محمد السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 8313 - 2025 / 4 / 15 - 10:15
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
-1-
يحاول الكثير ممن يتناولون مآلات الحالة السورية، منذ اندلاع الانتفاضة ضد نظام الأسد، وصولًا إلى استلام الجولاني ورهطه سدة الحكم في البلاد، النظر إلى التغيرات التي تطرأ على الساحة السياسية من منظور الثورة والثورة المضادة. هذا دليل على القصور الذي يعاني منه الفكر السياسي - لاسيما اليساري – والأزمة العميقة التي تعصف به، مما يحول بينه وبين فهم الواقع المعقد الماثل أمامه.
الفكر، بشكل عام، يهدف، في سعيه لفهم ما يجري من حوله من أحداث و ظواهر، لإدارج مفوم معين ضمن مفهوم آخر، الظاهرة ضمن القانون، والعام ضمن الخاص. بعبارة أخرى، ينظر الفكر إلى الخاص أو الظاهرة كتحقق أو تمثل للعام، أي كمجرد حالة خاصة من حالات القانون الكلي. الفكر يعتمد على المفاهيم. لا يمكن أن يكون هناك فكر بدون مفاهيم، وإذا ألغينا المفاهيم، فإننا نلغي الفكر نفسه. وهذا ينطبق على كل من علوم الإنسان وعلوم الطبيعة، مع حفظ الفوارق الكيفية والمنهجية بينهما.
ورغم ذلك، المفاهيم البشرية تخضع لقانون التطور المستمر، إذ مامن مفهوم نهائي. جميع العلوم تبتكر مفاهيماً جديدة لمواكبة الواقع المتغير باستمرار، الذي لا يفتأ يطرح صعوبات جديدة تتطلب حلولاً، ومادة خام غنية بانتظار قولبتها وصياغتها ضمن أنماط وأطر فكرية متجددة. إذاً، يُعدُّ ابتكار المفاهيم جزءًا لا يتجزأ من بنية العلوم.
"الثورة" و"الثورة المضادة" هما مفهومان توظفهما العلوم السياسية، على الأقل ابتداءً من العصر الذي تلى الثورة الفرنسية، لتوصيف الانقلابات الجذرية في البنية السياسية أو البنية الاجتماعية/الاقتصادية من جهة، والمحاولات التي تقوم بها جهات محسوبة على النظام القديم، سراً أو علانية، لإعادة الأوضاع السابقة من جهة أخرى. فمثلاً، عُدت عودة الملكية في فرنسا عام 1815 كثورة مضادة من منظور ثورة عام 1789. أما في إنجلترا، فيُنظر عادة لعودة آل ستيوارت للحكم عام 1660 وإلغاء الجمهورية الذي تبعها كثورة مضادة بامتياز. دون أن ننسى طبعاً الثورات المضادة في الفترة الممتدة مابين عامي 1848-1849.
بعض الثورات المضادة باءت بالفشل، على عكس الأمثلة التي أوردناها، كمحاولة الجيش الأبيض في روسيا إبان الحرب الأهلية استئصال البلاشفة وإعادة القيصرية.
ويجدر الإشارة إلى أن استخدام هذين المفهومين، مثل العديد من المفاهيم الأخرى في العلوم السياسية، لا يخلو من التحيز النابع من ذاتية الكاتب، وانتمائه السياسي أو الطبقي. فحتى انقلاب الترميدور عام 1794، الذي نفذه الجناح المعتدل من البرجوازية الفرنسية للإطاحة بديكتاتورية اليعاقبة يعده البعض ضرباً من ضروب الثورة المضادة، ناهيك عن انقلاب نابوليون في برومير من عام 1799 (وفق التقويم الثوري)، الذي حافظ على إلغاء الملكية، كي يقيم إمبراطورية مكانها !!
قياس التطورات الأخيرة في بلد كسوريا، بعد قمع نظام الأسد للانتفاضة العفوية التي اندلعت عام 2011، والحرب بالوكالة التي استعرت مذّاك من منظور "الثورة" و"الثورة المضادة" يمثل عرضاً من أعراض العقم الذي أصاب الفكر اليساري في المنطقة العربية، و مظهراً من مظاهر الجمود والنزوع نحو قياس الجديد بالقديم.
