوهرٍ واحد يتمثل في انعدام الاعتدال والانزلاق نحو الحد الأقصى في التفكير أو السلوك أو الانفعال. ومن هذا التلاقي، تنبثق الغلونة كمفهوم جامع لهذه الحالات، لا بوصفها مجرد حالة لغوية، بل كظاهرة سلوكية واجتماعية مركبة، تتجلى في القول والفعل والتفكير، والتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية العراقية كما في الخطاب السياسي والديني والاجتماعي حتى باتت تضم مغالاة المتدين، وتطرف السياسي، وإفراط العاشق، وجنون المعجب، وتعصب الناقد… جميعها تمضي في مسارٍ واحد قوامه: التهويل، والانحياز الحاد، وفقدان الاتزان.
مظاهر الغلونة في الواقع اليومي العراقي
1. في حياتنا اليومية، في شوارعنا المزدحمة أو في جلساتنا الخاصة، في أطراف الريف أو قلب المدينة، نصادف نماذج سلوكية تغلب عليها المغالاة سلوكًا وفكرًا:
. سائق يطلق زمور سيارته (الهورن) بلا توقف لمجرد تأخر السيارة التي أمامه، وآخر – إذا كان مسؤولًا أو ابن مسؤول – يترجّل مشهرًا سلاحه في وجه السائق، ملوّحًا بإطلاق النار، كنوع من الردّ المغالى فيه، خاصة إن شعر بالاستخفاف أو التحدي.
. صاحب مركبة ثلاثية العجلات (تُكتُك) يشق طريقه بعشوائية، يسير عكس الاتجاه، يشتم من لا يفسح له المجال، ثم يفر مسرعًا، مخلّفًا موجة من الغضب والشتائم، في مشهد مغالاة متبادلة.
. مرشح للبرلمان، كان يعادي قائمة انتخابية ثم ينضم إليها، ويبدأ بمدح زعيمها وتمجيد أفكاره بشكل يفوق حتى أنصاره القدامى.
. من يوجه انتقادًا بسيطًا لمرجعية دينية يتعرض للتهديد بالقتل، ومن يكتب مقالًا ناقدًا لفصائل مسلحة قد يُختطف، حالة من الانزياح بالغ التطرف في الرد على مجرد رأي.
. مدير جديد يلغي كل ما بناه سلفه، ويبدأ من الصفر، مدفوعًا باعتقاد مغالٍ أن كل ما سبق باطل، وأن ما يقدمه هو وحده الصواب.
. أحزاب مؤدلجة، كل منها يرى في أفكاره خلاص الأمة، ويرى في أفكار غيره هلاكها، من البعث إلى الدعوة إلى الحزب الإسلامي.
. متدينون يعتقدون أن طائفتهم وحدها تمثل النجاة، وسواها في ضلال أو في النار.
2. تمتد مظاهر الغلونة لتشمل الأفراد العاديين ورجال الدين، فنجد من يحرمون: ظهور شعر المرأة، والاختلاط بين الأطفال في المدارس. وحلق اللحية، والاستماع إلى الموسيقى، والاستمتاع بالرقص. ولبس البنطال للفتيات، ووضع المكياج، ومصافحة الجنس الآخر. وقيادة المرأة للسيارة أو الدراجة، والتمثيل، والغناء، والوشم، والقروض البنكية، والاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، وغيرها.
3. كل ذلك يُجرَّم أو يُحرَّم ضمن قائمة تحريمية تتسع بلا حدود لتشمل مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية الضابطة حيث يُبرر التعذيب بانعدام الدليل، ويظهر مستشار لرئيس الوزراء في نيسان 2025 معلنًا على التلفاز أن "التعذيب هو السبيل الوحيد لانتزاع الاعتراف"، في تجاوز للقانون والكرامة الإنسانية.
وتشمل دعاة إصلاح الدولة، فالمتظاهرون الذين يطالبون الدولة بإرساء قواعد العدالة والمساواة يُغالِي بعضهم في الخروج عن الصف ليخرب أملاك الدولة، متناقضًا مع ما ينادي به.
