|
حتى تعود الأمور إلى نصابها (مقدمة كتاب الاتحاد العام التونسي للشغل : ثالوث الاستقلالية والديمقراطية والنضالية للرفيق الناصر بم رمضان
جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 06:36
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
حتى تعود الأمور إلى نصابها
في تقديم كتاب الرفيق الناصر بن رمضان الاتحاد العام التونسي للشغل : ثالوث الاستقلالية والديمقراطية والنضالية
يعيش الاتّحاد العام التّونسيّ للشّغل هذه الأيّام على وقع أزمة حادّة تشابكت فيها جملة من العوامل الداخلية والخارجيّة وبات في قناعة الجميع تقريبا، بما في ذلك قيادات الاتّحاد وإطاراته، أن عواقب هذه الأزمة لن تكون إلا أخطر وأشدّ من عواقب كلّ الأزمات السابقة إذا لم يتصدّى لها النّقابيّون بالجرأة والحكمة اللّازمتين ويُجدوا لها الحلول المناسبة.
تفاعلا مع هذه الأّزمة تحركت بعض الأقلام وذهبت المواقف مذاهب شتّى. بعضها اكتفى بالوقوف عند تشخيص الأوضاع فيما حاول البعض الآخر الغوص أكثر لاستجلاء أسباب الأزمة وفهمها. ولا توجد سوى قلّة قليلة ممّن أدلوا بدلوهم في الموضوع حاولت تقديم أفكار ومقترحات لمعالجتها. ويمكن القول إنّ ما هو محلّ اتّفاق واسع هو أنّ المستفيد الأكبر من هذه الأزمة هو قيس سعيّد الذي مارس وما يزال يمارس بشكل مباشر أو غير مباشر ضغوطا متنوّعة على المنظّمة لتبريكها بأيّ شكل من الأشكال وهو بذلك يتحمّل نصيبا من المسؤولية فيما تعيشه اليوم. وما هو محلّ اتّفاق أيضا أنّ القيادة الحاليّة (التي يصطلح عليها البعض بالبيروقراطيّة النّقابيّة) تتحمّل هي الأخرى نفس القدر إن لم يكن أكثر من المسؤوليّة عمّا آلت إليه أوضاع المنظمة الشغيلة في بلادنا.
ضمن موجة الكتابات هذه برز قلم الرّفيق النّاصر بن رمضان، النّقابيّ المعروف في قطاع التّعليم الثّانوي منذ عقود، في سليانة أوّلا ثمّ في سوسة التي استقرّ فيها حتّى السّاعة وعرفه النقابيّون وجها من وجوه اليسار النّقابي. لقد أصدر الرّفيق النّاصر في المدة الأخيرة سلسلة من المقالات تميّزت بميزة افتقدتها الأقلام الأخرى وهي العمق والوضوح وقد ارتأى جمعها مع عدد من المقالات الأخرى في كتيب بعنوان "الاتّحاد العام التونسيّ للشّغل: ثالوث الاستقلاليّة والدّيمقراطيّة والنّضاليّة". وفي رأينا سيمثّل هذا المؤلّف إضافة نوعيّة للمكتبة النّقابيّة في تونس وسيسهم في تحريك البركة الرّاكدة إلّا من مناورات "المكاتب المظلمة".
الرّفيق النّاصر نقابيّ من الجيل اليساريّ الأوّل الذي اندفع إلى غمار النّشاط النّقابي منذ بداية الثمانينات وعايش مرحلة المخاض الكبير الذي عرفته الحركة النّقابية التّونسيّة بُعَيْدَ أزْمة 26 جانفي 1978وقُبَيْل أزْمَة 1985 وأثْنَاءَها. ففي تلك الفَتْرةِ عرفتْ السّاحة صراعَات نقابيّة وسياسيّة على غاية من الحدّة والثّراء تمحورتْ حوْلَ ثلاث قضايا كُبرى كانت أزمة 26 جانفي بلورتها فيما يمكن اعتباره "الأرضيّة النّقابيّة" بشعاراتها الثلاثة: الاِسْتقلاليّة والدّيمقراطيّة والنّضاليّة. وشملتْ النّقاشات والمُجادلات حول هذه الأرضيّة المَفاهيم النّظريّة والفكريّة وكذلك الجوانب العمليّة كما طرحتها التّطوّرات النّقابيّة في ساحة النّضال الميدانيّ. وميزة الكتاب الذي بيْنَ أيدينا للرّفيق النّاصر بن رمضان هي أنّه أعادنا إلى أجْواء تلك الصّراعات وذلك الجدل حول "الأرضيّة النّقابيّة" أو كما أسماه هو "ثالوث الاستقلاليّة والديمقراطيّة والنّضاليّة" الذي يمثّل العمود الفقري لتلك الأرضيّة.
