رشيد عوبدة
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 02:53
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
منذ دخول المرسوم رقم 2.24.140 المتعلق بالنظام الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية حيز التنفيذ، أزيح الستار عن إحدى أكثر الإشكاليات تركيبا داخل المشهد التربوي المغربي، يتعلق الأمر بوضعية "المختصين التربويين"، الذين يجدون أنفسهم في قلب "منطقة رمادية" تجمع بين الاعتراف القانوني والغموض الوظيفي، بين شرعية التسمية وانعدام المضمون الإجرائي. إننا إزاء بنية تتأرجح بين الانتماء إلى هيئة التربية والتعليم – كما تنص على ذلك المادة 10 من المرسوم 2.24.140 حيث يعد أطر المختصين التربويين منتمين لهيئة التربية والتعليم – وبين غياب واضح لأي تصور بيداغوجي أو تنظيمي يؤطر أداء هذه الفئة.
لقد نصت المادة 15 من نفس المرسوم على: المواكبة التربوية والتوثيق؛ الإشراف على المختبرات المدرسية؛ الإشراف على المكتبات المدرسية؛ المشاركة في الأنشطة التربوية والأنشطة الموازية المتعلقة بالمجال التربوي، غير أن غياب التفصيل العملي لهذه المهام خلق فراغا تأويليا انعكس على الممارسة اليومية. هذا التردد في الحسم فتح المجال لتفاوتات في تنزيل الأدوار داخل المؤسسات التعليمية، وأربك صلاحيات التدبير الإداري لرؤساء المؤسسات، الذين يخول لهم المرسوم 2.02.376 مهمة مراقبة وتقييم أداء جميع العاملين، غير أنهم يواجهون في حالة المختص التربوي حدودا قانونية وأخلاقية في تحديد سقف السلطة الإدارية، خشية الوقوع في الشطط أو التأويل المعيب والمغرض.
ويبرز القرار الوزاري رقم 064.22 الصادر بتاريخ 19 يوليوز 2022 مهام الملحقين التربويين – الذين أصبحوا يعرفون بالمختصين التربويين فيما بعد – في:
1. المهام التربوية والتواصلية:
- المساهمة في الأعمال الإدارية المتصلة بتسجيل التلاميذ ومسك نقط المراقبة المستمرة والامتحانات المدرسية؛
- مرافقة ودعم التلاميذ ذوي الإعاقة (المساعدة التربوية، المساعدة على التنقل، التعامل مع المعدات المدرسية)؛
- مساعدة الأساتذة في إنجاز دروس الدعم التربوي، حراسة الفروض، ودروس التعليم عن بعد؛
- المساهمة في تنظيم المباريات والامتحانات المدرسية وامتحانات الكفاءة التربوية والمهنية، والمشاركة في لجان الحراسة؛
- المساهمة في عمليات التعبئة والتواصل حول المؤسسة التعليمية؛
- المساهمة في المداومة خلال العطل المدرسية؛
- العمل على احترام المتعلمات والمتعلمين للنظام الداخلي للمؤسسة التعليمية؛
- المشاركة في المحافظة على النظام والانضباط بالمؤسسة التعليمية، مراقبة التلاميذ أثناء الاستراحة أو بالقسم الداخلي والمطعم المدرسي، وضبط الدخول والخروج وتسجيل وتوثيق الغياب؛
- ضمان الأمن داخل المؤسسة التعليمية وحماية صحة التلاميذ.
2. المهام المتعلقة بالحياة المدرسية
- المساهمة في تنظيم وتتبع أنشطة الحياة المدرسية؛
- المساهمة في إعداد وتنفيذ وتتبع مشروع المؤسسة؛
- المشاركة في الأنشطة الثقافية والفنية العامة التي تنظم في إطار إشعاع المؤسسة وانفتاحها على محيطها الاقتصادي والاجتماعي.
3. مهام التوثيق والأرشيف:
- القيام بالأشغال العادية للمكتبة المدرسية، مثل ترتيب وحفظ المستندات والكتب والوثائق (ترقيم الكتب، حفظها، إعارتها، تلخيص مواضيعها، وضع بطاقات لتسهيل الاقتناء)؛
- تسيير وتنشيط المكتبة المدرسية بغض النظر عن نوعها؛
- المحافظة على الكتب والسهر على صيانتها، وتحرير وتجديد قوائم الكتب والعمل على إغنائها؛
- تقديم المشورة للتلاميذ حول القراءات الملائمة لاحتياجاتهم وانتظاراتهم؛
- إرشاد التلاميذ والطلبة ومساعدتهم على إنجاز بحوثهم.