4. في الأحياء، والقرى، والمساجد، والمجالس، والأعراس، والمواكب الحسينية، يلاحظ وقع المغالاة في صور متباينة: مداحون يرفعون الممدوح إلى حدّ التقديس. وناقدون يهوون بالنقد إلى حدّ التكفير. ودعاة يتوسلون الترغيب والترهيب بأساليب قاسية. ومروّجون يخلطون بين الحماسة والتلفيق. ومهاويل يبالغون في الإشادة حدّ الإسفاف. وخطباء يقدمون روايات تفوق الخيال، لا يميزها تحقق من زيف.
إنها حالات من المبالغة لا تقتصر على الأفعال، بل تطال المشاعر، والانفعالات، والآراء: أشخاص يعيشون وكأنهم "على الحافة"، لا يتقبلون النقاش، ولا يرون الأمور إلا من زاوية واحدة.
ملامح نفسية واجتماعية تعزز الغلو.
لفهم "الغلونة" بوصفها ظاهرة متفشية في المجتمع العراقي، لا بد من التوقف عند طبيعة هذا المجتمع، من حيث بنيته النفسية وتكوينه الثقافي ومساره التاريخي المتقلب.
فالعراقي، في عمومه، عاطفي المزاج، سريع الانفعال، حادّ في ردود فعله، يتنقل بين النقائض بسهولة لافتة. وهي ازدواجية ليست طارئة أو وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها في ثقافة المحنة والصراع التي عاشها العراقيون عبر قرون من الاحتلالات، والأنظمة القمعية، والحروب، والعقوبات، وانهيار الدولة المركزية، وصولًا إلى الفوضى السياسية والاجتماعية بعد 2003
كما تتسم الشخصية العراقية، بحسب ما رصده عدد من الباحثين، بسمتين متناقضتين ومتجذرتين : الاعتزاز العالي بالذات، والشك العميق بالآخر (الحيدري 2013) ، وهذا ما يُنتج سلوكًا اجتماعيًا محفوفًا بالتوجس والتوتر، وسرعة الانجراف نحو أقصى المواقف في لحظات التحدي أو الاستفزاز. كما ان العراقي الذي يُربّى على الافتخار والبطولة والانتصار، يُحاط في الوقت نفسه بشعور دائم بـالخذلان والانكسار، ويتفاعل مع هذا التناقض تفاعلًا يُفضي إلى سلوك لا يعرف الوسط، بل ينزع إلى الحدة والمبالغة، في القول والفعل والانفعال.
لماذا الغلو في بلاد الرافدين؟
يبدو من وقع السلوك والآراء وكأن خزين الوعي من المعارف والانفعالات لعديد من أهل البلاد قد ابعدهم عن الوسط المألوف، حتى توجه بعضهم الى أقصى اليمين يتصرف بشكل متطرف في إبداء الرأي وتنفيذ الأفعال تأييدًا وقبولًا، وابتعد آخرون باتجاه اليسار، وتطرفوا بالسلوك والأفكار رفضًا وانتقادًا على النقيض من ذاك الواقف على اليمين، والابتعاد وقوفًا بالاتجاهين المتناقضين، مغالاة يرد علماء النفس حصولها الى واحد أو أكثر من العوامل الآتية:
1. ضعف الشعور بالانتماء والقبول الاجتماعي.
عندما يشعر الانسان شعورًا بالرفض أو النبذ، وإنه ليس جزءًا من الجماعة القوية أو الدولة، سيغالي البعض في تأييد إحدى الجماعات أو رموزهما كي يضمن القبول والاحتواء. لأن الانتماء حاجة إنسانية أساسية، تدفع الى تكوين علاقات والحفاظ عليها، ومتى ما هددت هذه الحاجة، قد يتجه الشخص إلى مواقف متطرفة لإثباتها (Baumeister 1995). وبضوء التهديد الذي حصل في هذا الزمان لهذه الحاجة يمكن تفسير التهافت في تطوّع العديد من فدائيي صدام في تشكيلات مليشياتية مسلّحة، وانضمام بعض البعثيين إلى تنظيمات دينية ذات طابع سياسي مؤدلج، واتساع ظاهرة "المخبر السري".
