|
محنة الديمقراطية والوطنية في مشروع بناء الدولة العربية
نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري
(Nayf Saloom)
الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 16:49
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
منذ نشوء أول دولة في سوريا سنة 1918 -1920 كان الصراع بين مشروع الامة أو مشروع بناء الجماعة الوطنية المتراصة ومشروع الدولة القطرية هو السائد. خلال القرون الأربعة من الحكم العثماني لسوريا كان المسؤولون يرسلون من استنبول لإدارة مدن المحافظات، ومنها كانوا يديرون الأقاليم التابعة وتقسيماتها الإدارية (فيليب خوري: سياسة دمشق 186-1920) كان لعوامل بعيدة المدى كإعادة التكوين العثماني (الاصلاحات) والتوسع الاقتصادي الأوروبي وتحول الزراعي (من الاقتصاد الاسري) باتجاه التجارة في سوريا، أن تشجع ظهور شبكات من العائلات النافذة محلياً في دمشق والمتنافسة والمختلفة والمتمايزة اجتماعياً، لتكون لاحقاً طبقة عليا متماسكة اجتماعيا. ولقد أنتجت هذه الطبقة من ملاك الأراضي والبيروقراطيين (الموظفين الحكوميين الكبار)، في ظل سلطة عثمانية مركزية متزايدة النشاط، زعامة مدينية جديدة سيطرت على السياسة المحلية بعد عام 1860." (خوري) لم تكن الطبقة الجديدة تستمد شرعيتها ونفوذها في الحكم من القاعدة الشعبية، بل من رضا المركز العثماني على سلوكها السياسي. وعلى الرغم من أن هذه الزعامة لم تواجه أية تحديات جدية من الطبقات التي هي أدنى منها في السلّم الاجتماعي (لأن كل عائلة نافذة كان لها ولاءات شخصية)، فإنها لم تكن متحررة من النزاعات الداخلية " عبرت هذه الانشقاقات عن نفسها أيديولوجيا بعد أن هزت ثورة تركيا الفتاة 1908 أركان التوازن الراسخ للقوى بين النخب العربية المحلية والسلطات التركية في المركز. لقد فقد عدد من الزعماء المحليين في دمشق مناصبهم وعانوا خسارات مادية بتأثير الإصلاحات المركزية وسياسات "التتريك" التي اتبعتها جماعة تركيا الفتاة. كانت هذه الجماعة المستاءة من أعيان المدن السورية هي التي التقطت فكرة العروبة التي توفرت مؤخراً وجعلت منها أداة أيديولوجية (وظيفية) تعيد بها ترسيخ موقعها السياسي كطبقة حاكمة. في عهد الدولة العربية قصيرة الاجل التي أنشأها الأمير فيصل في سوريا ما بعد الحرب العالمية الأولى (1918-1920) نلاحظ استمرار النزعة الانشقاقية بين الجماعات المتنازعة من أعيان المدينة والمعبر عنها أيديولوجيا بالعروبة. لكن وبرغم اتساع حجم الحركة القومية العربية لتضم مدن رئيسية في الداخل، وبرغم كونه أصبحت للأعيان القوميين الآن اليد العليا في السياسة، لم تكن الحركة القومية العربية متجانسة فكانت شيئاً يشبه المسيحية المبكرة في انقسامها إلى كنيسة الختان ذات الأصول اليهودية والكنيسة العالمية ذات الأصول الإسكندرية (القبطية-اليونانية)، فقد انحدر القسم الأول من القوميين من الاعيان المتضررين من سياسات التتريك والمنشقين عن العثمانوية، بينما جاء الفريق الثاني من مصدر حجازي شريفي مفعم بالأمل الذي قطعته بريطانيا للشريف حسين في بناء خلافة عربية يحكمها