أسامة عبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 8303 - 2025 / 4 / 5 - 14:24
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
إعداد وتقديم : أسامة عبد الكريم ختلان
عن جريدة نيويورك تايمز، كتبت ميكيلي غولدنبرغ مقالة تحمل طابعاً تحليلياً سياسياً لافتاً، تناولت فيها مفارقة بارزة في المشهد العالمي لعام 2024. ففي الوقت الذي شهدت فيه دول كثيرة تراجعاً لليسار وصعوداً للتيارات الرجعية والذكورية، برزت المكسيك كاستثناء مدهش، بعدما وصلت إلى سدة الحكم كلوديا شينباوم، أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ البلاد، وعالمة مناخ تتحدر من أصول يهودية تقدمية، خلفاً للرئيس اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.
نجاح شينباوم لا يُختزل في كونها امرأة في بلد محافظ، يعاني من العنف والفساد وتاريخ طويل من الهيمنة الذكورية على السلطة، بل في كونها تُمثّل نموذجاً سياسياً مختلفًا عن السائد اليوم. في عالم تميل كفته إلى زعامات يمينية مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، و [ نجيب بوكيلي في السلفادور، وخافيير ميلي في الأرجنتين ] *، تبرز شينباوم كنقيض صارخ، لا بصراخها بل بعقلانيتها، لا بالكاريزما الشعبوية بل بالعمل المؤسساتي الهادئ والمتماسك.
ما تقدّمه شينباوم، بحسب غولدنبرغ، هو نموذج يمكن وصفه بـ( الطريق الثالث)** في زمن حادّ الاستقطاب: نهج ديمقراطي اجتماعي لا يعادي السوق بالكامل، ولا يتركه يفترس المجتمعات، ولا يتوسل سلطوية الدولة، بل يوازن بين العدالة الاجتماعية والحريات، بين دور الدولة والمجتمع المدني. ركائز هذا المشروع ليست شعارات كبرى بل سياسات ملموسة: دعم مباشر للفئات المهمشة، رعاية للمسنين، فرص تدريب للشباب، ورفع الحد الأدنى للأجور. وهي خطوات ساعدت في ترسيخ علاقة جديدة بين الدولة والمواطن، علاقة يُعاد فيها الاعتبار إلى الوظيفة الاجتماعية للسلطة.
في المقابل، يعتمد زعماء مثل بوكيلي وميلي على سرديات من نوع مختلف تماماً. بوكيلي، على سبيل المثال، يصف نفسه – بسخرية متقنة – بأنه " أبرد ديكتاتور في العالم"، مدمجاً سلطويته بقناع تكنولوجي عصري، فيما يمضي ميلي في الأرجنتين نحو أقصى أطروحات السوق المتوحشة، متوعداً بـ" تفكيك الدولة" وتصفية مؤسساتها. كلاهما يستخدم أدوات التكنولوجيا والخطاب الصادم لصناعة زعامة تتجاوز الوسائط التقليدية، وتحكم عبر الاتصال المباشر مع الجمهور، في نمط ما يمكن وصفه بـ(الحداثة الشعبوية) ***، حيث تتحول الديمقراطية إلى استعراض دائم، وتُختزل السياسة في شخصية القائد.
على النقيض من ذلك، تُجسّد شينباوم صورة نادرة لقيادة تكنوقراطية، تشتغل من داخل المؤسسات، وتستند إلى منجز عملي لا إلى ضجيج خطابي. والأهم، أنها لم تُقدّم نفسها كزعيمة نسوية راديكالية، بل تجاهلت إلى حدّ كبير الرمزية الجنسية لمنصبها، وكأنها تقول ببساطة: أنا هنا لأنني أستحق، لا لأنني امرأة. وهذا ما منح تجربتها مصداقية أكبر من تجارب نسائية كثيرة ارتكزت على الرمزية وغابت عنها أدوات التغيير الحقيقية.
رغم ذلك، لا تُنكر غولدنبرغ هشاشة هذا النموذج. فالمكسيك لا تزال تواجه تحديات كبيرة: عنف منظم، فساد مستشرٍ، اقتصاد هش، وإرث مثقل من عهد أوبرادور، الذي رغم شعبيته، تعرّض لانتقادات تتعلق بإضعاف بعض المؤسسات وفشل في إصلاح التعليم والصحة. لكن مجرد بقاء مشروع شينباوم حيًا في وجه هذه العواصف هو بحد ذاته رسالة: لسنا مضطرين للاختيار بين استبداد مقنّع ونيوليبرالية مفترسة، ثمة خيار ثالث — خيار عقلاني، عادل، ومتواضع في وعوده، لكنه واقعي في تطبيقه.