يتعين علينا أولاً أن نُعاين مفهوم "الثورة" ذاته، لنُبيّن المعاني المختلفة التي ينطوي عليها، وذلك كي نتمكن من استيعاب مفهوم "الثورة المضادة" بشكل كامل، وإمكانية إسقاطه على الواقع السوري من عدمها، وسنستعين بأمثلة مما سُمّي بـ"الربيع العربي" لرسم صورة أكثر شمولاً.
-2-
الثورة، بالتعريف، هي أي تغيير جذري يحل على بنية أو ممارسة إجتماعية، دون تمييز. وعندما يطرأ تغيير جذري على البنيتين السياسية والاقتصادية-الاجتماعية، يمكننا الحديث عن ثورة سياسية في الحالة الأولى، وثورة اجتماعية في الحالة الثانية.
علاقة الإنسان بالطبيعة خضعت عبر التاريخ لإنقلابات جذرية أيضاً، على الصعيدين العملي والنظري، المتمثلين في تطور العمل والتكنولوجيا(أو التقنية) من جهة، وتراكم المعرفة النظرية على هيئة العلوم الطبيعية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يمكننا الإشارة إلى الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة العلمية، وغيرها.
بيد أن تناول موضوع الثورات السياسية يضيف بعداً إضافياً لتحليلنا، يدفعنا لتقديم مفاهيم إضافية افتقدها هذا التحليل في بدايته. فبادئ ذي بدء، ينكر التعريف الذي تبنيناه صفة الثورة عن العديد من المحاولات التاريخية التي فشلت في قلب النظام السياسي القائم رئساً على عقب، كالثورة الروسية عام 1905 مثلاً، التي شكّلت حركة عفوية واسعة النطاق، هدفها إقامة جمهورية تقوم على الاقتراع العام مكان القيصرية. ونستطيع في هذا السياق، اقتراح تعريف خاص للثورة السياسية على أنها أي حركة موجهة ضد الحكومة أو الدولة القائمة، تحظى بتأييد الأغلبية العظمى من الشعب.
يميز التعريف الأخير الثورة عن الانتفاضة، وهي مفهوم يُعبّرعن الهبّة التي قد ترافق الثورة السياسية، والتي إما أن تكون أقلوية، أو إما أن تمتد لتشمل غالبية الشعب. بإمكان الانتفاضة أن تكون عنيفة، كما هو الحال مع الانتفاضات المسلحة، أو سلّمية، في حالات العصيان المدني أو المظاهرات و الاضرابات. من الوارد أن يتمخض الانقلاب السياسي الجذري – أي الثورة السياسية – في بعض الأحيان عن انتخابات، أو شيء من هذا القبيل، فنكون بالتالي بصدد ثورة سياسية من دون انتفاضة.
وبالمقابل يمكن أن تقع انتفاضة دون أن تفضي لأي شكل من أشكال الثورة السياسية، كما هو الحال مع الانتفاضات ذات الطابع المحدود أو المحلي وغيرها.
كانت الأيام الأولى من المظاهرات الحاشدة ضد نظام الأسد أقرب إلى انتفاضات محدودة ذات مطالب محلية، وأحيانًا وطنية الطابع. لكن مع توسعها وانتشارها في مختلف المحافظات السورية كالنار في الهشيم، بدأت هذه الانتفاضة تكتسب تدريجيًا ملامح الثورة، لا سيما في ظل مشاركة الملايين في التظاهرات، وارتفاع سقف الشعارات والمطالب لتشمل قضايا تمسّ القطر السوري بأكمله. إلا أن الانتفاضة السورية فشلت في التحول إلى ثورة شعبية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ للأسباب التالية:
1- عدم اتساع رقعة المظاهرات لتشمل المدن السورية الكبرى ذات الغلبة والثقل الاقتصادي كحلب ودمشق، اللهم إلا في بعض الأحياء الشعبية والعشوائيات المقطونة من قبل الطبقات الشعبية المتضررة من السياسات الاقتصادية لنظام بشار الأسد، وهي ذات الطبقات المحركة للمظاهرات في عموم البلاد.
