أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شادي أبو كرم - دماء فائضة عن الحاجة: إسرائيل تحتل والسوريون يتفرغون لذبح بعضهم















المزيد.....

دماء فائضة عن الحاجة: إسرائيل تحتل والسوريون يتفرغون لذبح بعضهم


شادي أبو كرم
كاتب سوري

(Shadi Abou Karam)


الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 18:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لم تكن مجازر الساحل السوري حادثة عرضية أو انفعالاً عابراً، كانت نتاجاً حتمياً لبنية نفسية جماعية مُهيأة للانفجار، تنتظر فقط الشرارة الطائفية الأولى. حين سقط عناصر الأمن في كمين نُسب لـ"فلول النظام"، لم يتطلب الأمر سوى لحظات قليلة كي تصبح الميول الطائفية الكامنة فعلاً جماعياً. المنابر والمساجد والمنصات الإعلامية، التي تمثل واجهة السلطة الجديدة، أظهرت جاهزية مذهلة للتحريض، وكأنها كانت تحتفظ بخطط مُعدة سلفاً لهذه اللحظة. هنا نواجه فائض معنى سيكولوجي عميق: لقد تحوّلت الهوية الطائفية إلى "جريمة" تستحق العقاب الجماعي، والرغبة في الانتقام إلى "واجب" أخلاقي وديني.

لكنَّ السؤال النقدي الغائب: لماذا لا تستثير إسرائيل - الاحتلال الحقيقي لأرض سورية - ذات الغضب المقدس؟ هذا الاحتلال المكشوف الذي يمتد على أراضٍ تعادل مساحة محافظة كاملة، والذي يقصف المدن السورية ليلاً نهاراً، يصطدم بجدار صمت نفسي وسياسي وديني عجيب. ذات الآليات التي انطلقت بسرعة فائقة لحشد الغضب الجمعي ضد "الآخر السوري"، تصاب بالشلل التام حين يتعلق الأمر بالعدو الخارجي الحقيقي. الفتاوى التي كانت جاهزة، والأصوات التي كانت صاخبة، والحشود التي كانت مندفعة، تختفي فجأة كأنها لم تكن. وهنا تبرز المفارقة المُرّة: كيف يمكن لمجتمع أن يختار أعداءه بهذه الانتقائية المفضوحة؟

ثمة عطب في الوعي الجمعي يحتاج إلى تشريح فعلي. لقد نجحت سلطة "ما بعد الأسد"، كسابقتها تماماً، في تدجين الغضب الشعبي وتوجيهه وفق مصالحها الضيقة. إنها تمارس ما يمكن تسميته "هندسة الغضب": صناعة عدو داخلي مستمر، يصرف الأنظار عن فشلها وعن التحديات الحقيقية. وفي هذا السياق، تتجاوز المجازر الطائفية "الانفلات" العارض، لتصبح جزءاً من استراتيجية سلطوية مدروسة.

عملية التوجيه النفسي هذه تعتمد على آليات دفاعية جماعية عميقة: تحويل المسؤولية، الإسقاط، التبرير الأخلاقي، شيطنة الآخر. فالخوف والقلق الوجودي الذي يعيشه الكثيرون في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، يجد متنفساً له في عداء مُوجَّه نحو فئة محددة يسهل تصويرها كـ"شر مطلق". وهذا تحديداً ما يفسر الفارق بين الاستجابة العنيفة للأحداث الداخلية والتجاهل المخزي للاعتداءات الإسرائيلية. الأولى توفر عدواً سهل المنال، وتنفيساً مباشراً للعدوانية المكبوتة، بينما تتطلب الثانية مواجهة أكثر تعقيداً وخطورة، لا تملك السلطة الجديدة الإرادة ولا القدرة عليها.

الأخطر من ذلك على المستوى النفسي-الاجتماعي هو عملية "إعادة البرمجة الأخلاقية" التي نشهدها. فالسلطة الجديدة لا تكتفي بتوجيه الغضب، وإنما تعيد صياغة القيم الأخلاقية والدينية ذاتها. الذنب يتحول إلى فضيلة، والجريمة تصبح واجباً، والصمت عن المجازر يصير حكمةً. إنه تلاعب خطير بالمنظومة القيمية الأساسية، يستهدف تحويل المجتمع إلى أداة طيّعة في يد السلطة الجديدة.