من اللافت أن هذا (الطريق الثالث)، الذي بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي حلماً بعيداً، يعود اليوم إلى الواجهة ليس عبر نخبة أوروبية أو زعيم غربي، بل عبر امرأة مكسيكية تتسلح بالعلم والخبرة والعمل اليومي مع الناس. فكرة الطريق الثالث، كما نشأت مع إنريكو برلينغوير في إيطاليا أو مع لويس كورفالان في تشيلي، كانت محاولة لإنقاذ اليسار من تمجيد الدولة، وإنقاذ الليبرالية من تقديس السوق. وهو ما تُحاول شينباوم اليوم ترجمته بلغة معاصرة، عبر إعادة توجيه السياسة نحو العدالة من دون قمع، والإصلاح من دون بطولات، والمؤسسات من دون تجويف.
في عالم تزداد فيه الخنادق بين الشعبوية والاستبداد، تُعيد المكسيك عبر شينباوم الاعتبار للسياسة كفن للممكن، وتعيد الثقة بإمكانية التغيير من داخل الديمقراطية، لا على أنقاضها. قد لا تكون شينباوم (المخلّصة)، كما تقول غولدنبرغ، لكنها بالتأكيد تمثل تذكيراً بأن السياسة لم تمت، وأن النماذج البديلة، مهما كانت هشة، لا تزال ممكنة — بل وضرورية.
——-——————-
* نجيب بوكيلي وخافيير ميلي، اسمان يترددان اليوم كأيقونات لحقبة جديدة من الزعامة السياسية في أمريكا اللاتينية، حيث يتقاطع الخطاب الشعبوي مع أدوات العصر الرقمي، وتتراجع الأيديولوجيات الكلاسيكية أمام موجة جديدة من الزعماء الذين يزاوجون بين الكاريزما الفردية والتكنولوجيا، وبين الشعارات الصادمة والسياسات المتطرفة. في السلفادور، يقدّم بوكيلي نفسه – ساخرا ً– كـ”أبرد ديكتاتور في العالم”، وهو وصف يلخّص قدرته على التلاعب بالصورة واللغة في آن. بخطاب معادٍ للمؤسسة التقليدية، وبحملة أمنية واسعة ضد عصابات الشوارع، نجح في فرض نظام جديد للهيبة والردع، وإن كان ذلك على حساب توازنات حقوق الإنسان. اعتماده للبيتكوين كعملة رسمية لم يكن فقط خطوة اقتصادية، بل فعلًا رمزياً ينقل بلده الصغير إلى واجهة النقاش العالمي حول المال والسلطة والسيادة الرقمية.
في المقابل، يطلّ خافيير ميلي من الأرجنتين كنسخة لاتينية من التمرد النيوليبرالي المتوحّش، بأطروحاته التي تذهب إلى أقصى حدود السوق، وحديثه الدائم عن “تفكيك الدولة” وشيطنة الطبقة السياسية. بأسلوبه الهجومي ومظهره المثير للجدل، لا يكتفي بإثارة الجدل، بل يحوّل السياسة إلى عرض مفتوح على الحافة، حيث لا خطوط حمراء ولا قواعد راسخة. لكن ما يجمع الرجلين، رغم اختلاف الخلفيات، هو هذا المزيج من السلطوية و”الحداثة الشعبوية”، حيث تُستخدم التكنولوجيا لا لتعزيز الشفافية، بل لخلق زعامة فوقية تتواصل مباشرة مع الجمهور وتتجاوز المؤسسات.
** ( الطريق الثالث )، فهو تعبير ظهر في تسعينيات القرن الماضي لوصف محاولة للخروج من ثنائية اليمين الاقتصادي القاسي واليسار الاشتراكي التقليدي. هو تصور يسعى للتوفيق بين آليات السوق ودور الدولة، بين الحريات الفردية والمسؤولية الاجتماعية. إنه خيار يحاول أن يُبقي العدالة ضمن حدود الممكن، وأن يتبنّى الإصلاح دون صدمة، والواقعية دون خضوع. وفي مواجهة نماذج مثل بوكيلي وميلي، يبدو الطريق الثالث كحلم هش، لكنه ضروري، لأنه يذكّر بأن الديمقراطية ليست فقط صندوق اقتراع، بل أيضاً قيم ومؤسسات ومجتمعات لا تنجو بالقوة بل بالتوازن. تعود جذور مصطلح (الطريق الثالث) إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن أول من منح هذا المصطلح بعداً سياسياً واضحاً في السياق الأوروبي المعاصر كان إنريكو برلينغوير، سكرتير الحزب الشيوعي الإيطالي في السبعينيات من قرن الماضي. لم يكن برلينغوير مجرد زعيم حزبي تقليدي، بل مفكراً سياسياً سعى إلى إعادة تعريف دور اليسار في وقت كانت فيه الشيوعية السوفييتية محل التغيير، بينما كانت الرأسمالية الغربية عاجزة عن معالجة التفاوتات الاجتماعية المتزايدة. في سياق انقسام العالم إلى كتلتين متناحرتين: الشيوعية الشرقية والرأسمالية الغربية، حاول برلينغوير صياغة نهج سياسي مستقل لا يتبع موسكو ولا ينصاع لواشنطن. فطرح فكرة (الطريق