2- غياب الحد الأدنى البرنامجي والمطلبي القادر على توحيد القوى المختلفة المعارضة لنظام الأسد أو المشارِكة في الانتفاضة.
3- عدم وضوح واتّساق الرؤية، مع التركيز على الجانب السلبي التهديمي للعملية الثورية، المتمثل بشعار "إسقاط النظام" (في الحقيقة، رأس النظام)، دون طرح نظرة تعبر عن الجانب الإيجابي البّناء الذي يعكس الهدف المأمول من الانتفاضة مثل " إقامة جمهورية ديمقراطية"، "تنظيم انتخابات حرة"، "تغيير الدستور"، إلخ.
4- بروز الجهاديين والفصائل المسلحة على الساحة، وتنفيذهم لأجندات مموليهم الإقليميين، وبالتالي تحول الانتفاضة إلى حرب بالوكالة بين داعمي النظام من جهة، وممولي الفصائل من جهة أخرى، ودخول البلاد حينها في طور جديد باتت فيه قوى متعددة تحارب النظام لأهداف متباينة.
أولئك الذين أصّروا على التعامل مع الأحداث السورية على مدى الأربع عشرة سنة الأخيرة من منظور "الثورة" يتجاهلون حقيقة تحول الحالة السورية إلى حرب أهلية مكتملة الأركان، وبالتالي، بطّلان تصوراتهم عن "الثورة المضادة"، التي غدت تهمة وشتيمة يرشقها البعض بوجه "الفلول" ومخلفات النظام، والبعض الآخر بوجه تنظيم القاعدة و رأس السلطة الحالية في دمشق، وكأن هذا الأخير بونابرت أو عضو من أعضاء حكومة المديرين التي وضعت حداً للحماس المتدفق والفائق الثورية عند السان كولوت.
-3-
لنتاول مثالي مصر وتونس إبّان "الربيع العربي"، فلعلّهما يقدّمان معياراً تأويلياً أو إطاراً مرجعياً يساعد على فهم الحالة السورية بصورة أوضح، وذلك بالنظر إلى تمايزهما السياقي عن الأحداث السورية في الفترة ذاتها.
ماذا يقدم مثالا مصر وتونس من فائدة في تحليل الوضع السوري ومآلات الانتفاضة بعد خمس عشرة عاماً من اندلاعها؟
في اعتقادي، تُظهرالانتفاضة التونسية، وخصوصاً المصرية، الشروط التي تتيح لأي انتفاضة عفوية التحول إلى ثورة شعبية، بغض النظر عن الهزيمة اللاحقة لهذه الثورة : إذ علينا ألا نخدع أنفسنا، فالثورة في مصر وتونس فشلت في تحقيق أهدافها.
أسباب الفشل غدت واضحة منذ اليوم الأول لكل ذي بصيرة، وسنمرّ عليها في هذه الفقرة مروراً سريعاً كي لا نبتعد عن مضوعنا الأساسي.
الثورة المضادة في مصر – وهي مفهوم قابل تماماً للإسقاط على الحالة المصرية – انتصرت لأن الثورة ذاتها كانت متواضعة، و آثرت التوقف في بداية الطريق. إذا أعتبر المتظاهرون آنذاك أن النظام القديم قد سقط بمجرد تنحي حسني مبارك، فقبلوا بتسليم السلطة الانتقالية بكاملها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
إلا أنهم تناسوا، بفعل هذا القرار، أن الحاكم الفعلي في مصر هو الجيش، الذي لم يجد غضاضة في تنصيب حسني مبارك جديد على هيئة عبد الفتاح السيسي، ليتمكن من استعادة سلطته كاملة. والحق أن الجيش كان المتحكم والمحرك، الخفي والعلني، للخيوط في الفترة التي تلت تنحي مبارك، واستمرت حتى انتخاب مرسي. ويمكن الاستشهاد في هذا السياق بالإعلان الدستوري الذي صاغه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في شباط من عام 2011 والتعديل الذي أصدره بخصوص قانون الانتخابات في العام نفسه.
