صابر الفيتوري
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 17:49
المحور:
الصحافة والاعلام
لم تعد سطوة السلاح هي وسيلة القمع الوحيدة بيد الطغاة ، فلقد ظهر شكل جديد من الطغيان ، غير مرئي ، ولكنه خبيث وبشع الى ابعد الحدود لان له تأثير السحر على الناس البسطاء الذين يغيب عنهم الادراك والوعي ، إنه الطغيان الفكري الناعم، الذي لا يُمارس قمعا واستبداد ظاهرا ، بل يدخل الى العقل والوجدان ويهجم كيفما شاء ، من خلال صورة براقة ناعمة مغلفة داخل علبة والوان زاهية، و ان لم نأخذ الحذر منها انفجرت محدثة انفجار تدميري هائل .
هذا النوع من الطغيان، كما يقول مالك بن نبي، "لا يُمارَس على الجسد، بل على الأفكار"، وهو أخطر، لأن الضحية لا تشعر به، بل قد تدافع عن أفكار جلادها، وتعتقد أنها اختارت طريقها بحرية دون ممارسة التوجيه .
انه اتباع و انقياد اتجاه المجهول قال تعالى :"وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" (البقرة: 170).
هذا هو الطغيان الفكري، انسياق واستلاب ، يدمر بنية الفكر ما يجعل الإنسان أسيرًا لفكرٍ لم يختره بنفسه ولم يتأمله بعقله تأملا راجح ، بل جاءه من الاسلاف كارث سهل دون مجهوده ، وانجرف نحوه دون تبصر، وقد يكون اقتيد له بقيد دون اعمال العقل .
في عصر الوسائط الاعلامية ، لم تعد السلطة الحاكمة تحتاج الى (بوليس ) ليضرب بعصاه من لا يتوافق مع حكمها ، بل إلى قواعد البيانات والتطبيقات الممولة بعد ان سيطرت على اخبار وتقارير المؤسسات الاعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والتهمت المشاريع الاعلامية الخاصة والطموحة .
لتمارَس الهيمنة من خلال الإعلام الحديث الذي لا يُخبرك بما يجب أن تعرفه عن ظلم الانسان للإنسان عن قهر الانسان للإنسان ، بل يُعلّمك كيف تفكر حيال ما تعرف فالمتصدر من الاحداث مبتدع ومقحم على الدوام .
يقول نعوم تشومسكي: "وسائل الإعلام الكبرى لا تصنع فقط الأخبار، بل تصنع حدود النقاش الفكري".
وهذا ما يوجه الناس الى مناقشة والتعليق على الاحداث من زاوية واحدة والسلطة تقوم بتشتيت الفكر عن خلال ربط الجموع بحدث وتشكيل الوعي الجمعي نحوه ، وصولا الى الهدف ،وهو ورؤية واحدة .
الطغيان الفكري الناعم يقضى على نعمة الاختلاف ، ويشكك في عقول المخالفين ويرميهم بأبشع الاوصاف .
فليس "الرأي العام" هو الحق ، "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون ( البقرة :42) .
السلطة ومن خلال التعليم الموجه ، تُلقّن العقول منذ الصغر مفاهيم جامدة تُقدَّم على أنها حقائق، لا تُمسّ. وفي هذا السياق يقول الله تعالى:
"إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" (الأنفال: 22).
وكأنهم من ذوي الاعاقة ، فلا اذن تسمع ، ولاعين ترى، ولا قلب يبصر ، ولا عقل يفكر .
هكذا يتسلل الطغيان الناعم، تتحول المدارس إلى ورش لإنتاج العقول المتكلسة ، ويمارس فيها الطغيان منذ البدء في الخفاء لبناء صورة مثلى لمجتمعات خاضعة مسَلمة عوضا عن مسِلمة ، عبر وئد ملكة السؤال والنقد وهم ادوات المثقف الاولى في صراعه مع الجهل .
الكلمات الجميلة المنمقة ليست كما يعتقد البعض ،انما وراها استراتيجيات وضعت بعناية للتحكم في العقل وتشكيل الادراك متحكمين في لغة الاتصال حتى ان الكثير مجبرا اليوم لان يتعاطى مع مفاهيم ثابتة في العالم دون مناقشتها ومنها حرية المراة وحقوق الانسان من منظور غربي بحث .
حيث يقول إدوارد بيرنيز، رائد الدعاية الحديثة: "إذا استطعت التحكم في اللغة، استطعت التحكم في الإنسان."
فكل شيء تحت السيطرة باعتماد ما يعرف البرمجة اللغوية العصبية، التي تُستخدم لتوجيه التفكير عبر تقنيات نفسية دقيقة، مثل التكرار، الإيحاء، والربط الشرطي.