أولاده . ومع ذلك لم يرق الامر لفرنسا التي وجدت في مشروع تشكل أيديولوجيا أمة عربية أمراً مناهضاً لطموحاتها الامبريالية، وكذلك الامر بالنسبة لبريطانيا التي كانت تتآمر مع فرنسا على افشال الوعد المقدم للشريف حسين عبر تقسيمات سايكس بيكو الاستعمارية الغربية وعبر وعد بلفور لليهود بخصوص فلسطين. لم تمض إلا فترة قصيرة حتى قامت فرنسا باحتلال سوريا 1920 وضبط هذا التوجه حياة جيل بكامله من السوريين والسياسة السورية. كان أعيان دمشق يلعبون دور الوسيط بين المجتمع المحلي ذي الولاءات الشخصية لعائلات الاعيان بحيث كانت هذه المجتمعات المحلية محرومة من الالتقاء الافقي مع الحارات والاحياء الدمشقية الاخرى حتى بداية الحرب العالمية الثانية. كان الحكام العثمانيون يعتبرون غرباء عادة، وكثيراً ما كانوا يبقون على مسافة من الشعوب التي حكموها، وما كانوا يتكلمون العربية، وكثيراً ما كان رؤساء هؤلاء الحكام في عاصمة الإمبراطورية يفرضون قيوداً على "عمالهم" في الأقاليم العربية كمنعهم من أن تكون تحت تصرفهم القوة اللازمة لفرض السيطرة المطلقة على المدن والارياف. وبالتالي فقد كان على هؤلاء العمال الحكام أن يستخدموا العناصر المحلية ذات الاستقلال السياسي والنفوذ الاجتماعي لاستكمال أو تمويه السلطة التي يستمدونها من استنبول ولسد الثغرات في معرفتهم وخبرتهم المحلية. وأدت الحاجة إلى تعيين المصادر المحلية ذات النفوذ إلى السماح لنوع معين من السياسيين بالبروز، الامر الذي منح الحياة السياسية في سوريا درجة من الاستقرار والاستمرارية. وبقيت هذه الطريقة السياسية عاملة (شغالة) طوال العهد العثماني (وكانت قد بدأت في عهد أبكر في عهد المماليك) لكنها أصبحت أكثر حيوية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولقد سمى ألبرت حوراني هذه الطريقة بـ "سياسة الاعيان"، نظراً لأن الاعيان أو الاسياد كانوا يشكلون المصادر المحلية للنفوذ في المدن السورية، المعترف بها والمستفاد منها لدى الحكام المفروضين من الخارج." (خوري) سوف تستمر هذه السياسة (سياسة الاعيان) في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا. وهذه الاستمرارية بحاجة إلى تفسير. (خوري: سوريا تحت الانتداب) يقول خوري: "على الرغم من جميع مظاهر الاضطراب الجارف والعنيف، وعلى الرغم من كل الشكوى والغضب الداخليين "، لم يكن ثمة انقطاع حاد في الحياة السياسية لسورية، أو في أشكال العمل السياسي وأهدافه، أو في اللاعبين أنفسهم خلال الانتداب الفرنسي. وفعلاً كان ثمة درجة ملحوظة من الاستمرارية في ممارسة السلطة السياسية المحلية في سوريا، رغم الانقطاع الذي سببه انحلال الإمبراطورية العثمانية. فإلى حد بعيد كان الرجال المهمون في الشؤون المحلية تحت حكم العثمانيين هم أنفسهم، أو أبناؤهم، الذين يمارسون النفوذ السياسي تحت حكم الفرنسيين. ونظم الزعماء السياسيون أنساق الدعم الشخصية الخاصة بهم في سوريا بين الحربين كما كانوا يفعلون في سوريا العثمانية" وبقيت المدينة مركز السياسة في الفترتين ومنها تمتد إلى الريف. فأياً كان السيد السياسي الأعلى، فإن حجر الزاوية