السبيل الوحيد لدفع الثورة إلى الأمام كان تشكيل حكومة مؤقتة مؤلفة من ممثلي القوى الثورية مباشرة، يناط بها تفكيك النظام القديم والتخلص من أعمدته، وعلى رأسهم كبار القادة العسكريين والبيروقراطيين الذين خدموا في عهد مبارك، بالإضافة إلى تطهير الاقتصاد المصري من المستفيدين من النظام القديم، وتطبيق جملة من الإصلاحات الاقتصادية، فضلاً عن صياغة قانون انتخابي عصري قائم على قاعدة التمثيل النسبي، عوضاً عن المهازل الانتخابية والمسرح الكاريكاتوري "الديمقراطي" الذي شهدته مصر ما بين عامي 2011-2012. إلا أن ذلك كله كان يتطلب مواجهة مباشرة مع الجيش، كان من الممكن أن تؤدي إلى اشتعال حرب أهلية في مصر، وهو الشيء الذي لم يكن أحد يرغب فيه.
الثورة التونسية استطاعت تجاوز بعض المحدوديات التي فرضتها الثورة المصرية على نفسها. فعملية كتابة الدستور، والقانون الانتخابي الذي أفرزه المسار الانتقالي كانتا أكثر رقياً من مثيلتهما في مصر، بغضّ النظرعن العيوب التي اعرتهما.
فبينما حافظ مرسي على نظام تعيين المحافظين من قبل رئيس الجمهورية – أي على شكل الدولة الأحادية -المركزية بشكلها الأكثر تطرفاً - ، نصّ الدستور التونسي لعام 2014 على أن السلطة تُمارس، بالإضافة إلى المستوى الوطني (المركزي)، على المستوى المحلي، عن طريق مجالس منتخبة بالاقتراع العام. إلا أن غياب التمويل، وغلبة الساسة المحليين والمستقلين على العملية الانتقالية، محلياً ووطنياً، أجهضا تجربة الإدارة المحلية في مهدها. فبالنسبة للمواطن التونسي العادي، ما قيمة النظام الديمقراطي بالمقارنة مع ديكتاتورية بن علي، إن لم يسمح له ببناء مستشفى أو مدرسة جديدة في حيه أو بلدته؟
بإمكاننا القول، في المحصّلة، بأن التحول الثوري في تونس فشل بسبب استنكاف السلطة الانتقالية عن تطهير جهاز الدولة من عناصر النظام السابق، وإمتناعها عن السير في طريق الإصلاح الاقتصادي الجاد.
وعلى الرغم من هذه المثالب، كشفت هاتان التجربتان التباين الكبير بين وضع مصر ودول شمال أفريقيا من جهة، وسوريا من جهة أخرى.
أولاً، السقف المطلبي عموماً كان أكثر ارتفاعاً في هذين البلدين، وأنا لا أتحدث هنا عن شعار إسقاط النظام، الذي رُفع أيضاً في سوريا، وإنما عن النضج والوضوح المتجلي في صياغة وطرح مطالب وبدائل معقولة.
ثانياً، النظامان التونسي والمصري كانا متقدمين بمراحل على النظام السوري، رغم ديكتاتوريتهما القمعية. إذ لم تكن أحزاب المعارضة المصرية مثلاً ممنوعة أو قائمة على التنظيم السري، بل كانت علنية، وإن كانت غير قادرة على إجهار معارضتها لنظام الحكم بسبب الرقابة. وإذا ما استثنينا جماعة الإخوان المسلمين، التي كان أعضاؤها يشاركون في الانتخابات البرلمانية بصفتهم مرشحين مستقلين، كانت الأحزاب السياسية تشارك في الانتخابات الشكلية دون أن تضطر لأن تنضوي تحت جناح الحزب الحاكم.
