همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 17:57
المحور:
حقوق الانسان
النكوص عن الشمول الإنساني
في بلد مثقل بالتجاذبات والانقسامات، لطالما كانت حقوق الإنسان في العراق خاضعة لمعيار الانتماء، لا لجوهر الإنسان. بين زمنٍ كانت فيه المطالبة بالحق مشروطة بالهوية الطائفية، وزمنٍ باتت فيه مشروطة بالانتماء الفئوي أو الدور الاجتماعي أو الحضور الأخلاقي أو الموقع المهني أو المرتبة الوظيفية لفرد أو شريحة، تتهاوى الفكرة الجوهرية لحقوق الإنسان باعتبارها تكريماً غير مشروط، وحقاً أصيلاً غير قابل للاختزال أو الاجتزاء. هذه المقالة محاولة للقبض على تلك اللحظة الفكرية التي تنبّهنا إلى الانزلاق من "الحق الإنساني" إلى "الامتياز الفئوي"، ومن "المطالبة المجتمعية الشاملة" إلى "التمثيل النقابي الضيق".
والسؤال هنا: كيف يمكن نزع الطابع التمييزي - الامتيازي عن الحقوق الإنسانية وتحويلها إلى حقيقة كونية وعالمية، وطنية ومواطَنية، وقضية ميثاقية مؤصّلة في العقد الاجتماعي والضمير الدستوري، وغير قابلة للمقايضة أو التخصيص؟!
إعادة إنتاج الانغلاق: كيف يتقوقع الحق؟
كانت مطالبات حقوق الإنسان في العراق، لفترة طويلة، أسيرة خطاب التخندق الطائفي: الجانب السني يطالب بحقوق المعتقلين المتهمين بالإرهاب، والجانب الشيعي يطالب بحقوق ضحايا الإرهاب. وكان الخطاب السياسي المتعلّق بتوزيع الثروة، وما زال، يربط بين درجة "المظلومية الهوياتية" للمجموعات السكانية ومدى "أهلية" هذه المجموعات لنيل حقوق اقتصادية واجتماعية.
بدا الأمر وكأن الإنسان، كإنسان، لا قيمة له ما لم يكن منتمياً إلى جماعة تتبنى قضيته ضمن صراعها مع الجماعة الأخرى.
غير أن هذا الانغلاق لم ينتهِ، بل تبدّل شكله. اليوم نشهد بروز خطاب فئوي جديد، تتصدره نقابات وتيارات مهنية، تطالب بحقوق أفرادها، لا باعتبارهم بشراً ومواطنين، بل باعتبارهم مهندسين أو معلمين أو غير ذلك. فمطالبة نقابة المهندسين بحقوق "المهندس بشير خالد" الذي قضى بسبب عنف الشرطة في مركز احتجاز، ترتكز على رمزية مهنته، لا على كونه ضحية لانتهاك يمكن أن تمارسه الدولة ضد أي فرد بغض النظر عن مهنته أو طبقته.
ونجد نقابة المعلمين، ومعها شرائح اجتماعية واسعة، تطالب بحقوق الكوادر التربوية في السكن الملائم والرواتب العادلة، دون الانتباه إلى أن أزمة السكن وظلم الأجور هما ظاهرتان تشملان أغلب العراقيين، وليس فئة بعينها.
الحقوق لا تُجزّأ ولا تُخصخص
الحق في الحياة، في الكرامة، في الحماية من التعذيب، في السكن اللائق، في الأجر المنصف، في التعليم والصحة، في العدالة والمساواة؛ كل هذه ليست جوائز أخلاقية تُمنح لمن نرضى عن أدوارهم الاجتماعية، وليست امتيازات مهنية تُوزّع بحسب العضوية النقابية، وليست مكافآت رمزية تُعطى لأفراد أو فئات نظير إسهامات يعدّها المجتمع نافعة أو نبيلة. إنها حقوقٌ إنسانية أصيلة تُكتسب لمجرد كون الإنسان إنساناً.