2. السعي إلى الشعور بالأمان ضمن جماعة
حين يعيش الأفراد في بيئات يسودها الاضطراب والانقسام الحاد، يلجأ بعضهم، بحكم الطبيعة الاجتماعية للإنسان وتبعًا لخلفيّاتهم المعرفية وسماتهم الشخصية، إلى الارتماء في أحضان الجماعة الأقوى طلبًا للأمان. ويتجلّى ذلك في ولاءٍ مفرط قد يبلغ حدَّ التطرّف في التأييد والمناصرة، أو في مبالغات خطابية تُقصَد منها درء تهمة الخيانة أو التقصير. وتتبدّى هذه الاستجابات في مظاهر مثل تعاظم الهتافات واطلاق الشعارات في المناسبات العامة، وكثافة المنشورات الطائفية المتشدّدة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واتساع ظاهرة التشدد في ارتداء «الزي الإسلامي» أو الحجاب، وازدياد أعداد الخطباء الذين يهاجمون كل ما يرتبط بالحرية أو الديمقراطية. سلوكيات في معظمها، تُصنَّف بوصفها مساعيَ دفاعية لتعزيز الإحساس بالأمن الجماعي، وتحقيق هوية محصَّنة في مواجهة واقعٍ مهدِّد.
3. التخفيف من مشاعر الدونية.
عندما يتراكم الإحساس بالنقص - سواء على المستوى الفردي أم نتيجة الانتماء إلى جماعةٍ مُهمَّشة أو موصومة بالازدراء - تغدو المغالاة أداةَ تعويضٍ نفسي. يتبنى البعض فيها مواقف وسلوكيات تُجسِّد «قوّة رمزيّة» تمنحهم تفوّقًا شعوريًّا مؤقّتًا يكسر عجزهم الداخلي.
في العراق، عانت مكوِّناتٌ اجتماعية مختلفة مستوياتٍ متفاوتةً من التهميش السياسي والاجتماعي طوال عقود في الزمن السابق، ثم تواصلَ شعورُ بعضها بالإقصاء في هذا الزمن. هذا الاحتقان سرعان ما انفجر في صورة خطابٍ انتقامي متطرّف أو سلوكٍ عنيف يردّ الإقصاء بالقوّة: فقد وقف بعضُ الرموز الدينية السُّنيّة ضد النظام الجديد قبل اتّضاح معالمه، وانبثقت فصائل مسلّحة لمقاتلته، فيما سعت شخصياتٌ أخرى بارزة إلى العمق العربي الإسلامي طلبًا للدعم، ولجأت بالمقابل شخصياتٌ شيعية معروفة إلى إيران لاستجلاب العون. هكذا تحوّل التطرف - خطابًا وممارسة - إلى وسيلة رمزية لتعويض مشاعر الدونيّة واستعادة مكانةٍ مفقودة.
4. انفعالات الطفولة.
قد يتعرّض الفرد في مراحله المبكرة لظروف مقلقة تترك في وعيه مخزونًا من توتّرٍ وخوفٍ مكبوتين. وعندما يواجه في الكبر مواقف تستحضر ذلك الشعور المهدِّد، يَنْدَفع بردود فعل مبالَغ فيها - غضبًا أو تشدّدًا - كآلية لتفريغ تلك الانفعالات القديمة. وينطبق الأمر ذاته على الخوف: فالحلول المتطرّفة تبدو للخائف منطقية ومُرضية متى شعر بالخوف على ذاته أو هويته أو جماعته. وتبعًا لبنيته النفسية ومخزونه المعرفي، قد يلجأ إلى وسائل دفاعية أو انتقامية متطرّفة تتخذ أشكالًا شتّى، مثل: الخوف الشديد من الآخرة الذي يقود بعض الأفراد إلى تشدّد صارم في تحريمات الدنيا. والخوف من القهر الطائفي الذي يدفع إلى اعتناق أفكار متشدّدة لحماية الهوية. والخوف من الاستهداف الشخصي، في ظل انعدام الثقة بمؤسّسات الدولة، الذي يفضي إلى التطرّف ضد الدولة نفسها:
مثّلت صدمة الاحتلال والتغيير عام 2003 مثالًا جليًّا لهذا النمط من التطرّف القائم على الخوف؛ إذ أفضى الاضطراب الأمني والسياسي إلى شعورٍ عام بالخطر على الذات والهوية: خشِيَ بعضُ السنّة الإقصاء السياسي، وتوجّس الصابئة والإيزيديون والشبك من الانتقام الطائفي، وقَلِقَ العلماء والباحثون والطيّارون والبعثيون والعلمانيون الشيعة من القصاص أو النبذ. فاندفعَ بعضُ السنّة إلى تنظيماتٍ متطرّفة مثل القاعدة ثم داعش، ظنًّا أنّها تحمي كرامتهم وحقوقهم، بينما تشكّلت في المقابل ميليشياتٌ شيعية مسلّحة بدافع الخوف من عودة المتطرّفين؛ ما عمّق الانقسام وأدام دوّامة الصراع.