ثالثاً وأخيراً، الجيش المصري كان ومازال عبارة عن مؤسسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ لا يقتصر دوره على كونه مجرد أداة قمع بيد الطبقة الحاكمة، بل يمتد ليشمل الاقتصاد حيث يملك استثمارات عدة في كافة القطاعات.
رئيس الجمهورية في مصر هو القائد العام للقوات المسلحة ويمارس أعلى السلطات في البلاد. ورغم ذلك، يبقى الجيش كيان أو تشكيلة أكبر من قائدها، يعود فيها الولاء، في نهاية المطاف، للتشكيلة بأكملها وليس لفرد من الأفراد.
كل ما تقدم يسلّط الضوء على تفرّد الحالة السورية ويُبرز خصوصياتها بشكل جلي.
فبادئ ذي بدء، طرأ في سوريا تحولٌ تاريخي وذو دلالة على جهاز الدولة القمعي ككل. وأقصد ب"الجهاز القمعي" الشرطة، والجيش، وأجهزة المخابرات، وغيرها من الأجهزة المُمَارِسة للعنف الجسدي المباشر. فبدلاً من أن يتمتع الجيش باستقلال وطابع مؤسساتي يجعلانه الحاكم الفعلي في البلاد، تحوّل هذا الأخير إلى أداة تابعة، مهمتها الأساسية الدفاع عن رأس نظام، أو ممارسة النهب الممنهج، كما حصل في لبنان، أو خلال الحرب الأهلية السورية (ظاهرة "التعفيش" خير مثال على ذلك).
وقد حلت محل الجيش، من حيث الأهمية، تنظيمات وهيكال قمعية أخرى، أولها فروع المخابرات، التي غدت الممارس الرئيسي للعنف السلطوي في سوريا، وثانيها الميليشيات الرسمية و"الغير رسمية". ففي السبعينات والثمانينات، كان لدينا سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، وهي المسؤول الأول عن مجزرة حماة وقمع انتفاضة الطليعة المقاتلة. أما في عهد بشار الأسد، فقد برزت ميليشيات أخرى، على رأسها "حزب الله" والميليشيات الشيعية الحليفة.
هذا التطور يذكّر بصعود نجم الميليشيات الفاشية ك"الأقمصة السوداء" في إيطاليا موسوليني، وهي الجناح العسكري للحزب الفاشي، والتي باتت تضاهي أجهزة القمع الرسمية ،كالجيش، أهمية.
التفشي السرطاني للميليشاوية ولعسف فروع الأمن أفرزا خللاً عاماً في نظام صياغة المطالب وتقديمها للدولة. إذ باتت الدولة ترفض تلقائيًا أي مطلب يُرفع إليها، سواء من قبل الطبقات الشعبية، أو حتى من الطبقات المسيطرة اقتصادياً (إنما غير المشاركة في إدارة الدولة)، معتبرة أدنى مطلب يُقدم إليها بمثابة تحدٍّ مباشر لسلطتها المنبسطة على مجمل النواحي المجتمعية. فمثلاً، تعُد الدولة مطلباً بسيطاً كرفع الأجور في القطاع الخاص، أو تسجيل العاملين فيه بالتأمينات كخروج صريح عن سلطتها، حتى وإن جاء كردّ فعل على تمادي المنتفعين من نظام الفساد المعمم و"الانفتاح الاقتصادي" المزعوم.
كل ذلك يؤدي إلى ارتفاع كلفة التنظيم المستقل عن الدولة، سواء في النقابة، أو الحزب، أو التعاونية، إلخ. إذ أن مجرد محاولة تأسيس حزب غير منضوٍ ضمن "الجبهة الوطنية التقدمية" قد تودي بمنفذيها إلى سجنٍ لن يروا النور من بعده. ذا يتناقض بوضوح مع الحالة المصرية، إذ شهدت "ثورة يناير" دورًا محوريًا للإضرابات العمالية المندلعة في مختلف القطاعات الحيوية، التي ساهمت بشكل كبير في تسريع وتيرة الأحداث المؤدية إلى تنحي مبارك. ويسعى الكثيرون إلى طمس دور حركة "الاشتراكيين الثوريين" التروتسكية في تنظيم وتوجيه هذه التحركات العمالية، بالإضافة إلى دورها في دعم تأسيس النقابات المستقلة، مثل النقابة المستقلة للعاملين في الضرائب العقارية، التي كانت أول نقابة مستقلة تُؤسس في مصر منذ عقود، مما ساهم في كسر احتكار الدولة للعمل النقابي.
