|
الطاغية والطفولة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1800 - 2007 / 1 / 19 - 02:46
المحور:
حقوق الانسان
سلسلة من " الإعدامات " طالت الطفولة ، هنا وهناك من بقاع العالم ، أعقبت شنق الطاغية العراقيّ . أطفالٌ بعمر البراءة ، شاءَ الواحدُ منهم تقليد ذلك المشهد ، الكابوسيّ ، لعملية الإعدام والذي عرضته شاشات التلفزة في بلده ، فدفع هكذا حياته الغضة ثمناً للعبة الموت تلك . الأخبار المتعاقبة ، والمتوافقة مع سلسلة الطفولة ، القاتلة ، تناقلتها وسائل الإعلام في أنحاء المعمورة ، مرفقة بمشاعر الغضب والسخط . إلا عندنا ، في الدول العربية ، حيث تمّ عموماً تجاهل هذا الظاهرة ، شديدة الخطورة حقاً ، من لدن الفضائيات المتباكية على " التوقيت الإجرامي " لإعدام المجرم التكريتي . أو بأحسن الأحوال ( أسوأها في الواقع ! ) ، ما راحتْ به الفضائية الخليجية إياها ، للصمود والممانعة والمقاومة ، من إعادة " مونتاج " الخبر نفسه ، للزعم بأنّ : " طفلاً في صنعاء قد شنق نفسه حزناً على صدّام حسين " ، بغية تسويق هذا الأخير ، ضمن الحملة نفسها ، كما لو أنه " سيّد شهداء العصر " ـ كذا . لم يتنازل كبارنا ، في وسائل الإعلام العربية المختلفة ، إلى مستوى صغار الأطفال أولئك ، الضحايا ، بغية تحليل تلك الظاهرة ، الموسومة ، خصوصاً في القنوات التلفزيونية ، الرصينة ، التي لا تكل ولا تملّ من عرض تحقيقات وندوات عن ظواهر مختلفة في عالمنا ، بعضها أضحى ينتمي لعالم المنقرضات لا الموجودات .
كان من الملاحظ ، فيما يخصّ ذلك الخبر ذاته ، أنّ حكايات شنق الأطفال ، الشنيعة ، كان مكانها هناك في دول العالم الثالث ، النامية تخلفاً وأمية ً وأمراضاً وأوبئة ً وحروباً ! لم نسمع عن طفل غربيّ واحد ( أوروبيّ أو أمريكيّ أو أستراليّ .. ) ، أنه قامَ بتمثيل واقعة إعدام طاغيتنا ، مقلداً إياهاً حتى الموت الزؤام : والسبب ، مؤكداً ، يعود إلى أنّ مجتمع ذلك الغرب ، الراقي ، يفرض قيوداً صارمة على وسائل الإعلام ، وخصوصاً المرئية ، فيما يتعلق بالصور المسموح عرضها للعموم . أما لدينا هنا في المشرق ، المؤمن بالآلهة البشرية وأنصافها وأرباعها ، أكثر من إيمانه بالرب الواحد الأحد ، فلا رقابة واعية ، مقتدرة ، ولا تحزنون . فرقابتنا الحصيفة ، مشغولة بتمحيص الأخبار من كل ما يمسّ ظل الله على أرضه .. ، بغربلة المسلسلات ( إجتماعية كانت أم تاريخية ) من أيّ فكرة حداثوية ، لكي تبقى في " حدود الشرع " ـ لكي تزداد وخامة ً على سقامة ! الطفولة البريئة إذاً ، هي آخر ما يشغل أهل الإعلام والفنّ عندنا ، ما دامت أولوياتهم منصبة على أشياء اخرى ، غير بريئة . معدومو الضمير ، من المستصرخين الضمائر على إعدام صدّام ، همُ في الواقع من أدارَ " فيلم " شنقه على مدار الساعة الفضائية ، دونما أن يكلفوا خاطرهم حثّ الأهل ، ولو بجملة واحدة مبتسرة ، على التنبه لمخاطر هذا البث على أطفالهم . لا بل وأجزمُ ، خالصَ الضمير ، أنه كان في ذهن أهل الفضائيات تلك ( والخليجية أكثر من الجميع ) أن يكون ذلك البث متصلاً بوعي مشاهديها كباراً وصغاراً ، بهدف التحريض وإثارة الفتنة : فأيّ خطاب لهذا الإعلام المسموم نفسه ، غيرَ خطاب التكفير والتخوين وبعث الأحقاد الدينية والمذهبية والعرقية .. ؟
المناحة العربية على إعدام طاغية العصر ، والتي تآلف في معقدها اليساريّ باليمينيّ والعلمانيّ بالإيمانيّ ، كشفتْ مستوى النخب الثقافية والفكرية عندنا ، المزري غالباً ، فما بالك بالدهماء والغوغاء : لا غروَ والحالة هكذا ، أن يكون ردّ فعل تلك النخب على " فيلم " الإعدام ، المثير للزوابع والعواصف ، قابله صمتٌ مطبق فيما يتعلق بسلسلة " إعدامات " الأطفال ، من ضحايا مشهد الفيلم الصدّامي ، الذي أثرناه آنفاً . يقيناً ، أنّ المرءَ " يتفهّم " دواعي ذلك الصمت ، تجاه حوادث فردية هنا وهناك ، كما في موضوع ضحايا الطفولة أولئك ، ما دام مئات الألوف من المدنيين العراقيين ، وجلهم من الأولاد والنساء والشيوخ ، قد توالى على مرّ الأعوام المريرة ، الطويلة ، تقديمهم قرابينَ أمام صنم الطاغية نفسه ، مصحوبين لا بصمت تلك النخب المثقفة وحسب ، بل وأيضاً بتهليلها ومباركتها عبْرَ مهرجانات الشعر في " المربد " وغيره ! فذكرى ضحايا الطاغية هؤلاء ، قد تمّ محوها بيسر وسهولة ، من قبل مثقفينا ، وبجرة من قلمهم " الرصاص " تقول : عملية الإعدام مرفوضة ، من قبلنا ، شكلاً وفعلاً ، ولدواعي حقوق الإنسان ! هذه الجملة ، المنافقة ، تصدرتْ يافطات الأحزاب والكتّاب والنقابات والصحف بين المحيط والخليج ؛ وخصوصاً في الأردن وفلسطين واليمن ومصر .
