أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علي محيي الدين - المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي















المزيد.....

المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8313 - 2025 / 4 / 15 - 14:07
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


القصة القصيرة جداً هي جنس أدبي حديث العهد نسبياً، يجمع بين التكثيف السردي، والإيحاء الرمزي، والاقتصاد اللغوي. إنها نص أدبي موجز، مشحون بالدلالات، يعتمد على المفارقة، والدهشة، والتلميح أكثر من التصريح. وقد فرض هذا اللون من الكتابة حضوره بقوة في العقود الأخيرة، مستجيباً لتحولات الذوق القرائي وتسارع إيقاع العصر.
رغم أن القصة القصيرة جداً تبدو ظاهرة حديثة، فإن جذورها تمتد إلى تراث الحكمة والمأثورات الشفوية، وأمثال الشعوب، وحكايات "كليلة ودمنة"، و"ألف ليلة وليلة". ويمكن أن نرى فيها امتداداً لبعض صور الأدب العربي القديم كـ"المقامات" و"النوادر"، بل حتى بعض أشعار الحكمة والزهد التي تحوي حكمة مكثفة في بيت أو بيتين.
أما بصيغتها الحديثة، فقد ظهرت بوادرها في الأدب الغربي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، عند كتّاب مثل "إرنست همنغواي" و"فرانز كافكا" و"أوغست ستريندبرغ". أما عربياً، فقد بدأت تظهر بوضوح منذ ستينيات القرن العشرين، خصوصاً في كتابات محمد زفزاف (المغرب)، وزكريا تامر (سوريا)، وعبد الرحمن مجيد الربيعي (العراق).
ورغم قصرها، إلا أن القصة القصيرة جداً ليست نصاً مبتوراً أو خاطرة عابرة. إنها عمل فني مكثف، يقوم على عناصر سردية محددة، منها: التكثيف: استخدام أقل عدد ممكن من الكلمات لأداء أكبر عدد ممكن من المعاني، الحبكة: وجود حدث أو لحظة توتر أو مفارقة تقود إلى نهاية مفاجئة أو مفتوحة، الشخصية: غالباً ما تكون مبسطة أو رمزية، لكنها تؤدي دوراً دلالياً في القصة، الدهشة أو المفاجأة: كثير من القصص القصيرة جداً تنتهي بما يُعرف بـ"الصدمة الفنية" التي تغيّر فهم القارئ للنص. والإيحاء: الاعتماد على ما يُفهم بين السطور، وعلى إشراك القارئ في تأويل النص.
تتمتع القصة القصيرة جداً بقدرة مذهلة على إيصال الفكرة أو الإحساس الذي يريده الكاتب من خلال اختزال الحدث، وتكثيف اللغة، وبناء مشهد عابر يُلقي بظلاله على قضية كبرى أو شعور إنساني عميق. إنها كضربة فرشاة واحدة على لوحة، تترك أثراً يتجاوز المساحة التي تشغلها.
وتأخذ أهميتها في ظل تسارع الحياة، وتراجع وقت القراءة، وانتشار الوسائط الرقمية، فقد أصبحت خياراً مثالياً للكثير من القرّاء والكتّاب. فهي تستجيب لمتطلبات اللحظة: السرعة، العمق، والإيجاز. كما أنها تلائم وسائل التواصل الاجتماعي، وتمنح القارئ فرصة التأمل دون أن تُثقل عليه. وتزداد أهميتها من ناحية تربوية وثقافية، إذ تُعد مدخلاً مشوّقاً للأدب، وتدريباً على التركيز والتأمل والتفكير النقدي.
وبين يدي مجموعة قصص قصيرة جداً للقاص عبد الحسين العبيدي الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين تحت عنوان( وجه أزرق) هذا العام، ولقد ضمت عدد من القصص القصيرة التي تفصح عن قابلية مؤلفها على الالتزام بضوابط القصة القصيرة والوفاء بمستلزماتها، وسأتناول بعضاً من هذه القصص في محاولة لبيان ما في هذه القصص من اصالة في هذا الميدان.
في قصة (ذئاب): تعبا من التجوال في حديقة الحيوانات. جلسا على مصطبة في ظل شجرة. كان الذئب يرمقها باضطراب. وهو يدور في قفصه. نزعت معطفها والقته في حضن الرجل الجالس جنبها. مررت اصابعها في طيات شعرها وهي تبتسم له. بدت في أوج فتنتها.. فأثارت حفيظة الذئبين.