5. الغموض.
في ظل ظروف العراق المعقّدة، تبرز العديد من الأسئلة غير المحسومة التي تفتقر إلى إجابات واضحة، من قبيل: ماذا يحدث وإلى أين يتجه المصير؟ تعكس مستوىً عالٍ من الغموض في المشهد السياسي والعلاقات الدولية. وعلى المستوى الفردي، تظهر كذلك تساؤلات عندما تبقى دون إجابات واضحة، فإنها تولّد مشاعر قلق وضيق نفسي، ما يدفع البعض في كثير من الأحيان إلى تبنّي مواقف متطرفة، قائمة على تقسيم الواقع إلى ثنائيات صارمة "إما صح أو خطأ"و"إما جيد أو سيئ" (Kruglanski, 1990)
4. وهناك من يرى الصورة أكثر تعقيداً بعد 2003 ويرد الحدية والتطرف أو المغالاة التي حصلت في المجتمع العراقي إبان هذا الزمان على وجه التحديد الى:
آ. تفكك مؤسسات الضبط الاجتماعي. مرّ المجتمع العراقي بتحولات حادة في الزمن الحالي، منها سقوط الدولة المركزية، وتفكك مؤسسات الضبط الاجتماعي التقليدية (العشيرة، المدرسة، النقابة، القانون)، مما ترك الفرد مكشوفًا دون سلطة ناظمة، وعلى إثرها توجه العراقي في قضايا مثل التجاوز والسرقة والدهس وغيرها الى حلول عشائرية خارج إطار القانون، وغالبًا ما تُمارَس مثل هذه الحلول بحدة مفرطة، تصل أحيانًا إلى القتل علنًا، دون اعتبار للعواقب.
ب. التنشئة التربوية القائمة على الثنائيات. يلاحظ أن الكثير من الأسر والمدارس ما تزال تعتمد خطابًا تربويًا قائمًا على ثنائية "الحرام/ الحلال" ، "الحق/ الباطل"، "نحن/ هم"، دون تعويد الأطفال على تقبّل الاختلاف، لذلك نجد الطفل الذي يربى في عائلة ترى أن طائفتها فقط على صواب، يكبر وهو يرفض الآخر رفضًا كاملًا، ما يجعله في شبابه عرضة للتطرف أو الغلو في المواقف الدينية أو السياسية.
ج. الخطاب الديني التعبوي. يغلب على الكثير من الخُطب الدينية والمجالس الحسينية طابع المبالغة، سواء في المدح أو في الرثاء، وتعزيز روايات غير موثقة تاريخيًا، مما يُغذي الميل إلى التهويل والانفعال، فالخطيب الديني الذي يصف أحد الأئمة بأنه "يتحكم في ذرات الكون"، أو يقول عن معركة قادها إمام قبل 1400 سنة أنها أكبر من كل معارك البشرية، يخلق وعيًا غاطسًا في التقديس المفرط، يُغذّي ظاهرة الغلونة.
د. الإعلام المهيج المنحاز. أنشأت الأحزاب والحركات الدينية السياسية قنواتها الفضائية، ومواقع في وسائل التواصل الاجتماعي، تمارس في كثير منها التحشيد العاطفي والانحياز لطرف دون آخر، لتُغذّي الاستقطاب السياسي والطائفي، وتعوّد إعلامها الانحياز شبه المطلق بعيدًا عن المهنية: فعندما تداهم قوة أمنية بيتًا مشبوهًا على سبيل المثال تنقله القناة الفضائية (آ) خبرًا حول مداهمة بيت مشتبه به، وتنقله القناة (ب) كـ"قمع طائفي"، وثالثة تصوره كـ"بطولة أمنية"، ما يُعمّق الانقسام، ويقود الجمهور إلى تأييد أعمى أو رفض مطلق، دون فهم ما جرى فعلًا.
