طارق الورضي
الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 18:45
المحور:
الصحافة والاعلام
لا مناص من الاعتراف و التسليم بدور الإعلام الهادف وتأثيره البالغ في صناعة الرأي العام و توجيه الفكر الفردي و الإجتماعي، و تحريك سيكولوجية الجماهير وترويض الذوق العام، فنحن نعايش طفرة تاريخية حافلة بانتعاش التكنولوجيا الرقمية وغزوها للفضاء السمعي البصري، و في ظل تنوع موارد استقاء الخبر و كثرتها، تبرز مدى هيمنة الإعلام على حياتنا العصرية ومدى تحكمه في صناعة الأذواق و بلورة الافكار، فوسائل التواصل الاجتماعي التي صارت متاحة لدى أغلب فئات و شرائح المجتمع تتجاوز دورها الترفيهي لتدخل في خانة التأثير المباشر على العقول و الافكار و توجيه السلوكات الفردية و الجماعية و تغيير منظومة القيم، و لا شك أن وسائل التواصل هاته أرخت بظلالها على نمط حياتنا اليومية وواقعنا المعيش وصرنا لا نستطيع الفكاك منها ومن تأثيرها على افكارنا و سلوكياتنا، فعلى الرغم من أنه لا يمكن أن نتجاهل مدى إسهامها في مد جسور التواصل بين أفراد المجتمع و تسهيل انسياب و تشاطر المعلومات بينهم في سياق عالم افتراضي طافح بما استجد و استحدث من أخبار، إضافة إلى شقها الترفيهي، لاينبغي كذلك أن نتناسى خطورة الدور الإعلامي الذي تطبع به جل مظاهر حياتنا اليومية.
لقد صار صنع و ابتكار الإسفاف و الابتذال و التفاهة صفة ملازمة لمشهدنا الإعلامي المأزوم، و صار منطق الربح المادي هو الدافع الأساسي من وراء أغلب المنتوجات الإعلامية المطروحة على الساحة، وهذا يفسر إلى حد كبير مدى رداءة البرامج التي تعرض يوميا على المشاهد المغربي و مدى افتقادها للدقة و الحنكة و المهنية بل و مدى إسهامها في إخصاء الأذهان و تنويم العقول و تبلد الحواس بصناعة نوع من الترفيه التافه و الرخيص الذي يدغدغ عاطفة الجماهير و يعزف على أوتار الأحاسيس و المشاعر في تغييب تام لتحريك العقل و إستقصاء ملكة الحس النقدي لدى المشاهد حتى يستطيع التمييز بين الغث و الثمين فيما يعرض عليه من برامج في سياق ثنائية نطلق عليها علاقة الوارد بالمتلقي. و نقصد بذلك إلى أي مدى يتمتع المشاهد المغربي بحاسة نقدية تمكنه من قراءة ما وراء السطور فيما يعرض عليه يوميا من مادة إعلامية و هل يستطيع سبر اغوار الخطاب الإعلامي لتشريحه ثم تقسيمه إلى معطى جيد و معطى ردئ.
في ظل كثافة المشهد الإعلامي و تعدد منابره ينجرف قطاع عريض من الجماهير وراء تيار الابتذال و التفاهة عن سبق إصرار أو بدون وعي بذلك و ترتسم صورة قاتمة لمن يحملون الفكر الخلاق و الثقافة الرصينة و المعلومة الهادفة لأن تأثيرهم في توجيه الذوق و الفكر الاجتماعي العام يكاد يكون منعدما إلا من بصيص ضئيل من النور يلوح في الافق من هنا و من هناك من حين لآخر.
إن استبعاد رجال و نساء الفكر الخلاق و الثقافة الرصينة و الابداع الحر و العلم البناء، عن ساحة قنواتنا الإعلامية الموجهة و المتحكم فيها، في مقابل تخصيص فقرات إعلامية زمنية مهمة للوجوه المبتذلة التافهة المغرقة في الإسفاف و الرداءة و الجهل المركب يرخي بظلاله بشكل سلبي جدا على المشاهد المغربي و يخلق انطباعا عاما بأن تحقيق الشهرة و المال يمر بالضرورة عبر الرداءة و التفاهة و الخواء المعرفي و العوز الثقافي، وهي رسالة مبطنة خطيرة يلتقطها أفراد المجتمع و في مقدمتهم الناشئة و الشباب الصاعد الذين يفتقدون للمثل الأعلى و القدوة السامية التي قد يتخذونها منحى ومسارا في حياتهم و مستقبلهم، و في ظل تغييب هاته القدوات الرائدة عن مشهدنا الإعلامي فإن الساحة تخلو لكل من هب و دب من رموز الإسفاف و الرداءة و الابتذال و الاستلاب الثقافي و المسخ الهوياتي و العفن الفني.