كانتْ أحْداث 26 جانفي 1978 قدْ وضعَتْ أُسُسَ الأرضيّة النّقابيّة المرجعيّة التي ستُصْبِحُ مُنذ ذلك التّاريخ بمثابة المِعْيار الأساسي للفرز النّقابي. وتتمثّل هذه الأسُس في الثّالوث المذكور الذي جرتْ حوله وبسببه المنازلة الكبرى مع حزب الدّستور وغُلاة الاستبْداد البورقيبيّ (الهادي نويرة وعبد الله فرحات ومحمد الصيّاح الخ...). ومنذ ذلك التّاريخ أصبحتْ تِلكَ المبادئ لازمة لا تخلو منها لائحة من اللّوائح أو وثيقة من الوثائق النّقابيّة الرسميّة الصّادرة عن الاجتماعات العامّة والمؤتمرات أو عن أيّ هيكل من هياكل الاتّحاد، فقد كان جميعها يختتم بشعار "عاش الاتّحاد العام التّونسيّ للشّغل مستقلّا وديمقراطيّا ومناضلا". وحَوْلَ هذه الأرضيّة اسْتمرّت المعركة منذُ بداية الثّمانينات من القرن الماضي إلى اليوم ومن الواضح أنّها ستستمرّ لفترة أخرى وستتجدّد فصولها بتجدّد الأزمات النّقابيّة.
لقدْ خيضت بهذا العنوان معارك نقابيّة قويّة ضدّ مساعي السّلطة لتَدْجينِ الاتّحاد. وَقَدْ حَاوَلتْ القوى اليساريّة التّي دخلت معْترك الحياة النّقابيّة في المنتصف الثاني منَ سبعينات القرْن الماضي وقامتْ بِأدوار مهمّة في مواجهة "الانقلاب" و"المُنصّبين" بتكتيكات متباينة، "الافتكاك" و"المقاطعة"، قد وجدت نفسها مباشرة إثر "المصالحة النقابيّة" التي جاءت بها حكومة مزالي (1980-1986) مجبرة على بثّ فصائلها، "لجان المبادرة الوطنيّة" و"المعارضة النّقابيّة الثوريّة" في صفوف هياكل الاتّحاد والانْصهار فيها. وكان الشّباب اليساريّ القادم من الجامعة محمّلا بمخزون فكريّ وسياسيّ ونقابيّ، وبتجربة نضاليّة كبيرة من القوى التي لعبتْ دورًا في محْوِ أثر "المنصّبين" وترْجيح الكفّة لصالح "الشّرعيّين" في عمليّة تجديد هياكل الاتّحاد ومؤسّساته بناء على "لائحة 21 سبتمبر 1980" التي كانت محلّ صراع حادّ بين المتمسّكين بالشّرعيّة كاملة والمتهافتين على الحلّ "التّصالحيّ". واستمرّت المعركة بعْد المؤتمرات القاعديّة من خلال "مؤتمر قفصة" (1981) الذي وقف فيه حوالي نصف المؤتمرين ضدّ "الاستثناء" المسلّط على الأمين العامّ الزّعيم النّقابيّ الحبيب عاشور وكاتبه الخاص صالح برور وطالبوا برفعه فورا ودون شروط فيما لم يرَ بقيّة المتهافتين على حلّ "المصالحة" في ذلك شرْطًا لعقد المؤتمر وانتخاب قيادة جديدة لم يكن الحبيب عاشور من ضمن أعضائها.
ولم تَنْتَهِ المَعْركة عند ذلك الحدّ بل تواصلت في علاقة بـ"الجبهة الوطنيّة" ساهم الاتّحاد فيها إلى جانب الحزب الدستوري الحاكم في أوّل انتخابات تشريعيّة "تعدّديّة" (بالاسم لا أكثر) لسنة 1981 فاز فيها عدد من النّقابيّين بكراسي في البرلمان منهم بعضُ أعضاء المكتب التّنفيذي مِثْلَ عبد الرزاق غربال وناجي الشّعري وسالم عبد المجيد وغيرهم. ومن نتائج هذه المعركة أن عرفت السّاحة النّقابيّة أوّل عمليّة انشقاق جدّيّة (منذ 1956)، ففي ربيع سنة 1984 انشقّ سبعة من أعضاء القيادة، بعد أن قرّرت الهيئة الإداريّة الوطنيّة بقيادة الحبيب عاشور العائد منذ المجلس الوطني لسنة 1982 في خطة "رئيس"، طردهم من الاتّحاد فأسّسوا بدعم مفضوح من الحكومة ما يسمّى بـ"الاتحاد الوطني للشغل" (UNTT) الذي تزعّمه عبد العزيز بوراوي وكان هؤلاء دخلوا في تحالف مع المنقلبين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "الشرفاء" الذي لم يكن يعني في تلك الظّروف أكثر من أعوان السّلطة أو عملائها الفاقدين لكلّ شرف.
