أربعة أعداء للديمقراطية!


ادم عربي
2025 / 4 / 6 - 16:47     

بقلم : د . ادم عربي

ترتبط "المبادئ" بالـواقع كما يرتبط "الشيء" ببيئته أو محيطه؛ فلا يمكننا أنْ نُفرِّق بين الشيء وبيئته ونحافظ على ماهيته في نفس الوقت، لأنَّ "الشيء" لا يمكن أنْ يكون كما هو إلّا بفضل تفاعله المستمر مع بيئته،فهذا الشيء على ما هو عليه لسببٍ بسيط وهو لكونه متحداً اتحاداً لا انفصام فيه مع محيطه أوْ بيئته. فإذا فصَلنا الشيء عن بيئته، فإننا نكون قد وضعناه في سياق جديد، مما يجعله يتفاعل بشكل مختلف، وبالتالي يصبح شيئاً آخر بخصائص جديدة.

أما بالنسبة للمبادئ والقيم، فإنَّها تنشأ في السماء بمعناها المجازي، وإذا بقيت حبيسة في عالم الأفكار المجردة أو في عالم أفلاطوني بعيد عن الواقع، فلنْ نتمكن من فهمها أو قياسها. عالمها هذا أوْ مسقط رأسها وهذا الواقع المجرد يشبه فضاءً خالياً من الجاذبية، حيث تتساوى جميع الأجسام في صفرية الوزن
.
يجب على المبادئ أنْ تنزل أولاً من السماء إلى الأرض ، أي إلى أرض الواقع ، فحينها فقط تدبُّ فيها الحياة، وتظهر معانيها الحقيقية التي يمكن إدراكها وتجربتها. ومن خلال ذلك، يصبح بإمكاننا أنْ نحدد موقفاً واقعياً تجاهها. هذا الموقف لا يأتي إلّا من خلال رؤية الشخص للمبادئ والقيم التي أصبحت ملموسة في الواقع، حيث اكتسبت وجودها الفعلي بفضل "عين المصلحة والحاجة"، أي مصلحة الفرد وحاجته الشخصية.

تظل الديمقراطية، بكل مبادئها وقيمها، "أفلاطونية" و"عالمية" طالما بقيت في "السماء"، أي في "عالم الأفكار المجردة". لكن، بمجرد أنْ تنزل إلى الأرض، وتغرس في التربة التي تقع عليها، وتبدأ في التفاعل مع "البيئة الواقعية"، يظهر لها شكل مادي وملامح خاصة، ويصبح لها خصائص حية وواضحة أوْ ككائن حي له ملامحه الخاصة.

لا تهبط الديمقراطية إلى الأرض إلّا كهبوط الفارس إلى ميدان المعركة، حيث تنتظرها العديد من الأعداء المتربصين بها. وأخطر هؤلاء الأعداء أربعة: أولاً، "المال" بما له من سلطة ونفوذ كبير؛ ثانياً، "الدين" عندما ينخرط رجال الدين ومؤسساتهم في السياسة والشؤون العامة؛ ثالثاً، "التعصب" الذي يظهر عندما يلتزم الفرد بجماعة تتناقض طبيعياً مع قيم الديمقراطية، مثل العشيرة أو القبيلة أو الطائفة الدينية؛ وأخيراً، "الخوف" الذي يعيشه المواطن من عواقب ممارسة حقوقه الديمقراطية المحمية دستورياً، بسبب استمرار عمل قوى القمع والإكراه في الدولة، سواء في العلن أو في الخفاء.

الديمقراطية المثلى، تلك التي تمكنت من هزيمة أعدائها الأربعة وغيرهم، وإنْ كانت قد انتصرت عليهم، ما تزال حتى الآن تصوراً خرافياً ، فلمْ يعرف أي من المجتمعات التي تفخر بتقاليد الديمقراطية العريقة هذه الديمقراطية الكاملة، ولم يتمتع بها بشكل حقيقي حتى الآن. يكفي أنْ يستمر وجود عدو واحد، مثل "المال"، ليتسلط على هذه الديمقراطية فيطعن في مبادئها وقيمها الواقعية التي تجسدت في الحياة العملية. لنفترض (وهذا الافتراض يقلل كثيراً من أهمية الواقع والواقعية) أنَّ مجتمعاً من تلك المجتمعات العريقة في الديمقراطية قد مارس الحقوق الديمقراطية كما هي منصوص عليها دستورياً، وأجرى تجاربه الانتخابية نفسها، ولكن من دون تأثير سلطة المال ونفوذه ، فهل ستظل النتائج والعواقب كما هي؟!
لمْ ألاحظ أي مؤسسة في الغرب، الذي يُعتبر رائداً في الديمقراطية، تهتم بشكل جاد بـ "تحليل النتائج"، سواء كانت نتائج الانتخابات أو نتائج الممارسة الديمقراطية بشكل عام. فلا يوجد ما يتيح لها أنْ تقدم لنا صورة واضحة ودقيقة عن التأثير الفعلي والحقيقي لـ "سلطة المال" في هذه النتائج بشكل عام.