في هذا السياق، يصبح مُربكاً أن تُربط حقوق الإنسان بالدور الأخلاقي المفترض لفئة اجتماعية أو مهنية ما. نعم، المعلم يؤدي دوراً أخلاقياً عظيماً في تعليم وتربية التلاميذ وخدمة المجتمع، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا الدور شرطاً لمنحه حق السكن. فالسكن حقّ للمعلم، كما هو للعاملة في ملهى ليلي، كما هو لمن أُطلق سراحه بعد انقضاء محكوميته في السجن. الحقوق لا تُمنح بحسب النظرة المجتمعية للمنزلة الأخلاقية للفرد، بل تُضمن له بوصفه كائناً بشرياً، يكتسب الحق بصفته الإنسانية أولاً، وبصفته الدستورية والقانونية كمواطن ثانياً.
التناقض البنيوي: أن نطالب بحق إنساني بخطاب لا إنساني
إن أكثر ما يُقلق في هذا المسار هو الانفصام البنيوي بين جوهر حقوق الإنسان وبين طريقة المطالبة بها. حين نطالب بالحقوق باستخدام خطاب فئوي، فإننا، دون أن نشعر، نُعيد إنتاج منطق التمييز الذي يُفترض أن الحقوق جاءت لتحطيمه. نحن نفترض أن الإنسان الذي سُلبت حقوقه قد وقع ضحية التمييز، فكيف نطالب بحقوقه بمنطق تمييزي؟!
الفئوية، بهذا المعنى، ليست سوى الوجه الآخر للطائفية: كلاهما يتجاوز إنسانية الإنسان لحساب خصوصيته الاجتماعية أو الثقافية. وكلاهما يقايض الحق الموضوعي بمعطيات ذاتية مثل الانتماء أو الوظيفة أو السمعة أو الدور الاجتماعي لفرد أو شريحة.
إن فكرة "الحق" ترتبط جوهرياً بمفهومَي العدالة والمساواة، ولا يمكن فصلها عنهما أو تجييرها لصالح سرديات انتقائية، أو مقاييس تصنيفية منحازة، أو تأويلات ثقافية نسبية تفتقر إلى العدالة والموضوعية.
الفئوية وإعادة إنتاج الاصطفاء
إن الفئوية، بوصفها معيارية بديلة عن الطائفية، لا تُنهي منطق الانقسام والإقصاء بل تعيد تشكيل خطوط المواجهة الاجتماعية وفق تصنيفات جديدة: مهنية، أو طبقية، أو ثقافية. لكنها في جوهرها لا تعالج البنية العميقة للأزمة، والتي تتمثل في منطق "الاصطفاء والصفوة" الذي يُعرّف العلاقة بين الذات والآخر على أساس الامتياز لا الندية، وعلى أساس التراتب لا المساواة. وبهذا تعيد الفئوية إنتاج آليات التمييز نفسها، لكن بأقنعة جديدة، وتُبقي على فكرة "الاستحقاق الامتيازي" الذي يُنكر الكرامة بوصفها حقاً كلياً وشاملاً وغير مشروط لكل إنسان، وفي كل زمان ومكان.
الحق الإنساني بين الشمول والاختزال
في ظل صعود المطالب الفئوية على حساب الرؤية الحقوقية الكلية، يصبح ضرورياً أن نعيد التأكيد على أن الحقوق الإنسانية ليست سلعة تفاوضية ولا امتيازاً مشروطاً بالسياق أو الفئة أو الدور الأخلاقي المفترض للمجموعة التي تطالب بحقوقها. إن جوهر حقوق الإنسان يتجاوز الهويات الفرعية والانتماءات الضيقة، لأنه ينطلق من كينونة الإنسان لا من توصيفاته الاجتماعية أو المهنية. وهنا يبدو التساؤل مبرراً:
أليس من واجب القوى الاجتماعية ومؤسسات صناعة الوعي والخطاب الحقوقيَّين أن تطالب بالحقوق الإنسانية لكل العراقيين والعراقيات بوصفهم بشراً أولاً، ومواطنين ثانياً، كما أن من واجب الدولة أن تضمن وتصون هذه الحقوق للجميع على قدم المساواة الدستورية، لا المساومة النقابية أو السمة الاعتبارية أو الوسامة الاجتماعية، وبدون تمييز طائفي أو فئوي؟!