تعرفنا في شق الاول على تمظهرات سلطة الإعلام في حياتنا اليومية المعيشة، فمن يتحكم في صناعة هذا الإعلام و من يحرك الخيوط التي تمسك بزمامه من وراء ستار؟
يظل الإعلام وهو السلطة الرابعة منبرا متحكما فيه بقوة وموجها في كل مظاهره بسطوة الحكم أو السلطة الحاكمة، و كما تخضع السلطة الحاكمة في الدول المتخلفة كل مظاهر الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية لصالحها، فإن رحاها تضم الإعلام كشق متحكم فيه وفق توجهات و تعليمات القوى المتنفذة في الحكم خصوصا تلك التي ترعى الريع و الفساد السياسيين و تغتني من إهدار المال العام و تسلط آلتها القمعية لمصادرة الحناجر الحرة و مطاردة الاقلام المناضلة و تكميم الافواه و تأميم العقول، وهذا يفسر حملات المطاردة و الاعتقال الاعتسافي و التوقيف المتعمد التي شملت عديدا من الأوجه الإعلامية و الصحافية المناضلة الحرة، منها من ينشطون على صفحات التواصل الاجتماعي و منها نشطاء حقوقيين ميدانيين، طالتهم يد المنع و الاعتقال الآثمة لمجرد أن خطهم التحريري و اتجاههم الفكري و مواقفهم الشخصية لا تروق لأصحاب السلطة و صانعي القرار في ظل مشهد هلامي متكلس يذكرنا بعصور الظلمات و الرصاص حيث تصادر الحقوق و تعتقل الافكار و تقوض الحريات و بذلك يتلاشى و يتبدد أي حديث عن دولة المؤسسات و الحق و القانون و يضيع مفهوم المجتمع المدني بين ثنايا مصطلحات محنطة لا تسمن و لا تغني من جوع.
لا يمكن أن نتصور إعلاما حرا فاعلا في ظل سطوة الرأي الواحد، و في سياق غياب فصل السلط و استقلالية القضاء، و إلا كان ذلك ضربا من الوهم ليس إلا. فإن الإعلام الحر لا يمكن أن يعيش و أن يتنفس إلا في ظل بيئة ديمقراطية سليمة و سوية تسمح بحرية الرأي و الرأي الآخر و تأخذ على عاتقها احترام بنود الدستور في قانون الحريات العامة، و تضرب بقوة على يد من تسول له نفسه أن يتطاول و يتجاسر على نصوص القانون خدمة لأهداف شخصية أو حزبية أو عشائرية، أو أن يكيف نصوص القانون وقفا لما يخدم مصالحه و يعزز نفوذه و سطوته.
إن الإعلام لا يشذ عن المنظور العام التي تسير وفقه السلطة المستبدة أمور الشعب، فهي تمسك بزمامه بقوة خشية أن يطال تأثيره العقول فتستنير و ترتقي و تعي كل ملابسات الواقع السياسي و الاجتماعي المعيش ، فتتحول إلى أمواج هادرة من المحبطين و الساخطين و الثائرين و المناضلين المطالبين بمحاسبة رموز الفساد و الريع و الاستبداد و هادري المال العام و بإقرار العدالة الاجتماعية و المجالية و رفع شعار الحرية و تبني الديمقراطية السياسية الفاعلة و البناءة بعيدا عن الخطابات العقيمة الجوفاء التي تدغدغ مشاعر العامة، وهذا الحراك هو الكابوس الذي يقض مضجع المتنفذين و المستبدين القابعين على سدة الحكم، لأن تحرير العقول هو تحرير للشعوب من القيود المصطنعة و كسر لحاجز الخوف و إنذار بانقلاب الموازين لصالح جماهير الشعب التواقة للانعتاق من إسار الاستبداد و القمع و القهر و التفقير، و هو ما سيقلب الطاولة على قوى الاستبداد و القمع و يتنزع منها كل الامتيازات بما فيها الحصانة السياسية، و يجعلها عرضة للمحاسبة القانونية عن جرائمها السياسية و الاجتماعية في حق المواطنين.
كل سلطة مستبدة تطمح إلى جعل الأعلام وسيلة لتلميع صورتها القاتمة و المهتزة أمام الرأي العام، عن طريق الترويج لخطاب إعلامي يروم تزييف و عي الجماهير و تمويه حقيقة الوضع القائم، عن طريق التفنن في تجميل هذا الواقع المأزوم بمختلف المساحيق من قبيل إدعاء أن السلم الاجتماعي قائم و لا خوف عليه في ظل انتعاش الديمقراطية وسيادة القانون وأن البلد لا تعيش أية أزمات سياسية أو اجتماعية وأن الاقتصاد يعرف انتعاشا ملحوظا وأن المواطن راض بالوضع القائم و مرتاح في ظله، و كل هاته الادعاءات عارية عن الحقيقية لا تسندها أية معطيات من الواقع المعيش و لا يقر بها المواطن السوي، غير أنها تظل وسائل مصطنعة لترويج الوجه المشرق للسلطة الحاكمة على مستوى الداخل و الخارج، و إعطاء الانطباع بأن الحياة السياسية و الاجتماعية لا تعرف أي احتقان و أن السلطة قائمة بدورها الدستوري في رعاية الشأن العام و هو وهم تحاول السلطة القائمة تمريره بكل الطرق و الوسائل ليسير حديث الراي العام و لتختفي في ثناياه الحقيقة المرة التي يعضدها الواقع المعيش ويلامسها المواطن عن كثب.
#طارق_الورضي (هاشتاغ)
#طارق_الورضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