ولو أردنا تحليلها فنيا ودلاليا: العنوان: "ذئاب" هو مفتاح مهم في القصة القصيرة جداً. هنا، يضعنا أمام صورة مزدوجة للذئب: الحيوان المفترس، والرمز البشري للغريزة والشهوة. واستخدام صيغة الجمع "ذئاب" يوحي بتعدد المفترسين، وينذر بأننا أمام تشابك بين الإنسان والحيوان في السلوك أو الرغبة.
ومن ناحية السرد والاقتصاد اللغوي فالقصة تتكون من سبع جُمل قصيرة، كل منها تبني مشهداً سريعاً. اللغة واضحة، مباشرة، لكنها محملة بالإيحاءات، خاصة في الأفعال مثل: يرمقها، نزعت، مررت، تبتسم، أثارت. هناك تناص غير مباشر مع الواقع، إذ أن ما يجري في القصة يمكن أن يحدث في أي مكان عام، لكنه يُقدَّم بأسلوب يوهم ببساطته.
أما الحبكة: الزوجان في نزهة، جلسا ليستريحا، في حديقة حيوانات، والذئب في القفص يبدو قلقاً، يتابع المرأة، وهي بدورها تستعرض أنوثتها أمام الرجل. وفي اللحظة التي بلغت فيها قمة الإغواء، كانت هناك استجابة مزدوجة من "الذئبين".
أما بنيتها الرمزية وما فيها من دلالات عميقة، فالذئب الحيواني يتصرف بغريزته، يراقب، يضطرب. ويرمز إلى الشهوة الطبيعية، الغريزة الخام. فيما الذئب البشري (الرجل الجالس) دون أن يُذكر صراحة أنه "ذئب"، إلا أن صيغة الجمع في "الذئبين" توحي بأن الرجل هو الآخر ذئب، ولكن من نوع بشري.
المرأة تتوجه إليه بإيماءات أنثوية مثيرة: خلع المعطف، تمرير الأصابع بالشعر، الابتسامة. هذه التصرفات تُوقظ فيه هو الآخر شهوة الذئب. والمرأة هي عنصر الإثارة الأساسي. لا توصف بكلمات مباشرة، لكن أفعالها وجمالها هما المحرّك للصراع الغريزي. وقد تكون رمزًا للجمال الفاتن، أو ربما المُثير الذي يكشف ما تخفيه النفوس.
أما المفارقة والدهشة فإن القصة تنتهي بجملة تحمل مفارقة قوية: "فأثارت حفيظة الذئبين" المفارقة هنا أن الذئب "الحيوان" والذئب "الإنسان" يشتركان في نفس رد الفعل. وهنا يحدث التشاكل بين الحيوان والبشر، ويصبح الإنسان أسير غرائزه، كما الحيوان تماماً.
وبعدها الاجتماعي النقدي فالقصة يمكن أن تُقرأ كنوع من النقد الاجتماعي: الذكور الذين يتصرفون كذئاب تجاه المرأة. النساء اللواتي يستخدمن الفتنة لإثارة الذكور. أو تصوير الحضور المتبادل للشهوة والغريزة حتى في أماكن "عائلية" كحديقة الحيوان. والقصة فيها نوع من التهكم أو السخرية من حضارة ظاهرها التمدن، لكن دواخلها ما تزال تحكمها الغرائز.
وقصة( سفرة): غادرا القرية. وعدته بأن يأكلا في المطعم. بدا الازدحام في السوق. استفاقت من هول الانفجار. تحسست جسدها. اطمأنت. تلمست صدرها وجدت كيس النقود في مكانه. التفتت الى صغيرها وجدت حذاءه.
هذه القصة القصيرة جدًا – التي يمكن تصنيفها ضمن القصة الومضة – تُدهش القارئ بتكثيفها الشديد، وقوة مفارقتها، وتبدّل السياقات فيها من مشهد بسيط إلى كارثة مفجعة، وكل ذلك في أسطر معدودة. وهذا تحليل لأبرز عناصرها: العنوان: (سفرة) كلمة "سفرة" توحي بشيء بسيط، يومي، أقرب إلى الفرح: رحلة قصيرة، نزهة، خروج مؤقت من روتين الحياة. لكن المفارقة أن هذه السفرة تأخذ منحًى مأساويًا.
البنية السردية: "غادرا القرية" جملة افتتاحية مقتضبة، لكنها تبني خلفية: عائلة مكونة من أم وطفل (نفهم هذا لاحقًا) تغادر بيئة مألوفة (القرية) إلى المجهول.
والإيجاز الذي يخدم عنصر التشويق: "وعدته بأن يأكلا في المطعم." لحظة دافئة وأمومية، وطفل يتطلع لشيء بسيط: وجبة خارجية.