يُعد "المال السياسي" في سياق الديمقراطية والانتخابات هو القوة الأساسية لإفساد وتشويه الحياة الديمقراطية، ويعتبر الأكثر تأثيراً ونعومة في هذا المجال، بما يجعل تأثيره مقبولاً بشكل واسع ، فلقد أصبحنا معتادين على وجود هذه القوة وتغلغلها، حتى أنَّها تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من الديمقراطية نفسها، سواء من حيث المفهوم أو الواقع أو الممارسة.

الإيجابيون في موقفهم تجاه هذه القوة أو "العدو الأكبر للديمقراطية"، يستندون في حججهم ومنطقهم إلى تجارب الديمقراطية في العالم الآخر، الذي تنتمي إليه مجتمعاتنا ودولنا العربية ، ففي هذا العالم، لا تزال لعبة تزوير نتائج الانتخابات قائمة، حيث تكون نتائج الفرز مختلفة تماماً عن نتائج التصويت ، كما أنَّ التصويت نفسه يخضع لـ "قانون انتخابي" يضمن تمثيل الأقلية في البرلمان، حتى إذا كانت الأغلبية من الناخبين قد أدلت بأصواتها لصالح هذا التمثيل. أما المشاركة في الانتخابات، من حيث حجمها ونسبتها، فإنَّها تخضع لقانون انتخابي سياسي غير مرئي، يُعرف بـ "عدم الجدوى". فالكثير من المواطنين الذين يحق لهم الاقتراع لا يشاركون فيه بسبب شعورهم، الذي يغذيه الواقع نفسه، بعدم جدوى المشاركة السياسية ، ونتائج الانتخابات تزيد من قناعتهم بأنَّ لا جديد تحت الشمس.

في هذا العالم نفسه، الذي ننتمي إليه حتى في ظل "الربيع العربي" سابقاً وحالياً، لا يزال الخوف من العواقب يشكل جزءاً من إرادتنا السياسية والانتخابية ، فالدولة في بلادنا ما زالت تُعدّ مركزاً للقوى القمعية والإكراه. أما مرحلة الانتقال التي مرَّت و تمرُّ بها دول "الربيع العربي"، فلم تشهد سوى قدر محدود من تحطيم القيود، وهو ما سمح بتحرير "قوى" سرعان ما أسهمت في تقييد الديمقراطية نفسها بأغلال ثقيلة. إذْ بدأ كثير من الناس يدركون وجودهم ومصالحهم وحاجاتهم وحقوقهم ومستقبلهم من خلال الدين أو العشيرة أو القبيلة أو الطائفة الدينية. وقد وُجد من يعزز هذا الوعي بطاقة هائلة من التعصب، مما أدى إلى انغلاق العقول .

هذا التكوين الفسيفسائي في مجتمعاتنا يشكّل تحدياً حقيقياً أمام "الربيع العربي"، حيث يُنتظر منه أنْ يتحول إلى "تعددية ديمقراطية" تُمكّن الديمقراطية الناشئة من التأكيد على قوتها وحيويتها. وإذا لم يحدث ذلك، فسيظل هذا التكوين عرضة للتحول إلى "برميل بارود" يحيط به العديد من عيدان الثقاب المشتعلة، والتي لا تُعد ولا تُحصى.

لقد تضافرت القوى المعادية للديمقراطية الناشئة، وهي "أعداؤها الأربعة الكبار"، ليحولوا هذا "التكوين الفسيفسائي" إلى برميل بارود، يقصفونه بوابل من عيدان الثقاب المشتعلة. أما العاقبة المحتملة لهذا التدمير المتعمد، التي يسعى إليها هؤلاء الأعداء أو بعضهم، فهي جعل القديم يبدو أفضل بكثير من هذا الجديد .