في النفوذ السياسي في سوريا ظل كما هو، أي: زعامة الاعيان كانت المسألة الديمقراطية محشورة في هذه الوساطة وهذا التوازن الدقيق بين قوة المركز الخارجي وقوة المجتمع المحلي. ولم يكن مشروع قيام الدولة الوطنية مشروع نمو ذاتي للجماعة المحلية، بل كان في معظم الأوقات مشروع إدارة مقحم ومفروض على الجماعة المحلية من الخارج؛ عبارة عن مركز امبراطوري قوي سواء أكان امبراطورية عثمانية أم إمبريالية فرنسية. ومع هذا لم يكن المركز السياسي المديني مجرد مكانة منفعلة تقوم على أساس النسب والثروة والأسلوب. فالسياسة المدينية كانت فعل توازن دقيق: إذ لم يكن بمقدور الزعماء المحليين الظهور بمظهر من يعارض مصالح الحكومة المركزية في الخارج، لأن ذلك يهدد بحرمانهم من علاقتهم بالحاكم. ولا كان بإمكانهم تعريض مصالح تابعيهم المحليين للخطر لأن ذلك يهددهم بخسارة نفوذهم المستقل، بالتالي فائدتهم للحاكم." كان على الوجهاء المحليين أن يخرجوا بدرس تاريخي مفاده: أن قيمة أي حاكم محلي هي في رعاية مصالح مواطنيه وتعزيز استقلالية الحكم المحلي، حيث يستمد الحاكم نفوذه المستقل من ازدهار الجماعة الوطنية المحلية، من الامة. ولا يكون ذلك إلا بنظام ديمقراطي يضمن أوسع مشاركة في السلطة السياسية وفي ثروة الامة أو الجماعة الوطنية. ونظراً لطبيعة الاعيان الطبقية واستعبادهم للفلاحين وتبعيتهم التاريخية للمراكز الامبريالية والامبراطورية الخارجية، فنادراً ما كان هدفهم إطاحة نظام الحكم، حتى في الأزمنة الثورية (الثورة السورية الكبرى منتصف العشرينيات من القرن العشرين). كانت نيتهم تتجه دائماً نحو إعادة التوازن الدقيق القائم بين الحكومة المركزية الخارجية والمجتمع المحلي. يكتب غليون: يمر المفكر العربي مرور الكرام على المسألة الجوهرية، وهي أن الموقف الشعبي العام، بقي طوال الفترة الماضية، منيعاً على ما يسمى بفلسفة التحرر العربي أو على الجانب الأيديولوجي فيها. كما لو أنه كان يدرك أنها لابد أن تقود إلى عكس الشعارات التي تختفي وراءها. هو بالأحرى الشعور العفوي والعميق بأن وراء أيديولوجية "الانبعاث" القومي هذه وفي تعاريجها تكمن بذور أيديولوجية أخرى، وسياسة أخرى هي حقيقية هذه المرة، واستراتيجية ملموسة لتكوين نخبة محلية "بيضاء" مجارية في نمط حياتها وسلوكها وآمالها وأهدافها لمثيلتها الغربية، بالتالي مستعدة للانفصال عن الشعب والتخلي عنه في أية لحظة تشعر فيها أن الارتباط به يحول بينها وبين تحقيق أهدافها أو أنه يمنعها من الاندماج بالغرب" (برهان غليون: بيان من أجل الديمقراطية) لم تكن الحركة القومية أو حركة تشكيل الامة إذن إلا حركة طبقية بورجوازية بكل معنى الكلمة، ولذلك كانت نتائجها متناقضة: تحرر كامل لفئة قليلة وتقهقر شامل لبقية الفئات الاجتماعية. وما كان من الممكن أن تقود إلى مثل الازمة التي نعيشها، لو لم تكن كذلك" وبقدر ما أن البورجوازية المحلية تبقى هنا فاقدة لأسس موضوعية وثابتة تاريخية واقتصادية لسلطتها ونموها الطبيعي كطبقة مهيمنة في إطار نظام اجتماعي منتج وقادر على إرضاء الحاجات المتطورة للجماعة، تأخذ أيديولوجيتها شكل