نجاح محمد علي
سياسي مستقل كاتب وباحث متخصص بالشؤون الايرانية والإقليمية والارهاب وحركات التحرر
(Najah Mohammed Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 13:27
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
في مشهدٍ يبدو أشبه بصراع القوى الكبرى في روايةٍ من روايات الحرب الباردة الجديدة، خاضت الولايات المتحدة، تحت إدارة دونالد ترامب، حرب رسوم جمركية شرسة ضد الصين، لكنها انتهت بانحناء إجباري أمام الحقائق الجيواقتصادية، وعلى رأسها سيطرة الصين على سوق المعادن النادرة، التي تُعد العمود الفقري للتكنولوجيا المتقدمة والصناعات العسكرية.
من بايدن إلى ترامب: تصعيد بلا رؤية
رغم أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن هو من بادر بسياسات متشددة تجاه الصين، فإن ترامب في بداية ولايته الثانية صعد المواجهة إلى أقصى درجاتها، بفرض رسوم جمركية وصلت إلى 145% على المنتجات الصينية. لكنه تجاهل حقيقة أن أمريكا تعتمد بشدة على الصين في استيراد معادن نادرة تُستخدم في صناعة كل شيء: من الشاشات وأجهزة الكمبيوتر إلى المقاتلات والطائرات المسيرة.
ردّت الصين بقوة، ليس فقط من خلال رسوم مضادة، بل عبر حظر تصدير بعض المعادن الأساسية مثل الساماريوم والغادولينيوم والديسبروسيوم واللوتيتيوم وغيرها. هذه الخطوة أصابت العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة، وأربكت سلاسل الإمداد العالمية، وأدت إلى تقلبات حادة في الأسواق.
أوكرانيا: اللاعب الصامت الذي ظهر فجأة
وسط هذا الصراع، ظهرت أوكرانيا كورقة جيوسياسية جديدة. تملك أوكرانيا احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، تفوق 20 مليون طن، وهي من الأكبر في أوروبا. ورغم أن الحرب عطّلت استغلال هذه الموارد، إلا أن الغرب، خصوصًا الاتحاد الأوروبي، بدأ يدعم مشاريع أوكرانية للتنقيب والتطوير كجزء من استراتيجية تقليل الاعتماد على الصين.
ترامب، الواعي بهذه الإمكانيات، سعى إلى صفقة ثلاثية تشمل روسيا وأوكرانيا: إنهاء الحرب مقابل تسهيلات في استخراج تلك المعادن. لكنه واجه حقيقة مريرة أخرى: روسيا تسيطر على نحو 70% من قدرات استخراج هذه المعادن في الأراضي الأوكرانية والآسيوية. حتى لو خضعت أوكرانيا، فإن الحسم لا يكون إلا عبر تفاهم مع موسكو، التي تدرك قيمة هذه الورقة جيدًا.
أرباح للأثرياء وخسائر للشعب
خلال هذه الحرب الاقتصادية، تكشفت المفارقة المؤلمة: بينما حقق أثرياء أمريكا، مثل إيلون ماسك وتشارلز شواب، أرباحًا بمليارات الدولارات خلال تقلبات السوق، خسر المواطن الأمريكي العادي ما يعادل 35 ألف دولار نتيجة هبوط أسهم الشركات الكبرى، وانخفض مؤشر S&P 500 بخسائر بلغت 11 تريليون دولار خلال يومين فقط.
الاحتجاجات الشعبية انفجرت، والجمهوريون في الكونغرس تخلوا عن ترامب، الذي اضطر إلى تعليق الرسوم على العديد من السلع الصينية، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر والهواتف والتكنولوجيا الشمسية، دون أن يعلن تراجعه صراحة.
الصين: بحر لا يهتز
أما الصين، فقد أثبتت أنها ليست بركة صغيرة بل “بحر لا تهزه العواصف”، كما وصفها الرئيس شي جين بينغ في 2018. تمتلك الصين أكثر من 70% من إنتاج وتكرير المعادن النادرة عالميًا، وتُمسك بسندات خزانة أمريكية تتجاوز قيمتها 761 مليار دولار، وهي قادرة على إحداث زلزال مالي في أي لحظة.