هـ. الإرث السياسي الاستبدادي. أورثتنا الأنظمة السابقة ثقافة "القائد الذي لا يُخطئ"، وشيطنة الخصم، وجاءت الأنظمة الحالية لتعزز هذه الثقافة، حتى بات الكثير من المواطنين لا يملكون القدرة على انتقاد الزعيم أو المرجع الذي يتبعونه، ويعتبرون ذلك "خيانة" أو "كفرًا سياسيًا"، مما يؤدي إلى ردود أفعال متطرفة ضد أي رأي مخالف.
و. ضغوط العيش وانسداد الأفق. عندما تزداد نسب البطالة، وتسوء الخدمات، وتنعدم فرص التطور، تتحول الطاقة النفسية المتاحة إلى انفعالات حادة، تجعل الأفراد سريعي الغضب والاحتقان، لذلك نلاحظ تكرار مشاهد شاب خريج جامعي يشتبك مع شرطي مرور لمجرد منعه من الوقوف الخاطئ، فينهال عليه بالشتائم، أو بالعنف، كرد فعل متشنّج ليس على الشرطي فقط، بل على النظام كله.
النتائج الجانبية للغلونة
إذا استعرضنا مشهد الانتخابات المبكرة في عام 2021، بكل ما انطوى عليه من تقلبات حادة، من رفضٍ غاضب إلى قبولٍ حماسي، وقارنّاه بمشاهد الانتخابات السابقة، من عام 2018 وما قبلها، فإننا نلحظ نمطًا متكرّرًا من ردود الأفعال المتطرفة على نتائجها: فئات اجتماعية واسعة تنخرط في رفض انفعالي يتّسم باتهامات التزوير والتلاعب، وفئات أخرى تُظهر قبولًا مفرطًا وترحيبًا مبالغًا فيه، كما لو كانت النتائج نصرًا نهائيًا.
المفارقة اللافتة أن هذه المواقف لا تقتصر على المنتمين إلى الأحزاب والتيارات، بل تشمل شرائح لا علاقة عقائدية لها بتلك القوى السياسية. وهو ما يكشف خللًا في مستوى الاعتدال الجمعي، حيث تبدو الوسطية في السلوك السياسي والاجتماعي سطحية أو ظرفية، لم تكن نابعة من وعي راسخ أو اتزان فكري، وتكشف أن ردود الأفعال المتطرفة هذه لم تقتصر على الانتخابات، بل سرى أثرها في كل ما له طابع مصيري: الحروب، الاتفاقيات، المشاريع الكبرى، بل حتى في العلاقات الإقليمية والدولية. ومن هنا، يمكن رصد بعض النتائج الجانبية الخطيرة للغلونة في مجتمعنا العراقي، وأبرزها:
1. إنتاج رفضٍ مقابل.
يوّلد التطرّف تطرّفًا مضادًا. فحين تشتد الانفعالات الحادة، تتكرّر ردود الفعل بنفس الحدة، مما يدخل البلاد في دورات لا تنتهي من التوتر والاضطراب: انقلابات، ثورات، احتجاجات، تمردات... جميعها تُسهم في إضعاف الاستقرار السياسي والاجتماعي.
2. تعطيل حركة الزمن.
حين يتغلب الانفعال على الاعتدال، تتعطل المشاريع، وتتأخر القوانين، وتبقى عجلة التنمية ساكنة، رغم أن العراق كان من أوائل الدول في المنطقة حداثةً واستعدادًا للتقدم. وقد تعطلت في هذا الزمن بالفعل كثير من المشاريع وصفتها الدولة بالمتلكئة، أكد تعطلها السيد السوداني رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 31 آذار 2025 في تصريح قال فيه "ان عدد المشاريع المتلكئة انخفض إلى أقل من 850 مشروعًا، بعدما كان يُعدّ بالآلاف قبل تولّيه المنصب" مؤشرٌ واضح على أن الزمن العراقي ما زال يدفع ثمن التعثر والارتباك المتوارث.
3. انفعالات لحظية، بخسائر طويلة الأمد.