أيديولوجيا قومية مبالغ فيها. وبقدر ما يتركز الصراع حول مصالح أنانية ضيقة فإنه يستدعي أيديولوجية تنكر كل أنانية طبقية وتتحدث عن مصالح الامة ككل! إن مشروع بناء الامة يحتاج فيه تحرر الشعب أو الأغلبية الشعبية بالفعل إلى تضحيات كبيرة وطويلة المدى وإلى انقلاب شامل في مجمل العادات والمفاهيم وإلى انقلاب الموازين لصالح الغالبية الشعبية عبر فسح المجال أمام حرية مبادرتها التاريخية. إن الأيديولوجية القومية الشعبوية الفاشية الطابع تقوم على الغش الأول الذي يصور تحرر الشعب كمعطى أول، وبالتالي تتم المطابقة الفورية بين هذا التحرر الوهمي وبين تسلط الأقلية النخبوية. هنا أيضاً تبدو الفكرة القومية أو فكرة بناء الامة، حبيسة صورة التطور البورجوازي الأوروبي الذي يتجسد في حقيقة أن البورجوازية الناشئة قد خلقت الامة وكونتها وهي في سبيلها لخلق سوقها المحلية الداخلية وتكوينها. أي أنها قادت حركة تحرر خاصة بها ما لبثت حتى أصبحت حركة تحرر لمجموع الشعب. وهذا يعكس نظرة سطحية وخاطئة للسيرورة القومية والرأسمالية الأوروبية. إن تحرر الشعب من التسلط الاقطاعي وتكوين الحلف الاجتماعي العريض الذي قام بما نسميه الثورة البورجوازية في أوروبا هو الذي سمح للبورجوازية التي كانت أحد أطراف هذا الحلف الشعبي أن تتحرر من التسلط الأجنبي للدول الاقطاعية المجاورة أو شبه الاقطاعية المتحللة. أي هو الذي أتاح نشوء الامة، ومعها الامة-الدولة بالمعنى الحديث للكلمة. الاتجاه العام لهذه الأنظمة العربية يميل نحو تضييق القاعدة الاجتماعية لأصحاب الحكم والامتيازات. وهذا يتعارض مع ازدياد حاجتها لخلق بورجوازية وسيطة تعدل ميزان القوى السياسي تجاه تعاظم النضال الشعبي. وهي لذلك حبيسة هذا التناقض بين متطلبات تطورها الاقتصادي ونموها الذي يحتم المركزة الشديدة للامتيازات المادية وضرورات هيمنتها السياسية التي تستدعي تطوير البورجوازية الصغيرة كقاعدة لها. وأمام هذا التناقض لا يوجد إلا حلان: الاعتماد على معونات خارجية مستمرة لصيانة بورجوازية صغيرة وطبقة وسيطة واسعة وأجهزة دولة قمعية موثوق بها، أو المخاطرة بتسليم السلطة في كل مرة لجهاز الدولة وللبورجوازية الصغيرة، أي تسليم سلطة الدولة للجيش والإدارة البيروقراطية. إنها تعيش بين الدكتاتورية المقنّعة في فترات الازدهار وبين الحكم الفاشي والاحكام العرفية في فترات الانكماش الاقتصادي. وهكذا يكرر تاريخ الأنظمة التابعة نفسه كل فترة حسب الظروف العالمية والمحلية: تخلق البورجوازية الكومبرادورية الدولة القمعية وتخلق الدولة القمعية التي تأخذ المبادرة في مرحلة ثانية الطبقة الكومبرادورية، بحيث تعيد خلقها من جديد على أسس متطورة (من اقطاعية-بورجوازية إلى بورجوازية اشتراكية قومية فاشية) تنسجم مع تقدم التقسيم الدولي للعمل. فبعد كل مأزق وانسداد اجتماعي اقتصادي لدينا انقلاب تقوم به الأجهزة وبعد كل انقلاب انسداد جديد وهلمجرّا. "الأيديولوجية العربية الحديثة المسيطرة منذ النهضة، أي أيديولوجية الطبقة المسيطرة تتكيف مع الأيديولوجية السائدة عالمياً لتكوين هذا الحلف السياسي الذي بقدر ما