غير أن هذه المهام، وإن بدت ظاهريا شاملة، تفتقر إلى التحديد التخصصي وتبقى مفتوحة على قراءات متعددة قد تفضي إلى تداخل أو حتى صراع تأويلي بدل تكامل وظيفي.
أما النظام الأساسي الجديد، فعلى الرغم من إدراجه للمختص التربوي ضمن هيئة التربية والتعليم، لم يقدم تصورا دقيقا محينا لمهامه. وهو إدراج قانوني لم يصاحبه إعداد تنظيمي وتكويني يواكب هذا التحول، ما جعل الفئة تعيش نوعا من القلق المهني والاغتراب المؤسساتي، في ظل فجوة واضحة بين التسمية والأداء، وبين الاعتراف والانخراط الفعلي في المشروع التربوي الوطني.
وبالنظر إلى المقارنة بين مقتضيات القرار الوزاري 064.22 ومضامين المرسوم 2.24.140، يتضح غياب التحيين الوظيفي الذي يستحضر تحولات المنهاج الدراسي الجديد ومنطق التدبير المرتكز على النتائج. فالمهام المحددة في القرار الوزاري لا تشمل، مثلا، تأطير الدعم التربوي المندمج، أو الإشراف على مشاريع المؤسسة المندمجة، أو المساهمة في التقويم التربوي بمختلف أشكاله (تكويني، اجمالي، مراقبة مستمرة...)، أو مواكبة التعلمات الأساس بناء على تشخيص بيداغوجي. وهو ما يفضي إلى تهميش محتمل لهذه الفئة وتقليص أثرها المهني داخل الفضاء المدرسي.
إن النشأة التاريخية لهذه الفئة لم تنبع من تخطيط تربوي بنيوي، بل كانت، في مراحلها الأولى، محكومة بمنطق الترضيات الإدارية أو التدبير الفئوي لبعض الوضعيات الاجتماعية، وقد تم استثمارها – أحيانا – ضمن سياقات انتخابية أو تفاوضية لا تخلو من مناورات سياسية. وهو ما يفسر جزئيا استمرار حالة التماطل والغموض التي تكتنف مهامها اليوم، حيث يبدو أن التأجيل في الحسم لم يكن نتيجة بطء إداري فحسب، بل تعبير ضمني عن إرادة مقصودة للحفاظ على هامش رمادي قابل للاستغلال.
ومن مظاهر هذا التوظيف غير المنتج، أن الفئة تحولت في بعض السياقات إلى موضوع تجاذب بين أطراف مختلفة، بما فيها بعض الإطارات النقابية التي، وإن كانت تضطلع بدور أساسي في الدفاع عن الحقوق وتحسين الأوضاع المهنية، إلا أن دعمها لبعض المطالب دون ربطها برؤية واضحة للوظائف قد يسهم – بغير قصد – في تكريس الغموض عوض رفعه. إن النقاش الموضوعي لا ينبغي أن يستبطن تحميلا سياسويا أو إصدارا للأحكام، بل التزاما بمقاربة شمولية تنطلق من مصلحة المدرسة العمومية.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في وضعية المختص التربوي ليس فقط من باب تسوية الوضعيات، بل من أجل تأسيس هندسة وظيفية عادلة ومنسجمة، تعيد بناء المعنى داخل المنظومة التربوية. فالمدرسة ليست مجالا لتوزيع التسميات أو تدبير فائض الموارد البشرية، بل فضاء لإنتاج المعنى والتكوين وتكريس المواطنة. وإدماج أي فئة ضمن هيئة التربية والتعليم يجب أن يواكب برؤية دقيقة تحول الانتماء القانوني إلى أثر مهني واضح، يترجم الحق في الواجب، ويعيد ربط التسمية بالوظيفة.