البرمجة اللغوية العصبية هي ليست فقط اداة وحيدة للسيطرة ،لكن ثمة نماذج للعلاقات العامة تستخدم لتوجيه الراي نحو ما ترغبه السلطة و بطريقة ناعمة لتشكل طغيان لأفكار على افكار اخرى ، حتى وان بدت في ظاهرها مقبولة وجميلة ،انما هي تحمل في طياتها كل الخبث والاقصاء ، انه تماما دس السم في العسل ليتجرعه الانسان برضاه دون اعمال العقل .
الدين ليس طغيان ولا الديمقراطية طغيان ، بل حينما يُستغل الدين والديمقراطية لتثبيت سلطة بشرية واظهارها على انها مقدسة ولا يجب المساس بها هنا يظهر الطغيان فكلا الامرين اساسه الناس والشورى .
يقول : عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد": "الدين بريء من الطغيان، ولكن الطغاة يختبئون في معابده." كما ان الديمقراطية ليست تمام حكم الاغلبية بل مشاركة الكل وصولا للتوافق .
يجتهدون في تحويل أي اختلاف فكري يخرج عن الثوابت الى عصيان وتمرد ، حتى لو كانت تلك الثوابت غير مقبول فكريا .
الطغيان الفكري الناعم هيمنةً تمارس اليوم على نطاق واسع ،لا بسوط، الجلاد الذى يمثل السلطة ، بل بتثبيت الثقافة الواحدة التي لا تقيم اعتبارا للعقل ،بالمنع واغراق المفاهيم السلطوية، على انها هي الحقيقة و الحق معا ، وما عدها فهو محرم ومجرم ، فتتواجد عبودية جديدة ، تربط الأيادي وتزج بها في ظلامات السجون ، بل تكبل العقول .
يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو:" السلطة الحديثة لا تُمارس القمع فحسب، بل تُنتج الواقع، وتُنتج الأفراد، وتُنتج الحقيقة ذاتها."
وهذه هي افعال الرأسمالية الغربية ، التي لا تبيع السلع والعلامات التجارية فقط، بل تبيع الطغيان الفكري الناعم من خلال أنماطًا من التفكير والحياة، وتجعل الناس يلهثون وراء نمط معين من الحياة .
المفكر الألماني هربرت ماركوزه، أحد ابرز منتسبي مدرسة فرانكفورت، وصف المجتمع الرأسمالي على انه "مجتمع ذو بعد واحد"، لأن الإنسان فيه يُختزل في كائن استهلاكي، لا يُفكر خارج ما يُعرض عليه، مضيفا ان "الحرية في المجتمع التكنولوجي المعاصر ليست أكثر من حرية الاختيار بين ماركات الصابون."
ان من اوجه الطغيان الفكري الناعم اعتماد النظام الرسمالي في الحكم فالإعلانات التي تضخ عبر وسائل الاعلام ان كان التقليدية منها او المستحدث تصنع الوهم عبر استخدام النظريات الإعلامية التي تصنع الاقبال الزائف نحو نماذج ناجحة مسوقة ظاهريا .
تظهر فكرة "الحرية الفردية"، باعتبارها أعلى قيمة بشرية ، كنموذج وضاء ، بصناعة تأثير مصنوع وموجه وغير حقيقي لكن ذلك غير صحيح انما هي سيطرة استعمارية غربية .
ولذلك فإن الطغيان الفكري الناعم في الرأسمالية يعتمد على التأثير واقناع الراي العام ، بان الحرية هدف يتم اختياره بشكل شخصي ، لكنه في حقيقة الامر هذا ترغيب بالإكراه لأنها خاضعة لفلسفة ترويج الافكار والمنتجات فيتشكل القبول والسيطرة على الفكر ، لتوسيع القاعدة الشعبية .
الطغيان الفكري الناعم يقتل في الانسان ملكة الاختيار لحوله الى فردا في قطيع لا يرى الا فكرة واحدة ،يعطيك الصوت للكلام ، لكنه يجبرك على ما تقول .
لا تكفي الحرية التي يطالب بها الانظمة والمناضلين اليوم عبر الاحزاب والتيارات والمنظمات دون ان ترتبط بوعي ، اننا اليوم في حاجة ماسة الى تنشية عقل سليم ينظر الى هذه الحرية من شيء الزوايا ، عبر منهج نقدي ينظر الى القيمة في الحرية في الباطن ، وان الحرية لا تمنحها سلطة بالمجان .
فالتحرر يبدأ من العقل الذي يفكر وله القدرة على قراءة الابعاد واستلهام النتائج لهذه القيمة العلى في الحياة ، لعلنا نخرج من عباءة الطغيان الناعم الذى يأخذ في الانتشار متغلغلا والذى اخذ مكان الطغيان في شكله التقليدي .
* كاتب ومثقف ليبي
#صابر_الفيتوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