والمفارقة أن الشعارات الأمريكية مثل “قاطعوا الصين” و”اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا” تُطبع على قمصان وقبعات مصنوعة في الصين، ما يعكس هشاشة الخطاب الأمريكي أمام واقع اقتصادي لا يُمكن تجاهله.
الخلاصة: دورة الانهيار
من الواضح أن الحرب الجمركية التي أشعلها ترامب لم تُفضِ إلا إلى نتائج عكسية:
• الاقتصاد الأمريكي تضرر.
• الشركات الأمريكية فقدت قدرتها التنافسية.
• المواطن الأمريكي دفع الثمن.
• الصين خرجت أقوى، وأكثر استعدادًا لقيادة الاقتصاد العالمي في قطاع التكنولوجيا المتقدمة.
وفي الخلفية، تقف أوكرانيا ككنز جيولوجي غير مستغل، رهينة لحرب جيوسياسية كبرى، لن تُحسم إلا بإعادة صياغة ميزان القوى العالمي.
قراءة تفصيلية للمشهد : المعادن النادرة: ورقة الضغط في النزاع التجاري والجيوسياسي بين أمريكا والصين
تدخل العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين مراحل متقدمة من التصعيد، حيث أصبحت المعادن النادرة – وهي مجموعة من العناصر الأساسية في الصناعات التكنولوجية والعسكرية والطاقة المتجددة – محورًا لصراع النفوذ. تُستخدم هذه المعادن في تصنيع أجهزة الهواتف الذكية والرقائق الإلكترونية، والبطاريات للمركبات الكهربائية، وغيرها من التطبيقات الحيوية. مع تزايد الطلب العالمي واعتماد الصناعات الحديثة عليها، تظهر المخاوف من هيمنة الصين على سلاسل التوريد العالمية لهذه الموارد، مما دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات لخفض هذا الاعتماد وتأمين الإمدادات.
أهمية المعادن النادرة واستخداماتها
تشكل المعادن النادرة مجموعة من 17 عنصرًا حيويًا تُستخدم في صناعات متعددة، مثل:
• الإلكترونيات والاتصالات: تُستخدم في تصنيع الرقائق الدقيقة والهواتف الذكية.
• الصناعات العسكرية: تدخل في صناعة أجهزة الرادار وأنظمة التوجيه.
• الطاقة المتجددة: تُستخدم في بطاريات السيارات الكهربائية وفي تصنيع ألواح الطاقة الشمسية.
• التقنيات الصناعية: تدخل في صناعة المكونات الكهربائية والإلكترونية ذات الدقة العالية.
يُعتبر تأمين هذه الموارد أمرًا ضروريًا لضمان تقدم التكنولوجيا والصناعات الدفاعية، وهو ما يجعلها تُعتبر أدوات استراتيجية ضمن النزاعات التجارية بين القوى الكبرى.
هيمنة الصين على إنتاج المعادن النادرة
بحسب تقارير استقصائية عدة من مصادر موثوقة رائدة ومراكز دراسات ومنصات متخصصة في الطاقة والاقتصاد، تنتج الصين ما يقارب 60–90% من المعادن الأرضية النادرة المعالجة عالميًا. تعود هذه الهيمنة إلى عدة عوامل:
• الاحتياطات الكبيرة والتعدين المنهجي: تمتلك الصين احتياطيات تُقدر بنحو 38% من الاحتياطيات العالمية لبعض العناصر النادرة.
• البنية التحتية المتقدمة: استثمرت الصين في تطوير تقنيات الفصل والتكرير، مما مكنها من الحفاظ على جودة منتجاتها والتنافس بأسعار منخفضة.
• السياسات الحكومية الداعمة: اعتمدت السلطات الصينية منذ عقود سياسات لتوفير الدعم المالي والضريبي لشركات التعدين والمحلية، إلى جانب فرض قيود على مشاركة الشركات الأجنبية في قطاع التعدين.