ألا يفترض بحقوق الإنسان أن تكون مكفولة للجميع من حيث كونها حاجات إنسانية طبيعية مُقرّة علمياً ومعترف بها عالمياً، يحتاجها ويستحقها الإنسان من حيث كونه إنساناً؛ وليست امتيازات فئوية أو طبقية تشرعنها سرديات يفرزها التجاذب الاجتماعي - الاقتصادي بين شرائح المجتمع؟!
أليس الأحرى بحقوق الإنسان أن يتم التعامل معها بوصفها استحقاقات بايولوجية (مرتبطة بالوجود الحيوي للإنسان)، وسايكولوجية (مرتبطة بوجوده النفسي)؛ لا باعتبارها امتيازات أيديولوجية (مرتبطة بوجوده الرمزي العقائدي والسياسي) ومعبّرة عن انحيازات وتخندقات هوياتية وجهوية، وتموضعات صِراعية، ومشاريع سلطوية، ومصالح اقتصادية، وشعارات أخلاقية، ومشاعر فئوية وطبقية؟!
ألا يجدر بنا إدراك أن حقوق الإنسان، بحكم المفهوم والتعريف، هي حقوق شاملة وغير انتقائية أو معيارية، أساسية وغير طارئة، موضوعية وغير مشروطة، دائمة وغير مؤقتة، عامة وغير قابلة للاختزال، لا يجوز إنكارها أو إسقاطها أو التلاعب بها تحت أي تبرير أو ذريعة، وغير خاضعة للمقايضة أو الخصخصة، وعلى الدولة ضمانها لجميع أفراد المجتمع بدون استثناء، في كل الأماكن والظروف، وفي كل الأوقات والسياقات؟
الإنسان قبل الفئة، والحق قبل الامتياز
لقد آن الأوان لإعادة التفكير في كيفية مقاربتنا لمفهوم الحقوق في العراق. إن تجاوز الطائفية لا يكون بالوقوع في فخ الفئوية، بل بالخروج من كليهما نحو فضاء أوسع: فضاء إنساني شامل لا يرى في الإنسان سوى شخصيته الطبيعية المجردة من كل الأبعاد المؤسسية والرمزية المُضفاة عليه مجتمعياً وثقافياً، ومن وسوم التمييز والامتياز، ومن ثنائية المكانة والوصمة، ومن كل معايير الفضيلة والتفاضل والأفضلية.
الحقوق لا تُستجدى باسم الانتماء، ولا تُمنح على أساس الولاء، ولا تخضع للمساومة أو المبادَلة، ولا تُفصَّل على مقاس الهويات أو الفئات. إنها ليست عطاءً ظرفياً، ولا امتيازاً تفاوضياً، بل يجب أن تكون أصلاً ثابتاً غير قابل للاختزال أو التقنين الانتقائي باسم الوظيفة أو الطائفة أو الأخلاق أو الانتماء الفئوي. فحقوق الإنسان غاية في ذاتها، لا وسيلة للاسترضاء السياسي، أو الاستقطاب الفئوي، أو جبر الخواطر الطبقية.
تنويه: هذه المقالة تم تطويرها بناءً على أفكار تأسيسية ومسودة أولية ساعدني في بلورة مضامينها وتوسيع بنيتها وإخراجها بهذا الشكل الصديق والرفيق في التفكير روبوت الذكاء الاصطناعي التفاعلي ChatGPT، الذي لا يمكنني أن أعتبره مجرد أداة، بل شريكاً في صياغة هذه الرؤية، وهو ما أفتخر بالإشارة إليه هنا، إكراماً للمعرفة والأمانة العلمية والصدق البحثي.
#همام_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