يضمن السلطة المباشرة للنخبة العليا الاقتصادية (الكومبرادورية، البورجوازية الجديدة، الخ) يكفل إخضاع الأغلبية وتحويلها إلى أقلية سياسية وفكرية هامشية" (غليون) الطبقة الوسيطة المتدرجة في المواقع المادية والسياسية والفكرية هي القاعدة السياسية لحركة الاندماج بالغرب، وهي الرصيد الأول للطبقة الحاكمة، وأيديولوجيا هذه الطبقة هي التحديث والتقدم والسير إلى الامام والمشاركة والوحدة والمساواة. عندما تتفاقم الازمة الاجتماعية للنظام البورجوازي تأخذ أيديولوجيا التحديث شكل "اشتراكي" (توكيل البورجوازية الصغيرة الفاشية ذات العقيدة الاشتراكية القومية)؛ أي اشتراكية قومية فاشية. واشتراكية الدولة الفاشية هذه تختلف عن الاشتراكية الشعبية في نقطة جوهرية هي نظرتها المادية الميكانيكية المنحطة التي لا ترى من الحياة الاجتماعية ومن الصراع الاجتماعي إلا جانبه المادي: إعادة توزيع الدخل وتوزيع الأرض لكن ليس توزيع السلطة السياسية (بهذه السلطة سوف تعيد الاستحواذ على الاقتصاد وعلى الثروة من جديد). رفع الأجور لكن ليس النضال الطبقي للمنتجين، الديمقراطية الاقتصادية لكن ليس الديمقراطية السياسية. تلعب الديمقراطية الاقتصادية في بدء استلام الطبقة الجديدة للسلطة دور المحبط للضغط والنضال الشعبيين، وتقوم بوظيفة تبرير احتكار السلطة والدكتاتورية الفاشية. وهذا هو المضمون الحقيقي للديمقراطية الثورية السيء الحظ والسمعة. تعترف هذه الدولة بالتفاوت الطبقي لكنها تلغي الصراع الطبقي، وتتحول إلى دولة الشعب كله. تنظر اشتراكية الدولة الفاشية إلى الحياة والمجتمع كشروط مادية وتلغي السياسة والفكر وتعلن بذلك نهاية الاستغلال والمجتمع الطبقي، في الوقت الذي لا تكف فيه عن تغذية الاستغلال وتنمية الصراع الطبقي الضمني والمكشوف. وهكذا بدل أن تعمل اشتراكية الدولة الفاشية على تحسين شروط النضال الاجتماعي للمنتجين تطمس هذا الصراع وتخنقه وتصعده إلى مستوى الصراع الأيديولوجي الصرف حيث تسيطر الطبقة الحاكمة هي ذاتها على وسائل التنظيم والعمل وتستحوذ على قيادة النقابات المهنية والعمالية وعلى أجهزة الإكراه والقمع والتعليم والنشر والاعلام. إن المضمون الحقيقي للاشتراكية الفاشية العربية وورثتها من الحكومات "الثورية" هو أن الطبقة الوسيطة تطمح عن طريق التحديث والتصنيع الانتقائي القطاعي إلى التحول إلى بورجوازية مكتملة التبعية للغرب. هذا الإخفاق المذهل لأيديولوجية هذه الطبقات المتلاحقة من البورجوازية الكبيرة والصغيرة والمتوسطة "العلمانية وغير العلمانية" خلال مائة عام أدت إلى تعمق الهوة بين الفقراء والاغنياء، وخيانة الطبقة الحاكمة ذاتها للشعارات التي نادت بها: القومية والاشتراكية، وهي بطبيعة الحال جمعت كفاشية بين القومية المتعصبة والاشتراكية العقائدية الفظة. كما تجسد تاريخ حكمها في الهزائم العسكرية والقبول بالاستسلام دون الحصول على السلام مع دولة إسرائيل الصهيونية. هزائم متلاحقة على امتداد كل العهود البورجوازية بغض النظر عن الحلف السياسي السائد أو الطبقة الحاكمة، وبغض النظر عن عيوب المؤسسة العسكرية أو الإدارية القائمة