تساعد هذه العوامل الصين على تحقيق مكاسب استراتيجية في سوق المعادن النادرة، مما يجعلها المورد الرئيسي للعديد من الصناعات في جميع أنحاء العالم.
الإجراءات الأمريكية واستراتيجيتها لمواجهة الهيمنة الصينية
في إطار سياسة “أمريكا أولاً” التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتجهت الإدارة الأمريكية نحو استخدام أدوات تجارية لتحجيم اعتمادها على الواردات الصينية من المعادن النادرة. من بين الإجراءات التي اتُخذت:
• فرض رسوم جمركية مرتفعة: تم تطبيق تعريفات جمركية على بعض الواردات الصينية بشكل تصاعدي؛ حيث وصلت بعض الرسوم إلى نسب تجاوزت 100%.
• التحرك لتخزين المعادن الاستراتيجية: أطلقت إدارة ترامب مبادرات لتأمين مخازن استراتيجية من المعادن النادرة من خلال عمليات التعدين البحرية والمحلية؛ بهدف تقليل الاعتماد على مصادر خارجية.
• تشجيع تصنيع البدائل المحلية: تم دعم المشاريع الأمريكية لتطوير سلاسل إمداد بديلة، مثل التعاون مع شركات الدول الأسترالية والآسيوية، بهدف زيادة الإنتاج المحلي لصناعة هذه المعادن.
وتُظهر تقارير مثل تلك التي نشرتها “فايننشال تايمز” و”Econ-Pedia” أن هذه السياسات جاءت ردًا على الإجراءات الصينية مثل فرض قيود على تصدير عناصر كالغاليوم والجرمانيوم؛ وهو ما أثار مخاوف في واشنطن بشأن استمرارية التوريد الحيوي.
التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية
على الصين:
• تأثير القيود الصينية: مع زيادة القيود على تصدير بعض المعادن النادرة، قد تتعرض الصين لضغوط للحد من صادراتها في مواجهة الرسوم الأمريكية. ومع ذلك، فإن الصين تملك احتياطات استراتيجية ضخمة، وتمتلك شبكة واسعة من العلاقات التجارية العالمية تُؤمن لها بدائل في حالة حدوث اضطرابات.
• ردود الفعل الدولية: قد يدفع تصاعد التوترات التجارية الدول الأخرى إلى تنويع مصادر الإمداد والبحث عن بدائل للتقليل من الاعتماد على الصين، مما قد يؤثر على موقف الصين في السوق العالمي.
على الولايات المتحدة:
• فوائد محتملة: يُمكن أن تساهم الإجراءات الأمريكية في دعم الصناعات المحلية وتشجيع الابتكار وتقليل العجز التجاري في بعض القطاعات، كما تُدر عائدات إضافية للخزينة الأمريكية.
• تحديات اقتصادية: من المحتمل أن ترتفع أسعار السلع للمستهلكين نتيجة نقل تكاليف الرسوم الجمركية إلى المستهلك النهائي، كما قد يؤدي ارتفاع تكاليف المواد الخام إلى زيادة تكاليف الإنتاج في الصناعات الحيوية. هذه العوامل قد تضع ضغوطًا على الاقتصاد الأمريكي وترفع من تكلفة سلاسل التوريد.
على التجارة العالمية:
• إعادة تشكيل سلاسل الإمداد: قد يؤدي الضغط المتبادل على الصين والولايات المتحدة إلى نشوء تحالفات اقتصادية جديدة على المستوى الإقليمي والدولي، وقد يُفضي ذلك إلى إعادة تنظيم النظام التجاري العالمي وإعادة توزيع الأدوار بين القوى الكبرى.
• زيادة عدم الاستقرار: يمكن أن تؤدي هذه السياسات الحمائية إلى اضطرابات مفاجئة في الأسواق المالية والعالمية، مما يحفّز الدول على تبني سياسات تكامل إقليمي جديدة للحد من المخاطر المرتبطة بنقص الإمدادات الحيوية.