كثير من صور التطرّف ليست سوى ردود فعل حماسية آنية، لكن آثارها تمتد لسنوات، بل لعقود يتمثل قسم منها في:
. توتر العلاقات الشخصية داخل المعسكر الواحد: كما في العلاقات التي شهدت شدًا وجذبًا بين السيد المالكي والعبادي، أو بينه وبين الجعفري، وكذلك بين السيد الحكيم وباقر جبر صولاغ، وغيرهم من قادة الإطار التنسيقي في علاقتهم بالسيد السوداني.
. قرارات كارثية في غياب التقدير العقلاني : كتورّط فصائل عراقية بالقتال إلى جانب النظام السوري بعد عام 2012 ، أو سحب القوات العسكرية من الموصل قبيل اجتياح داعش لها عام 2014.
. الإحباط المستمر: لأن الواقع غالبًا ما يعجز عن مواكبة تصوّرات المتطرفين أو المغالين، كما حدث مع الانتكاسة المعنوية التي أصابت الحكومة عام 2014.
4. وهم الشعبية لدى القادة.
تنتج الغلونة وهمًا من التأييد الكاسح، ما يدفع القادة إلى اتخاذ قرارات كبرى دون حساب كافٍ: حين قرّر صدام حسين مواجهة التحالف الدولي في 2003 استندت حساباته إلى مظاهر التأييد الظاهري: هتافات، صور، أرقام متطوعين... اتضح لاحقًا أنها مجرد وهم، إذ تبخّرت تلك الحشود في أولى ساعات الحرب.
5. تنكيل جماهيري يفتك بالوطن.
عادة ما يصاحب موجات الغلو أعمال تنكيل ممنهجة ضد الخصوم، ما يؤدي إلى خسارة كفاءات، وهجرة عقول، وخلخلة في النسيج المجتمعي:
. في 14 تموز 1958، تم التنكيل بمؤيدي النظام الملكي، ففقد العراق كثيرًا من خبراته واستقراره.
. في 17 تموز 1968 ، تعرّض الشيوعيون والمتدينون والتجار والمثقفون لموجات من العنف والضغوط، دفعت كثيرين إلى الهجرة أو الانزواء، فزادت الخسارة.
. في 9 نيسان 2003 ، واجه البعثيون المصير ذاته، ما تسبب بهجرة عقول اقتصادية وعلمية لا يزال العراق يعاني خسارة غيابها حتى اليوم.
إن القاسم المشترك في كل هذه المراحل، هو أن المغالون، المتطرفين لا يعرفون الوقوف في المنتصف إنهم يضخّمون، يبالغون، ويُسقِطون عواطفهم على الواقع، فيرونه من خلال مرآة مشوهة لا تعكس سوى أحكام حادة: أبيض أو أسود، نصر أو خيانة، ولاء أو عمالة. لذلك كانت نتائج مغالاتهم في العراق خسائر جسيمة، لم تسلم منها الدولة، ولا المجتمع، ولا حتى المغالون أنفسهم.
***



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية
- توازن المواقف القلق
- الشيخ والدولة
- تعري الطفولة الآثم
- 8 شباط تعزيز للهدم المنظم
- المساءلة والعدالة
- إلتقاء التضاد في خراب البلاد
- خلع العباءة لا يكفي
- لوثة في خلايا عقل
- نصف الحكاية
- ذكرى نهاية حرب
- معركة الموصل وعملية استثمار الفوز
- أزمة قطر السعودية الى زين


المزيد.....




- الطحالب البحرية: غذاء فائق الجودة أم بدعة صحية؟
- البابا فرنسيس يتبرع قبل وفاته بـ 200 ألف يورو لدعم سجن الأحد ...
- انتقادات ألمانية وأممية لأحكام غير مسبوقة صدرت ضد شخصيات معا ...
- على ماذا تفاهم الشرع مع الشابندر؟
- ترامب: من الصعب على أوكرانيا -استعادة- شبه جزيرة القرم
- ترامب: لدي موعد نهائي لمفاوضات السلام حول وأوكرانيا وبعده سي ...
- ترامب يعرب عن ثقته بأن بوتين سيستجيب لطلبه بوقف الضربات على ...
- -الشمس المزروبة- تظهر في السعودية وخبير يوضح السبب (فيديوهات ...
- الخارجية التركية تصدر بيانا بشأن قضية إبادة الأرمن عام 1915 ...
- الفصل السابع والثمانون - دانيال


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)