أما في سوريا البعثية/الأسدية ، فقد أدى تحول العنف المفرط إلى الشكل الوحيد الذي تُمارس السلطة من خلاله إلى اختفاء الاقناع والتوافق كتقنيات سلطوية ممكنة من الخارطة. فوجدنا أنفسنا في ظرف خاص يبتلع فيه القسر الهيمنة الثقافية، وتطغى فيه الأجهزة القمعية على كافة أجنحة الدولة الأخرى، كجهازها الإيديولوجي الممثل بالحزب الحاكم أو غيره.
ولأن الدولة في المجتمع الحديث، في علاقتها مع الطبقات الشعبية والطبقات المهيمنة وإنتاجها للذوات الاجتماعية، تحدد الشكل الذي تُخاض فيه الصراعات السياسية ضمن التشكيلة الاجتماعية، وبسبب غياب أي شكل من اشكال التمثيل، سواء كان نابعاً من جهاز الدولة الإيديولوجي ذاته (حزب البعث، النقابات الملحقة بالدولة)، أو من أي إطار تمثيلي آخر، تنفجر أزمة تتمثل في عدم قدرة الجماهير على توجيه مطالبها للدولة. وفي لحظة مفصلية وحساسة، كالأزمة الاقتصادية-الاجتماعية التي عصفت بسوريا في الفترة التي سبقت الانتفاضة الشعبية، تتحول أي محاولة للدفاع عن لقمة العيش أو نيل حيز من الحرية إلى ما يشبه حروب الفلاحين العنيفة ضد النبلاء في القرون الوسطى.
-4-
التحليل الذي سبق لا يأتي - عن قصد - على ذكر العامل الجيوسياسي، أو صراع الطوائف، أو التطرف الديني، وسواها من العوامل التي يكثُر الحديث عنها، ليس تجاهلًا لأهميتها أو انتقاصًا من قدرتها على تقديم أُطر تأويلية لفهم مآلات الحرب السورية. بل على العكس تماماً، لأن أهمية هذه العوامل تدفع الكثير من التحليلات الشائعة إلى إغفال عامل حاسم آخر، يتمثل في دور شكل جهاز الدولة السورية، والتحولات البنيوية التي طرأت عليه في تفسير الشكل العنيف والمتفجر الذي اتخذته الأحداث المندلعة منذ عام 2011. ويمكن تلخيص هذه التحولات في تغوّل جهاز الدولة القمعي، وانزياح مركز الثقل فيه من الجيش لصالح قوى الأمن والميليشيات الرسمية وغير الرسمية، بالإضافة إلى اختلال نظام تمثيل المطالب الشعبية عبر أجهزة الدولة.
المسار الدامي والمتناقض الذي اتخذته الأحداث في سوريا، والظواهر العجيبة التي أفرزته، يصعب قولبتها ضمن مفهوم "الثورة" و نقيضه، أي "الثورة المضادة". فما عُدّ "ثورة" لا يتعدى كونه مجرد مجموعة متناثرة من الانتفاضات المجهرية، التي لا تملك قاسماً مشتركاً سوى معارضتها لنظام الأسد. من تجربة روجافا، إلى ظهور داعش، والجيش الحر، والمظاهرات السلمية، وصولاً إلى انتصار بقايا تنظيم القاعدة في الثامن من تشرين الأول، نجد أنفسنا أمام ظاهرة فريدة تستدعي أدوات مفهومية جديدة، ومقاربات مغايرة تماماً لتلك التي اعتدنا استخدامها في توصيف الحراكات السياسية في المنطقة.
#محمد_السباعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