وإذا كانت أزمة المهام تعد لب الإشكال، فإن جذورها تتجاوز الممارسة اليومية لتلامس بنية المراقبة والمساءلة ذاتها. فالمختص التربوي، عكس باقي أطر هيئة التعليم، لا يخضع لتأطير تربوي مؤسسي، ولا لآلية تفتيشية واضحة، ولا لمرجعية تنظيمية تستوعب مهامه وتقيم أثره. وهو ما يطرح مفارقة قانونية ومهنية في آن واحد: كيف يمكن لهيئة ممولة من المال العام، أن تظل بمنأى عن آليات التتبع، والمساءلة، والتأطير؟ وأين تتموقع الجهات الرقابية والتأطيرية أمام فراغ تنظيمي يجعل من رصد الأثر واستشراف العائد ضربا من العبث الإداري؟
إن المنظومة التربوية لن تحقق النجاعة المطلوبة ما لم تبادر إلى صياغة ميثاق وظيفي جديد، يؤسس على قيم المسؤولية والمردودية والوضوح القانوني، وينهي حالات الالتباس والازدواجية في المواقع والمهام. فالإصلاح الحقيقي لا يكون إلا حين تعاد هيكلة الأدوار بما ينسجم مع متطلبات الزمن المدرسي الراهن، ويعلي من شأن الجدارة والكفاءة كمعيار للانتماء والاعتراف.
المؤسسات التعليمية في حاجة اليوم إلى تعاقد وظيفي جديد يربط الحق بالواجب، ويخرج المؤسسة من منطق التدبير الارتجالي إلى أفق الحكامة التربوية الرشيدة، حيث لا مجال للفراغات القانونية، ولا مكان للمواقع الغائمة.
إضافة إلى ذلك، تتجلى أزمة هوية المختص التربوي بشكل أكثر وضوحا حين يلاحظ أن كثيرا من المختصين التربويين الجدد، لا يبدون اقتناعا راسخا بمهامهم الأصلية، وهو ما يتجلى في سعيهم المتكرر نحو طلبات تكليف بمهام إدارية صرفة، في تعبير ضمني عن رفضهم الاندماج في هوية وظيفية غير واضحة. هذا الميل نحو الاشتغال الإداري لا يفهم فقط كخيار فردي، بل كدليل على هشاشة التكوين وغموض الدور، خصوصا وأن أغلب الخريجين الجدد لم يخوضوا تجربة الفصول الدراسية، ولم يتعاملوا مع الوضعيات التعليمية الحقيقية، ما جعل علاقتهم بالواقع التربوي تفتقر إلى الشرعية التكوينية والميدانية. وهذا الوضع يعكس انفصاما داخليا، اذ يظهر طلبهم المتكرر لتكليفهم بمهام إدارية ميلا نحو العمل الإداري، ويغفل تماما الدور البيداغوجي الذي ينبغي أن يتمحور حوله عملهم داخل المؤسسة التعليمية.
هذه الفجوة بين التسمية والمهام هي في جوهرها أزمة هوية مهنية. فالمختص التربوي، بدلا من أن يشكل جزءا من الهيئة التربوية الفاعلة في بناء المعرفة وتنشيط الحياة المدرسية، أصبح في بعض الأحيان مجرد موظف يتطلع إلى العمل الإداري في مقابل ساعات عمل مخففة، الأمر الذي ساهم في فقدان حقيقي لهويته المهنية التي كانت في الأصل مرتبطة بتحقيق الأهداف التربوية داخل الفصل الدراسي.
هذه الإشكالية ليست سوى تجسيد آخر للخلل الذي يعانيه النظام التربوي في ربط التسمية بالممارسة. وقد آن الأوان لطرح السؤال الأساسي: ما جدوى إدماج فئة مثل "المختص التربوي" ضمن هيئة التربية والتعليم إذا لم تسند لها مهام واضحة تقاس بالإنجاز وتتابع أثارها على المتعلمين؟ وما جدوى هذه التسمية إذا لم يُحدد الاختصاص بدقة ويربط بمخرجات قابلة للقياس ومسارات خاضعة للمساءلة المهنية؟ فالارتقاء بمستوى المختص التربوي لا يتحقق إلا بتحديد مهامه بدقة، حتى يتسنى اجراء تقييم موضوعي ومستمر له.
#رشيد_عوبدة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