بالحكم. لم تكن هذه الطبقات لا وطنية ولا ديمقراطية فحسب، بل كانت تابعة وطامحة للالتحاق بالغرب ونيل رضاه على حساب الأغلبية الشعبية وعلى حساب القضية القومية ومسألة احتلال فلسطين. إنه اخفاق كل القاعدة الاجتماعية للنظام الذي بدأ مع النهضة والاستقلال عن السلطنة؛ اخفاق للحلف الاجتماعي السائد: اخفاق للحلف السياسي الحاكم وللحلف السياسي المعارض معاً لأن الأخير كان مجانساً للأول. لقد فشل مشروع بناء الدولة في مائة عام في الأقطار العربية في بناء مشروع الامة-الدولة، وكلما تقدم زادت شرذمة المجتمع وافقار الغالبية الشعبية وتهميشها وتجهيلها وإبعادها عن القضايا الأساسية لحياتها الاجتماعية والقومية. إن فشل مشروع الدولة القطرية العربية في بناء مشروع الامة-الدولة هو فشل طبقة مثقفة بغض النظر عن تياراتها وألوان ثقافاتها لا فشل نظرية معينة، فشل طبقة سياسية بكاملها لا فشل جناح حاكم، فشل الطبقة البورجوازية لا فشل قسم منها كومبرادوري أو صغير أو كبير أو متوسط: إنه فشل النظام العقلي البورجوازي بأكمله والنظام السياسي كله والنظام الاقتصادي. فشل التحديث العربي بقوميته واشتراكيته معاً، وبأيديولوجيته المعادية للدين والمعادية للعلم والموفقة بينهما، فشل الدولة العصرية كأساس للتحرر السياسي والتنمية الاقتصادية القائمة على نفي الاقتصاد الطبيعي الاسري المكتفي بذاته، وبناء اقتصاد التبادل كقاعدة لتراكم رأس المال الضروري لتحرر الطبقة العليا مادياً ومحاكاتها وتشبهها بالبورجوازية الامبريالية في مراكز النظام الرأسمالي العالمي. هذا الانهيار هو انهيار لكل عالم العرب العقلي الحديث ومسلماته: انهيار المعارضة البورجوازية الصغيرة قبل أن يكون انهيار الاستبداد الرأسمالي للطبقة العليا الحاكمة. ولأن هذه المعارضة بشتى أشكالها ليست معارضة إلا في المظهر، وإلا في حدود زيادة وتعميق تهميش واستبعاد واستعباد الشعب، جاءت الهزيمة مضاعفة: هزيمة الطبقات الحاكمة اجتماعياً وقومياً أمام العدوان الامبريالي الصهيوني، وهزيمة المجتمع السياسي العربي بأكمله، والمعارضة بالخصوص والتي ما كان بإمكانها وهي الحليفة البعيدة المدى للنظام ككل، أن تلتصق بالشعب وتعمل على توحيد صفوفه لحشد القوى الضرورية لتغيير النظام بشكل جذري. من هنا بقيت فكرة الوطن والامة شعارا مجرداً أكثر منه حقيقة معاشة، ولم تستطع منافسة الاستزلام والزبائنية المتفشية. وبقي مفهوم السياسة بالمثل رديفاً لانتزاع السلطة بأية وسيلة، مثلما بقي مضمون هذه السلطة الحقيقي والعلني، الاعتراف المتبادل بحق المشاركة في اقتسام غنائم النصر بين الفائزين. ولم تتشكل بالتالي وتتعمق لا فكرة المسؤولية الجماعية ولا فكرة المصالح العليا للأمة والإرادة العمومية. إن كل خروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها اليوم الحركة القومية العربية والدولة القطرية العربية يفترض التخلي عن السياسات والاستراتيجيات السابقة التي بقيت حتى اليوم سلاح الطبقة السائدة لعزل الشعب وتعبئة القوى الاجتماعية الوسيطة الطامحة إلى الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي وتحويل