علاء الدين الظاهر
استاذ رياضيات
(Alaaddin Al-dhahir)
الحوار المتمدن-العدد: 8313 - 2025 / 4 / 15 - 19:24
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
رفضت جامعة هارفارد مطالب دونالد ترمپ العديدة ومنها إعطاء ادارته اسماء الطلاب الناشطين سياسيا (في هذه الحالة المؤيدين للقضية الفلسطينية). رد ترمپ بتجميد ملياري و200 مليون دولا من المنح البحثية الحكومية لهارفرد. فعلَ ترمپ نفس الشئ سابقا مع جامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات الاميركية.
تعتبر جامعة هارفارد من الجامعات الليبرالية وليكن واضحا للقارئ فيها ديمقراطيون وجمهوريون ومستقلون، عرب ويهود علمانيون او متدينون مؤيدون لأسرائيل او معارضون لسياستها. الجامعات الغربية لا تختار اساتذتها على دياناتهم او مواقفهم السياسية بل على كونهم افضل المتقدمين لملأ الشواغر فيها.
قبل ان تصبح جامعة هارفارد من اولى الجامعات المرموقة كانت كلية (هذا اسمها الاصلي وبطاقة هويتي كزميل مرتبط فيها كانت تحمل اسم كلية هارفارد) مغمورة. قبل اكثر من مئة عام زار رئيسها الجامعات الالمانية وتعرّف على مبدأ الحرية الاكاديمية. هذه الحرية تمنح الاستاذ الجامعي الحرية في اختيار الكتاب التدريسي وطريقة امتحانه للطلاب ونظريا البحث في اي موضوع. اقول نظريا لأن الباحث الاكاديمي يجهد هذه الايام للحصول على تمويل مالي لبحوث في تخصصه وينطبق عليه المثل العراق (نركض والعشا خبّاز) فما بالك البحث في تخصصات اخرى. هذا المبدأ يتيح ايضا كتحصيل حاصل مواقف سياسية مستقلة.
نقل رئيس كلية هارفارد مبدأ الحرية الاكاديمية الى كليته وإنتقل هذا المبدأ الى بقية الجامعات الاميركية. كان ولا يزال هذا مبدأً اساسيا في تقدم الجامعات وهو احد اسباب كراهية اليمين الاميركي المتطرف للجامعات. هؤلاء يعتبرون الجامعات بؤرا لليسار بسبب الحرية الاكاديمية التي تتيح تداول الافكار المتحررة. هذا التداول للافكار المتحررة ليس حصرا على المؤسسات الاكاديمية بل متوفر في الاعلام وفي هوليوود التي هي من مراكز الكراهية لليمين الاميركي ايضا.
ترمپ ليس مثقفا (حاله حال معظم الرؤساء الاميركيين) بل اسوأ هو شخص غير متعلم حصل على شهادته بالغش وفقا لأبنة شقيقته. لا يفهم ترمپ مثلا ان البحث العلمي يخدم مواطنيه خصوصا والبشرية عموما. بعض هذه البحوث ذات اهمية عسكرية (لا اعرف ان كانت هارفارد تقوم بها لكن الاحتمال ليس بعيدا) وبهذا يخسر شيئاً آخرا هو الدفاع عن وطنه الذي يدعي انه مغرمٌ به ويتلحّف بعلمه بمناسبة او دون مناسبة. كل كلامه سوقي وبلغة عامية ولا يمتلك اي قدرة خطابية سوى الغوغائية والكذب والدجل والانقلاب على كلامه او حتى نفيه. بعد ان اعلن تعاريفه الكمركية ثم تجميدها خطب بمؤيديه قائلا (الآن الكثير يبوسون طيزي توسلا كي يوقعوا على اتفاقيات للاستثمار في اميركا). رد الفعل من مؤيديه كان التصفيق له. أثناء فترة رئاسته الاولى تساءلت من هو اغبى ترمپ ام من صوّت له.