في كبرى بلداننا العربية ، مصر ، كانت أصوات المدلسين على الفضائيات ، النائحين على الطاغية البعثيّ ، هيَ الأكثر إرتفاعاً ؛ منوّهة بما سبق لنا عرضه من دواع وموجبات " حقوقية إنسانية " رافضة لعملية الإعدام تلك : فقبل غزوة 11 سبتمبر بشهور ثلاثة ـ ونقولها للذكرى قبل كل شيء ـ جرى نقاشٌ حام على صفحات الجرائد والمجلات المصرية عن ظاهرة إجتماعية ، خطيرة ، وسِمَتْ في حينه بـ " جرائم الأطفال " . لقد كانت الآراء ، بطبيعة الحال ، متفاوتة في تحليل الظاهرة عند من أدلوا بآرائهم فيها . إلا أنّ ما يهمنا هنا ، هوَ شبه إجماع تحقق بين أصحاب الآراء تلك ، على أنّ " الشرع " يأمرُ بإعدام كل من يثبت عليه القانون فعل الجريمة بالغاً كان أم قاصراً . إذ ذهب بعضهم إلى التأكيد بأنّ : " الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( من أتى بمجرم فإقتلوه ) .. وأنّ الدعاوى التي تتردد وتدعو إلى تخفيف العقوبة عن الطفل ما دام لم يبلغ عامه الـ 17 ، دعاوى رومانية قديمة ، تم نقلها إلى القانون الفرنسي ، ثم تسربت إلينا ، ولا أساس لها في الإسلام ، خاصة أن الطفل حالياً قد يصل إلى مرحلة البلوغ في سن الثامنة من عمره حسب الدراسات الحديثة " . ( الدكتورة ملكة زرار ، أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة القاهرة : مجلة " نصف الدنيا " المصرية / العدد 591 ـ ص 27 ) . سأوفر على القاريء الكريم إشارات التعجب ، الفاضحة . فما يهمّ هنا ، هوَ إعادة الجزم ، بأنّ مبلغ النفاق في حياتنا المعاصرة هذه ، قد ضرب مقاييس الأزمان السالفة جميعاً .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفلامُ عطلةِ الأعياد ، المفضّلة
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية / 2
-
شيطانُ بازوليني 1 / 2
-
نفوق الوحش ونفاق الإنسان
-
نوتوريوس : هيتشكوك وتأسيس الأدب السينمائي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 3
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 2
-
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية
-
النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟
-
الهولوكوست اليهودي والهلوَسة الإسلاموية
-
سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
-
نادية : نهاية زمن الرومانسية
-
العتبات الممنوعة
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
المزيد.....
-
السفير عمرو حلمي يكتب: المحكمة الجنائية الدولية وتحديات اعتق
...
-
-بحوادث متفرقة-.. الداخلية السعودية تعلن اعتقال 7 أشخاص من 4
...
-
فنلندا تعيد استقبال اللاجئين لعام 2025 بعد اتهامات بالتمييز
...
-
عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بالعدوان على غزة ولبنان
...
-
أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. تباين غربي وترحيب عربي
-
سويسرا وسلوفينيا تعلنان التزامهما بقرار المحكمة الجنائية الد
...
-
ألمانيا.. سندرس بعناية مذكرتي الجنائية الدولية حول اعتقال نت
...
-
الأمم المتحدة.. 2024 الأكثر دموية للعاملين في مجال الإغاثة
-
بيتي هولر أصغر قاضية في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية
-
بايدن: مذكرات الاعتقال بحث نتانياهو وغالانت مشينة
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|