الدولة إلى أداة قهر تخدم هذا الاندماج. ولا يمكن اليوم تحقيق الشعارات الكبرى للتحرر القومي إلا على أساس التحرر الاجتماعي للأغلبية الشعبية، وهذا يفترض الخروج من الإشكالية القومية إلى الإشكالية الاجتماعية، من إشكالية الدولة إلى إشكالية الامة-الدولة. إن الاستعمار الداخلي والاستعباد المحلي هما قاعدة وأساس الاستعباد القومي، وليس هناك أمة حرة فعلاً يمكن استعبادها من الخارج أو اخضاعها مهما كانت القوى الأجنبية الغازية، ولا تسقط الأمم في الاسر إلا عندما تسقط أولا في داخلها وتنهار وحدتها الداخلية. وبقدر التحدي والتهديد الخارجيين يستدعي تحرر الامة وحدة داخلية أعمق وأقوى، وأساس هذه الوحدة العدل وشرطه الحرية التي تضمن عدم تسلط فئة محدودة على أغلبية الشعب. والسياسات الثلاث التي طورتها الحركة القومية التقليدية تقوم كلها دون استثناء على قاعدة واحدة: تحرير النخبة وترك الشعب، خلق نخبة عقلانية حديثة لا محو الامية الهجائية والفكرية للأغلبية، خلق طبقة سياسية تدعي تمثيل المجموع في دولة حديثة مع عدم السماح بنمو المبادرة الشعبية، تعظيم تراكم رأس المال لا العناية بقوة العمل المنتجة البشرية. (غليون) إن الديمقراطية التي تطرح كبديل عن الخيارات الوطنية تهدد بأن تحول ردود الفعل والمشاعر الوطنية إلى نقيض للديمقراطية وتدفع بها في المستقبل إلى التماهي مع النظم الاستبدادية. هكذا يدفع الوعي العربي نحو الشقاق الداخلي التراجيدي بين الديمقراطية والوطنية ومنعه من بلورة مفاهيم واضحة للحياة السياسية. لكن المدقق في طبيعة النظم الاستبدادية يتبين له أنها أبعد ما تكون عن الوطنية، وأن النظم "الديمقراطية" هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية وقيم المشاركة السياسية والاقتصادية. وأن كلا النظامين الاستبدادي والليبرالي هما نطامين بورجوازيين طرفيين يعتمد كل منهما على قوى الزبائنية والمساندة الأجنبية، حيث تتحول النخب الوطنية نفسها إلى حامل للهيمنة الأجنبية والتبعية. وتتحول الدولة والمجتمع إلى أدوات في أيدي الاستراتيجيات الدولية. إن تاريخنا ليس إلا تاريخ تكون الطبقة الرأسمالية المحلية كطبقة مربوطة تاريخياً وجوهرياً بالغرب الرأسمالي الامبريالي، ولن تكون دون هذا الارتباط. وتاريخنا القومي العربي الحديث ليس سوى تطور أشكال تطور ارتباط هذه الطبقة بالغرب الاستعماري وتاريخ إعادة وتجديد جلدها وشكلها حسب تطور هذا النظام. إن وضع الطبقات الشعبية العربية لا بد أن يسير باستمرار نحو التدهور المتزايد، لأنه كلما زادت التبعية الاقتصادية والفكرية أدت إلى تناقص التراكم المحلي نتيجة لارتفاع مستوى استهلاك الطبقات السائدة وزيادة التبادل اللامتكافئ والعجز في الميزان التجاري. إن نظامنا الحديث منذ النهضة يقوم على ثلاثة مرتكزات: النهب وحصيلته الافقار، والقهر وحصيلته الاسترقاق والاستعباد السياسي، والترجمة والتقليد وحصيلتهما الجهل وتخفيض الحياة إلى المستوى البيولوجي. إن تاريخ العرب الحديث ليس إذا تاريخ تحرر الشعب، ولا تاريخ تكون الامة-الدولة وإنما هو بالعكس تاريخ الاستعباد الشعبي وإخراج