نبرة مطمئنة وحميمة. "بدا الازدحام في السوق." الانتقال إلى المدينة – إلى مشهد يعج بالحياة، لكنه يحمل توترًا خفيًا. كلمة "بدا" فيها مسافة بين الراوية والمكان، كأنها لا تزال تراقب أو تتوجّس. "استفاقت من هول الانفجار." هنا المفاجأة الصادمة: الانفجار! الفعل "استفاقت" يوحي بفقدان وعي مؤقت، بصدمة جعلت اللحظة تنكسر. "تحسست جسدها. اطمأنت." ردة فعل تلقائية لإنسان ينجو من موت محتمل. نلاحظ غياب أي ذكر للطفل في هذه اللحظة، ما يُقلق القارئ. "تلمست صدرها وجدت كيس النقود في مكانه." وهنا المفارقة: القارئ ينتظر أن تلمس قلبها أو تبحث عن الطفل، لكنها تتحسس كيس النقود! نقد لاذع لأولويات الإنسان في الأزمات؟ أم تصوير واقعي لغريزة النجاة؟ . "التفتت الى صغيرها وجدت حذاءه." الجملة الأخيرة تُسقط القارئ في هاوية الألم: الطفل لم يُعثر عليه، إنما بقي حذاؤه فقط. اختتام مفجع، يحتمل التأويلات، لكنه يترك أثرًا نفسيًا هائلًا.
أما مستواها الرمزي والدلالي فإن القصة ترمز إلى هشاشة الحياة، وإلى ثقل الفقد المفاجئ وسط مشاهد الحياة اليومية. تُدين الحرب والعنف من خلال بساطة الضحايا. تطرح تساؤلات عن القيم المادية مقابل الأحاسيس الإنسانية: لماذا تحسست النقود قبل الطفل؟ الحذاء رمز مؤلم: شيء بسيط ينجو من الانفجار، بينما يغيب الجسد.
وأسلوبها ولغتها: جمل قصيرة، مقطّعة، بلا زخرفة، لكنها تضرب عميقًا. اللغة محايدة لكنها تُقابل بانفعال القارئ. الإيقاع السردي يسرّع عند الانفجار ثم يتباطأ في لحظة الإدراك.
وفي القصص الأخرى كثير مما يستحق الوقوف عنده وتحليله ولكني اكتفيت بهذين النصين لما فيهما من دلالة موحية وعمق في التركيب وتركيز في المفردة.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذو النون أيوب يدافع عـــــــن الرصافــي
- رحلة الشرق الأوسط
- الناقد باقر جاسم محمد وآراؤه النقدية
- العتابا والأبوذية الجذور والفروق وأسبقية الظهور
- الشاعرة وداد الواسطي اصالة في الشعر وفرادة في التعبير
- الشاعر العراقي جبار الكواز شاعر متجدد
- الشاعر سعد الشلاه شاعرية متأخرة لم تأخذ طريقها للبروز
- الشاعر حميد يحيى السراب: مسيرة إبداعية ناضجة
- الشاعرة حسينة بنيان.. تنوع في الاداء والأسلوب
- محطات من مسيرة الفقيد سامي عبد الرزاق (ابو عادل)
- انطلوجيا القصة البابلية
- الدارمي والصراع الطبقي
- ذكريات عن قادة الحزب الخالدين
- ناهض الخياط تجربة شعرية متألقة
- زهير ناهي رحلة طويلة في طريق النضال
- فلاح الرهيمي مناضل من طراز خاص
- كفاح الظاهر
- عبد الرزاق كميل شاعــــرا ومنـــاضـــــلا
- وقفية مملكة أودة
- مطالعة لمرويات ذياب آل غلام


المزيد.....




- هيئة بحرية بريطانية تبلغ عن تعرض إحدى السفن لحادث اقتراب مشب ...
- أشعة CT تحت المجهر.. فوائد تشخيصية مقابل مخاطر صحية محتملة
- روبوت -شبحي-بشري- يعرض قدراته العضلية في فيديو مذهل!
- دراسة حديثة تعيد إحياء نظرية -دُحضت سابقا- عن سبب التوحد
- المخاطر الخفية للاعتماد العاطفي على الروبوتات
- ماذا يعني أن ترفض الصين تزويد أمريكا بالمعادن الأرضية النادر ...
- حلف شمال الأطلسي يختار اتجاهًا جديدًا للمواجهة العسكرية مع ر ...
- عقب زيارته الأولى للدوحة.. الرئيس السوري يوجه رسالة محبة وتق ...
- الإدارة الأمريكية توافق على صفقة صواريخ -ستينغر- للمغرب بقيم ...
- عشرات الغارات الأميركية على مناطق عدة من اليمن


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علي محيي الدين - المجموعة القصصية وجه أزرق بين التكثيف والايحاء الرمزي