البُعد الديني هنا حاسم، فالمنابر التي أطلقت فتاوى الجهاد والنفير عند الكمين، والتي تصمت تماماً عند القصف الإسرائيلي، لا تُمارس الدين كفضاء أخلاقي، لكن تستخدمه كأداة سياسية. هذا التوظيف الانتقائي للدين، المتحرر من كل ضوابط أخلاقية، يشكِّل خطراً وجودياً على المجتمع بأكمله. فحين يتحول المقدس إلى أداة في خدمة السلطوي، تنهار جميع المرجعيات، ويصبح المجتمع بلا بوصلة أخلاقية، مفتوحاً على كل أشكال التطرف والإقصاء.

تبرز هنا ظاهرة نفسية-اجتماعية أخرى بالغة الخطورة: عملية "الاستعداد للقتل" التي يخضع لها المجتمع. فالسلطة تستثمر في تهيئة قطاعات واسعة نفسياً لارتكاب العنف، عبر خطاب منهجي يزيل العوائق الأخلاقية المعتادة. وهذا ليس مجرد تحريض وقتي، وإنما تأسيس لثقافة جديدة، ثقافة العنف المقدس، حيث يصبح القتل على الهوية ممارسة مشروعة. وحين تُزرع هذه البذرة في المجتمع، فإنها لن تقتصر على استهداف فئة واحدة، وستمتد لتشمل أي جماعة توسم بالاختلاف.

الخطورة تتفاقم عندما نلاحظ أن السلطة الجديدة لا تكتفي بإدارة هذه المنظومة النفسية، وإنما تعمل على مأسستها. فوزارة الخارجية التي تصدر بيانات حماسية حول أحداث داخلية، وتكتفي بلغة باهتة ومجاملة حين يتعلق الأمر بإسرائيل، لا تمارس مجرد انتقائية عرضية، وإنما تعكس عقيدة سياسية متكاملة، قوامها: العدو الحقيقي هو الداخلي، المختلف طائفياً، أما العدو الخارجي، حتى لو كان محتلاً، فهو عدو مؤجل، يمكن التعايش معه.

ما يحدث اليوم يتجاوز الاستغلال السياسي البسيط للمشاعر الطائفية، إلى ما هو أخطر: إعادة تشكيل عميقة للوعي الجمعي، وتربية مجتمع بأكمله على قبول التناقض الفاضح بين الحماسة المفرطة تجاه الداخل، والبرود المخزي تجاه الاحتلال. وهذا ليس مجرد نفاق سياسي، هو عملية مقصودة لإعادة ترتيب أولويات المجتمع، بحيث تتحول الكراهية الطائفية إلى القضية المركزية، وتتوارى القضايا الوطنية الكبرى إلى الهامش.

والأخطر من ذلك كله أن هذه المنظومة النفسية المزدوجة تفتت الوعي الوطني ذاته، وتجعل فكرة "الوطن" مجرد شعار فارغ. فالوطن الذي تُنتهك سيادته ويُحتل جزء من أرضه دون أن يحرك ذلك مشاعر أبنائه، ليس وطناً بالمعنى الحقيقي، أنه مجرد مساحة يتصارع عليها أبناؤه. والمفارقة المؤلمة أن هذا التفتت للوعي الوطني يأتي في لحظة يحتاج فيها السوريون أكثر من أي وقت مضى إلى هوية وطنية جامعة، تتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية والمناطقية.

الصمت المخزي تجاه الاعتداءات الإسرائيلية هو علامة على مرض نفسي جماعي: فقدان القدرة على تحديد العدو الحقيقي، والاستعداد الدائم لتحويل الغضب إلى الداخل. وهذا المرض ليس وليد اللحظة، هو نتاج تراكمات تاريخية طويلة، غذَّتها سياسات الاستبداد والقمع، وتفاقمت في ظل الحروب والتدخلات الخارجية.