الأغلبية القومية من الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية، أي تاريخ تهميش هذه الأغلبية. التحالف التاريخي بين النخبة المحلية ومراكز السلطة العالمية. لا يكفي النضال من أجل الدولة المستقلة أو الموحدة حتى تتحقق الامة وليس هذا طريق تحقيقها، ولكن تحقيق الامة أو الجماعة المتراصة التي تصنع دولتها هو الذي يقود إلى تكوين الدولة-الامة، الدولة الديمقراطية الوطنية فعلاً. مراجع 1-فيليب خوري: أعيان المدن والقومية العربية-سياسة دمشق 1860-1920 ترجمة عفيف الرَّزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى، بيروت 1993. 2-فيليب خوري: سوريا والانتداب الفرنسي-سياسة القومية العربية 1920-1945، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى 1997 3-برهان غليون: بيان من أجل الديمقراطية (البنى السياسية-الفكرية للتبعية والتخلف ومأساة الامة العربية)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 2006 ، الطبعة الأولى 1978 دار ابن رشد
#نايف_سلوم (هاشتاغ)
Nayf_Saloom#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد فلسفة التوسير
-
في مفهوم الحضارة وتطوره
-
مثلث هنري كيسنجر
-
العلمانية، الديمقراطية، المواطنة
-
مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الأميركي
-
الدولة السورية الحديثة: تواريخ ومحطات-2
-
سوريا الحديثة: ثلاثة عهود
-
الدولة السورية الحديثة تواريخ ومحطات-1
-
-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات- ترجمة مميزة رقم 3
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-1
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
-
الجباعي* يحْطِم ماركس
-
ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري-2
-
ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري -1
-
المحاولات الأميركية المُتكررة لبناء -شرق أوسط جديد-
-
-الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات - ترجمة مميزة رقم 3
-
رسالة في -رَسْمِ العقل- وأقوال
-
استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--4
-
استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--3
-
استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--2
المزيد.....
-
ترامب عن إيران: اعتادت التعامل مع أغبياء في أمريكا خلال المف
...
-
لقاء مناقشة حول موضوع “مستجدات الحياة السياسية الوطنية وإصلا
...
-
إيقاف الدروس بتونس بعد وفاة 3 تلاميذ في انهيار سور مدرسة
-
عرائض الاحتجاج في إسرائيل تمتد إلى لواء غولاني
-
يائير نتنياهو متطرف أكثر من أبيه هاجم أميركا وسب ماكرون
-
الجزائر تطرد 12 دبلوماسيا فرنسيا وتشن هجوما لاذعا على ريتايو
...
-
قضية الطالبة التركية أوزتورك تهدد بأزمة دستورية في أميركا
-
ترامب يحمّل شخصين مسؤولية اندلاع الحرب في أوكرانيا
-
طهران تعلن مكان انعقاد الجولة الثانية من المفاوضات مع واشنطن
...
-
تونس.. غضب في مزونة بعد وفاة طلاب في حادث انهيار سور مدرسة
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|