هذا الارهاب الذي تمارسه إدارة ترمپ على الجامعات الاميركية له نتائج عكسية. رأيت في برامج وثائقية اساتذة في جامعات متميزة مثل ييل، اساتذة قرروا الانتقال الى جامعات كندية. احد هؤلاء استاذ يهودي (متخصص بالقانون) يرفض ان يستخدم دينه لغلق افواه الطلبة المعارضين لسياسة الحكومة الاميركية تجاه اي قضية ومنها قضية فلسطين. ترمپ ونائبه جي دي فانس يكرهان الجامعات ويعتبراها بؤرا لليسار في اميركا. نائبه فانس يتحدث عن (الديانة السياسية) والتي يستلهمها من افكار اليميني المتطرف (كيرتيس يارفن). يارفن يطالب بتدمير الجامعات والاستيلاء على اراضيها كونها في منطقة مركزية (في المدن) ومنح هذه الاراضي للمستثمرين. يارفن ايضا يطالب بالغاء الحكومة الاميركية وإستبدالها بديكتاتور يقوم بأعلاه وبحكم اميركا. جي دي فانس يقول ان الجامعات هي العدو ويجب الاستيلاء عليها.
في الستينيات رحبت كندا بالاميركيين المعارضين لحرب فيتنام وإنتقل العديد منهم للعمل في جامعاتها. الكرّة ستعيد نفسها في حقبة ترمپ الحالية. الجامعات الاسپانية بتشجيع من حكومتها ترحب الآن بالاساتذة الاميركيين. بلا شك ستتبعها دول اوربية اخرى.
في فترة الثلاثينيات والاربعينيات في الولايات المتحدة كان هناك من يعارض ويكره الجامعات الاميركية مثل اليزابيث ديلنغ وألان زول. في الخمسينيات قام السيناتور يوجين مكارثي بحملته المحمومة ضد اليسار الاميركي والشيوعيين خصوصا. في تلك الفترة كان الممثل رونالد ريغان في هوليوود يتجسس على زملائه الممثلين في هوليوود.
تعرض اساتذة الجامعات لنفس الحملة المكارثية الكريهة. في عام 1994 حضرت محاضرة للرياضياتي الاميركي الهولندي الاصل يان ديريك ستروْك عند بلوغه سن المئة عام. اثناء الحملة المكارثية تم تجميده من عمله في معهد ماساتشوتس التكنولوجي. كان ستروْك سخيا في حديثه عن تلك الفترة. قال انه استغل تلك الفترة لكتابة كتابه عن تاريخ الرياضيات على عكس زميله وصديقه نوربرت وينر الذي كان (مخربطا) ولم يستغل فترة تجميده. منحت ولاية ماساتشوتس لاحقا اعلى وسام لستروْك وتبع ذلك بل كلينتون بمنحه اعلى وسام اميركي. اذكر هذا لأني اعتقد ان هناك أملا بأن تعود العقلنة الى اميركا لاحقا.
كان الرئيس نيكسون يكره الجامعات خصوصا جامعات ما تعرف بـ (عصبة العاج) مثل هارفارد وييل وكان يكره خريجيها كونه لم يتمكن من الدراسة فيها فضلا عن معارضة طلابها ومعظم اساتذتها للحرب في فيتنام. اما رونالد ريغان الذي تخرج من كلية بسيطة لا يزيد تعليمها في احسن الاحوال على سنتين من الدراسة الجامعية الاولية فكان يكره الجامعات كرها شديدا يعود جزءٌ كبير منه لمعارضة طلاب جامعات كاليفورنيا لحرب فيتنام اثناء ولايته كحاكم لولاية كاليفورنيا. عندما اصبح رئيسا عارض منح مبالغ تتجاوز المليار دولار لبناء معجل نووي بحجة عدم تبديد أموال دافعي الضرائب. عندها اقنعه احد الفيزيائيين المقربين منه بصرف هذا المبلغ بحجة ان ثلاثة ارباع الاقتصاد الاميركي يعتمد على فيزياء الجزيئات.