لنقل الحقيقة بوضوح: إسرائيل اليوم ليست مجرد احتلال عسكري لجزء من الأراضي السورية، هي اختبار كاشف لمدى انحطاط الوعي السياسي والأخلاقي للسلطة الجديدة ولقطاعات واسعة من المجتمع. إنها المرآة التي تعكس التشوه العميق في بنية الوعي الجمعي، حيث يتحول "الآخر السوري" إلى عدو وجودي يستحق الإبادة، بينما يتحول المحتل الحقيقي إلى مجرد مزعج يمكن تجاهله.

والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: إذا كان الغضب ضد "الآخر الداخلي" يتحول بهذه السهولة إلى مجازر، فماذا سيتبقى من سوريا حين ينتهي هذا المسلسل الدموي؟ وأي وطن سنبنيه على أنقاض الكراهية المتبادلة؟ وهل ما زال هناك أمل في استعادة فكرة الوطن الجامع، في ظل هذه المنظومة السلطوية الجديدة التي لا ترى في التنوع إلا تهديداً، ولا ترى في الاحتلال إلا تفصيلاً؟

ربما كان الصمت المخزي تجاه إسرائيل هو الكاشف الأدق لحقيقة السلطة الجديدة: سلطة لا تواجه الاحتلال لأنها مشغولة بالهيمنة على شعبها، ولا تهتم بالسيادة الوطنية لأنها منهمكة في صناعة انقسامات طائفية تضمن استمرارها. إنها تمارس ذات المنطق الذي مارسه الأسد: تحويل القضية من صراع مع العدو الخارجي إلى صراع مع "الأعداء الداخليين" الذين يُصنعون على مقاس الحاجة السلطوية.

هكذا يُقتل السوريون مرتين: مرة على يد الاحتلال الإسرائيلي، ومرة على يد سلطة لا ترى فيهم سوى رعايا يجب إخضاعهم، لا مواطنين يستحقون الكرامة والحرية. تلك هي سوريا اليوم، ساحة للمجازر الطائفية والعنف المقدس، فيما تقف إسرائيل على الحدود، تراقب بابتسامة ساخرة كيف يفتك السوريون ببعضهم، ويُعفونها من عناء احتلالهم.



#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)       Shadi_Abou_Karam#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خناجر الله في ظهر الحرية: سيكولوجيا القتل الديمقراطي
- الطفل الذي تعلم الذبح: كيف تربّى السوريون على الكراهية؟
- المرأة حين تُصبح سجّانة نفسها: كيف تُعيد الضحية إنتاج قيودها ...
- الطغيان ليس قدراً، لكنه الخيار المفضل دائماً
- الحوار الوطني: حين تصبح السياسة إدارة أزمة لا مشروعاً للدولة
- الطغاة لا يولدون من العدم: كيف صنع السوريون استبدادهم وحموه؟


المزيد.....




- إصابتان وتضرر عدة مركبات في هجوم للمستعمرين غرب سلفيت
- أسعدي طفلك..تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر نايل سات وعر ...
- مفتي القاعدة السابق يروي سبب انتقال بن لادن من أفغانستان إلى ...
- لماذا تدعم الطرق الصوفية المصرية الدولة وتحتمي بها؟
- إعادة انتخاب نوري المالكي أمينا عاما لحزب الدعوة الإسلامية ا ...
- إعادة انتخاب نوري المالكي أمينا عاما لحزب الدعوة الإسلامية ا ...
- إيهود باراك يحذر من انهيار وشيك لإسرائيل بسبب نتنياهو
- منظمات متطرفة عبرية تدعو لذبح قربان الفصح داخل المسجد الأقصى ...
- اللجنة العربية الإسلامية تطالب بتوحيد غزة والضفة تحت حكم الس ...
- فلسطين: إسرائيل تستغل أعياد اليهود لضم الضفة الغربية


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شادي أبو كرم - دماء فائضة عن الحاجة: إسرائيل تحتل والسوريون يتفرغون لذبح بعضهم