عموماً، تشير الحقائق على الارض إلى أن المعادن النادرة أصبحت الآن ورقة ضغط استراتيجية في الصراعات التجارية والجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين. في حين تواصل الصين الحفاظ على هيمنتها في إنتاج ومعالجة هذه الموارد الحيوية، تسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتأمين إمداداتها من خلال فرض رسوم جمركية وتشجيع التنويع في سلاسل التوريد. يبقى السؤال المفتوح هو: إلى أي مدى ستتمكن الولايات المتحدة والصين من تحقيق أهدافهما الاستراتيجية دون أن تتسبب تلك السياسات في اضطرابات غير مسبوقة في النظام الاقتصادي العالمي؟
بالتاكيد ، يتطلب ذلك مراقبة مستمرة وتحليلاً دقيقاً للتحركات التجارية والسياسية في الأشهر القادمة، حيث يعتبر التوازن بين حماية المصالح الوطنية والحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي تحديًا كبيرًا في عصر العولمة.
لكن أين أوكرانيا من هذا الصراع ؟
و لأن أوكرانيا ليست بعيدة عن صراع المعادن النادرة، بل يمكن اعتبارها أحد “اللاعبين الصامتين” الذين بدأوا يبرزون في خلفية هذا التنافس العالمي.
أوكرانيا والمعادن النادرة: إمكانيات كامنة ودور جيوسياسي
1. احتياطات استراتيجية واعدة
أوكرانيا تملك كميات كبيرة من المعادن النادرة والتربة النادرة في أراضيها، خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية. وفق دراسات أوروبية، تحتوي أوكرانيا على أكثر من 20 مليون طن من الاحتياطيات القابلة للاستخراج من العناصر الأرضية النادرة، ما يجعلها واحدة من أكبر الاحتياطيات في أوروبا، إلى جانب دول مثل السويد.
2. اهتمام غربي متزايد
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، أبدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اهتمامًا متزايدًا بهذه الموارد، خاصة أن أوروبا تعتمد بنسبة تفوق 90% على الصين في هذا القطاع. لذلك، بدأت بروكسل وواشنطن في تمويل ودعم مشاريع استكشاف وتطوير المناجم في أوكرانيا، لا سيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة كييف.
3. ورقة في الحرب الجيوسياسية
المعادن النادرة في أوكرانيا لا تُعتبر فقط مصدرًا اقتصاديًا، بل ورقة في الصراع الجيوسياسي:
• روسيا كانت على علم بذلك، وبعض التقديرات تُشير إلى أن السيطرة على موارد الطاقة والمعادن النادرة كانت ضمن الحسابات الاستراتيجية لغزو بعض مناطق أوكرانيا.
• الغرب يرى في أوكرانيا فرصة لفك الارتباط عن الصين وروسيا، وتطوير “سلاسل توريد صديقة”، كما عبّر مسؤولون في الاتحاد الأوروبي.
4. التحديات أمام الاستغلال الكامل
رغم الإمكانيات الهائلة، يواجه قطاع المعادن في أوكرانيا عدة معوقات:
• الحرب المستمرة تُعرقل الاستثمار والبنية التحتية.
• المناطق الغنية بالمعادن تقع أحيانًا قرب خطوط الجبهة أو في مناطق محتلة.
• نقص التكنولوجيا الحديثة لاستخراج وفصل العناصر النادرة.
أوكرانيا تمثل في هذا الصراع عنصرًا استراتيجيًا مهمًا لكنه غير مفعل بالكامل بعد. إذا تمكنت من تجاوز تحديات الحرب، فقد تُصبح لاعبًا رئيسيًا في سوق المعادن النادرة، وهو ما قد يُعيد رسم خريطة النفوذ العالمي في هذا القطاع الحيوي، ويُقوّي من موقفها التفاوضي مع الغرب على المدى الطويل.
#نجاح_محمد_علي (هاشتاغ)
Najah_Mohammed_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