الارهاب ضد الجامعات حصل ايضا في المانيا الهتلرية. اضطهدت الحكومة النازية اليساريين واليهود وفصلتهم من وظائفهم. منْ تمكن من مغادرة المانيا وإنتقل الى بريطانيا او الولايات المتحدة، لم يسهم فقط في التقدم العلمي لهذين البلدين بل استخدم معرفته العلمية لمحاربة المانيا النازية وإنتاج القنبلة الذرية. قبل وصول النازيين للسلطة، كانت جامعة غوتنغن الالمانية مركزا عالميا مكةً يحج اليها علماء الرياضيات والفيزياء. اثناء الحكم النازي زار وزير الدعاية النازي جوزف غوبلز هذه الجامعة وسأل الرياضياتي العظيم ديفيد هلبرت عن حال الرياضيات في الجامعة متوقعا مديحا للحكم النازي من هلبرت. اجابه هلبرت بشجاعة: (قرارت حكومتكم لم تبق للرياضيات شيئا في غوتنغن).
الانظمة الشيوعية الشمولية هي الاخرى لم تخلو من قمع او اضطهاد للجامعيين. بعد نهاية كل فترة دراسية من المدرسة الابتدائية الى شهادة الكانديدات ودكتوراه العلوم كان على الطلاب النجاح في امتحان الماركسية-اللينينية. في الاتحاد السوفيتي كان مفروضا على اساتذة الجامعات الدخول في دورة كل خمس سنوات لإثبات ولائهم للنظام الاشتراكي. دورات مثل هذه كانت مفروضة على جميع المراحل الدراسية ولا تُمنح اي شهادة دون النجاح في مادة الماركسية-اللينينية. اذا لم يقم الطالب او الاستاذ بما يسميه النظام بالنشاط الاشتراكي فهذا يعني انسداد فرص التقدم العلمي له او فقدانه للوظيفة اذا كان استاذا جامعيا. في مقدمة البحوث او الكتب العلمية يكتب مؤلفها بأن بحثه او كتابه تم وفقا للنظرية الماركسية-اللينينية. نظام مثل يشجع الانتهازية والتملق والمزايدات وهو يفسر الانقلاب في هذه البلدان على النظام الشيوعي وإنتشار هيمنة الكنيسة على مجتمعاته بعد سقوط النظام الشيوعي. هناك حالات عديدة لهذا السلوك لانتهازي. احد هؤلاء هو الهندسي الجبري شفاريفتش الذي شكّل حزبا عنصريا يمينيا متطرفا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. احد العراقيين ترجم اطروحته للكانديدات في احدى جامعات الجمهوريات السوفيتية التركستانية، ترجمها الى العربية. لفت انتباهي انه يعتمد في اطروحته تلك على مقولة لأحد اعضاء اللجنة المركزية في تلك الجمهورية التركستانية منارا لبحثه. هل يمكنك تصوّر عراقي يكتب بحثا للدكتوراه او الماجستير ويعتمد على مقولة لعضو فرقة لحزب البعث في عفج؟
تنجبا للاساءة لأحد لا احب الاستمرار في هذا المنحى ولن اذكر اسماءً او كل ما اعرفه عن اهمية الايديولوجية الشيوعية في منح الشهادات او الترقيات العلمية في الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الشيوعية. سأذكر حالة واحدة لأن احدهم إدعى ادعاءات مبالغ فيها وغير صحيحة عن الراحل محمد عبداللطيف مطلب. اولا انا احب واحترم محمد عبداللطيف مطلب الذي درّسني البصريات وبقيت على علاقة طيبة به حتى مغادرتي العراق. بعد انهى دراسة الفيزياء في الجامعة الاميركية ببيروت عُيّن محمد عبداللطيف مطلب معيدا في كلية الهندسة. كان يرأس احدى