الثالث) كمسار اشتراكي ديمقراطي يجمع بين القيم الاجتماعية لليسار ومرونة النظام الديمقراطي الليبرالي. لم يكن الهدف هو الوقوف في المنتصف أو إضعاف المواقف، بل كان سعياً لإيجاد خيار واقعي يعزز العدالة الاجتماعية دون أن يكرّس الدولة التسلطية أو يتبنّى منطق السوق الوحشي. كان برلينغوير يؤمن بأن (الديمقراطية هي القيمة العليا التي يجب أن تُحتضن حتى من قبل الشيوعيين)، وهي فكرة مهّدت لظهور ما يُعرف بـ”الشيوعية الأوروبية” التي حاولت التوفيق بين الهوية اليسارية والمبادئ الديمقراطية، مثل التعددية والانتخابات. وفي التسعينيات، عاد مصطلح (الطريق الثالث) ليبرز مجدداً، لكن بصيغة مختلفة، بعدما تبناه زعماء مثل توني بلير وبيل كلينتون، لكن هذه المرة برؤية ليبرالية اجتماعية تخلى فيها عن العديد من عناصر النقد البنيوي الذي تبناه برلينغوير، وتوجه نحو التكيف مع العولمة بدلًا من مواجهتها. ويمكن القول إن (الطريق الثالث) الذي حلم به برلينغوير كان محاولة لإيجاد توازن سياسي وأخلاقي يتجاوز الحتميات، إذ كان يسعى لخلق بديل لا يعزز الشمولية ولا الفردانية المفرطة، بل يعيد للدولة دورها الاجتماعي ويحول الديمقراطية إلى مشروع حي لا مجرد إطار مؤسساتي. أما لويس كورفالان، سكرتير الحزب الشيوعي التشيلي في السبعينيات، فقد كان من الشخصيات البارزة في سياق التحوّل الفكري الذي شهدته بعض الأحزاب الشيوعية في أمريكا اللاتينية. بدأ العديد من هؤلاء الزعماء يدركون أن التغيير الجذري قد لا يتحقق دائماً من خلال القطيعة التامة مع الرأسمالية، بل قد يتطلب التفاهم مع بعض عناصرها. كورفالان، الذي سُجن بعد الانقلاب الذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي في 1973، لم يكن مجرد قائد حزبي متمسك بمبادئه الثورية، بل كان سياسياً واقعيا أدرك حدود المشروع الثوري في لحظة تاريخية حرجة. وقال عبارته الشهيرة: "يمكن أن نتفاهم مع الرأسمالية، شرط أن تعترف بحق الأغلبية في العدالة والكرامة "، مما يعكس تحولًا كبيراً في التفكير الماركسي اللاتيني، حيث انتقل من منطق المواجهة الصفرية إلى منطق التفاوض التاريخي. لم يكن كورفالان ينادي بالتخلي عن الاشتراكية، بل كان يدعو إلى إعادة صياغتها في ظل موازين قوى غير مواتية. وكان يسعى إلى بناء جبهة وطنية عريضة تتجاوز الإيديولوجيا الصارمة، وهو ما جعله مكملًا للفكر السياسي الذي طرحه برلينغوير في أوروبا. هذا التوجه، رغم انتقاده من البعض باعتباره انتهازياً، كان بمثابة لحظة نضج سياسي حقيقي، حيث فهم كورفالان، كما فهم برلينغوير، أن الاشتراكية يجب أن تكون ديمقراطية لتظل قابلة للحياة، وأن الطريق الثالث لا يتم إلا من خلال التفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي المعقد، والإصغاء لاحتياجات الناس بدلاً من فرض الأجندات عليهم.
*** تُفهم (الحداثة الشعبوية) بوصفها ظاهرة تعكس تناقضات الرأسمالية المتأخرة، إذ تمزج بين أدوات الحداثة التقنية – كالمنصات الرقمية، والإعلام التفاعلي، والتسويق السياسي – وبين خطاب رجعي أو مضاد للوعي الطبقي، يوجّه الغضب الشعبي بعيداً عن البنى الاقتصادية الحقيقية نحو عدو وهمي مثل "النخب الثقافية" أو "المهاجرين"أو "المؤسسات العميقة". أن الحداثة الشعبوية لا تُحدث قطيعة مع النظام الرأسمالي بل تعيد إنتاجه بواجهة جديدة؛ فهي تُفرغ السياسة من مضمونها الطبقي، وتستبدل الصراع بين العمال ورأس المال بصراع هويات أو سرديات فردانية. الزعيم الشعبوي هنا ليس قائداً ثورياً، بل مدير أزمة، يوظف أدوات الحداثة لتعزيز سلطته الشخصية، ويمنح الجماهير وهم التغيير دون أن يمس البنية الاقتصادية القائمة. وبينما تبدو الحداثة الشعبوية في ظاهرها ثورية أو مناهضة للمؤسسات، فإنها في جوهرها تخدم إعادة هيكلة السلطة بما يضمن استمرار السيطرة الطبقية، مستخدمة أدوات العصر لتسويق الاستبداد بوجه ديمقراطي زائف.
#أسامة_عبد_الكريم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