اللجان في الحزب الشيوعي العراقي. في العهد الملكي تم القبض عليه وحُكم بالسجن المؤبد. من سوء حظه انه بعد حوالي عشر سنوات في السجن نشر رسالة تبرأ فيها من الحزب الشيوعي ووعد بالتوقف عن اي نشاط سياسي. هذا ما اخبرني بي الراحل ريمون شكوري الذي درس الهندسة المدنية ثم درس الرياضيات بعدها وهو صديق شخصي لمحمد عبداللطيف مطلب وزميل لاحق له في كلية العلوم. نفس الشئ نفسه قاله لي رفيقه في السجن الراحل عزيز الحاج. لن اسمح بل سأغضب اذا اساء احدا للراحل محمد عبداللطيف مطلب. تحمّل عشر سنوات في سجون العهد الملكي القذرة والتي لم تخلو من تعذيب وحشي. بعد شهر من الافراج عنه حدثت ثورة 14 تموز. لم ينل محمد عبداللطيف مطلب، لم ينل الوصف عن الشيوعي الصلب الذي يتحمل التعذيب والسجن. على العكس، كان بقاؤه في العراق تفنيدا لذاك الوصف. أرسل في منحة دراسية الى المانيا الشرقية حيث حصل على الدكتوراه في الفيزياء. في تقديري الشخصي انه حصل عليها بجهده الشخصي وعاد الى العراق نهاية الستينيات. بعد مغادرتي للعراق ذهب الى المانيا الشرقية وحصل على (دكتوراه علوم) في تأريخ او فلسفة العلوم وقام بترجمتها الى العربية ونشرها. لم اقرأ هذا الكتاب لكن ما فهمته انه انتقد او انكر نظرية ميكانيك الكم وكان كتابه كما ذكر لي احد اصدقائي اللذين قرأه مليئا بالنظرية الماركسية-اللينينية. كنت قد كتبت قبل عقدين عن رفض النظام الشيوعي الستاليني لميكانيك الكم وإرنست ماخ والنظرية النسبية وإعتبروها نوعا من الهرطقة. تغيّرت النظرة اليها اثناء الحرب العالمية الثانية وإنتاج القنبلة الذرية. لا اعرف إن كان الراحل محمد عبداللطيف مطلب متأثرا بالموقف الستاليني الخاطئ من ميكانيك الكم فهذه النظرية اثبتت وجودها على الاقل منذ استخدام الترانزستور وتُستخدم في مجالات عديدة.
تعتبر شهادة الدكتوراه علوم شهادة اعلى من شهادة الدكتوراه وقد تمنح كشهادة فخرية. سألت زميلي الاستاذ ولفغانغ شپروسغ (متقاعد حاليا) من جامعة فرايبورغ التكنولوجية (فرايبورغ ايضا مدينة في المانيا الشرقية) وهو متعاطف مع النظام الشيوعي في المانيا الشرقية وقد يكون شيوعيا نفسه، سألته عن شهادة دكتوراه العلوم في المانيا الشرقية. قال لي ان تلك الشهادة مستوردة من الاتحاد السوفيتي (كنت اعرف بهذا) وانها ليست بديلا عن التأهيل ( Habilitation ) احد شروط العمل في الجامعات وفي حالة كتابتها عن النظرية الماركسية-اللينينية فكانت تُمنح بوفرة، بمعنى انها لم تكن شهادة ذات قيمة. اقول هذا حرصا على المقاييس العلمية وكي لا تستغل هده الشهادات للدعاية الحزبية مثل ما حصل مع الراحل محمد عبداللطيف مطلب.
في الختام الجامعات مراكز لنشر المعرفة وتطويرها والتقدم فيها. اضطهادها واضطهاد اساتذتها وطلابها انوار المستقبل، لن يؤدي إلا الى التخلف. الحرية الاكاديمية تخدم المجتمع وركن اساسي في تقدم العلوم.
#علاء_الدين_الظاهر (هاشتاغ)
Alaaddin_Al-dhahir#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