بموازاة مع ذلك خيضت معركة أخرى لا تقلّ حدّة وقوّة وهي المعركة من أجل الدّيمقراطيّة النقابيّة. وظهر الشّباب اليساريّ الذي التحق بسوق الشّغل وأخذ بعض المواقع النّقابيّة القاعديّة في عديد القطاعات كقوّة نقابيّة ذات وزن فرضت جدلا قويّا ضد نهج التّسيير البيروقراطيّ التّقليديّ الذي كان يرمز إليه الحبيب عاشور وأعضاده الموالون له. وفي هذا الجدل الذي اتّخذ طابع معارك نقابيّة ميدانيّة حادّة سواء في علاقة بالمؤتمرات النّقابيّة والتّواجد داخل الهياكل النّقابيّة أو بعلاقة بالملفّات المطلبيّة وكيفيّة إدارة الصراع مع السّلطة، احتلّت مسألة الديمقراطيّة النّقابيّة حيّزا هامّا في اهتمامات النّقابيّين واصطدمت البيروقراطيّة بمصاعب حقيقيّة جرّاء الضغوط القاعديّة التي مورست ضدّها.
ويمكن القول إنّ المعركة الدّيمقراطيّة احتدّت ابتداء من شتاء 1984 على إثر إضراب قطاع البريد الشّهير (إضراب العشرة أيّام) الذي لم تعترف البيروقراطيّة بشرعيّته فتمرّد الشّباب النّقابيّ الذي كان يحظى بتأثير كبير في هذا القطاع واستمرّ الاضراب خارج تأطير الهياكل النّقابيّة وسلطتها ولاقى تضامن عديد القطاعات (التّبغ والوقيد وسكك الحديد وعمّال مصنع الرّفاهة (كونفور) الخ...). ثم تلا ذلك موقف الهيئة الإداريّة للتّعليم الثانوي الرّافض لاتّفاقيّة "السّلم الاجتماعيّة" التي أمضتها قيادة الاتّحاد آنذاك بشأن مطالب القطاع دون موافقة النّقابة العامّة. وعلى خلفيّة ذلك اتّخذت القيادة قرار تجميدها. وجرّاء سلسلة من القرارات والممارسات الفوقيّة ارتفع مخزون الغضب القاعديّ وانفجر بمناسبة الاجتماع العمّالي في بورصة الشّغل يوم غرّة ماي 1984، إحياء لعيد العمّال العالمي. وشكّل ذلك التّصادم منعرجا تاريخيّا في حياة الاتّحاد إذْ استغلّه النّقابيّون الدّيمقراطيّون من مختلف القطاعات للتّعبير عن غضبهم ورموا القيادة بكل النّعوت احتجاجا على أسلوبها البيروقراطيّ والفوقيّ في إدارة شؤون المنظّمة والتّعامل التسلّطيّ مع الهياكل والقواعد العمّاليّة، فردّت القيادة النّقابيّة بتجميد أكثر من 180 إطارا نقابيّا من قطاعات التّعليم والبريد وتونس الجوّيّة وسكك الحديد والتّبغ والوقيد الخ... وكان ذلك إيذانا بانطلاق مسار طويل من الصّراع بين مناضلي اليسار النقابيّ في الاتّحاد والقيادة البيروقراطيّة جرت خلاله سلسلة من الأعمال والقرارات وردود الأفعال من هذا الجانب أو ذاك استغلّتها السّلطة للهجوم مجدّدا على الاتّحاد فكانت أزمة خريف سنة 1985 بعد أن تمّ اعتقال الحبيب عاشور من جديد واقتحام مقرّات الاتّحاد وطرد إطاراته بالقوّة واعتقال الكثير منهم وإجراء انقلاب جديد بالاستعانة بجماعة "الاتّحاد الوطنيّ" وعدد من "الشّرفاء" المنقلبين على الهياكل الشرعية.
لقد كانت تلك الفترة واحدة من أغنى الفترات التي مرّت بها الحركة النّقابيّة التّونسيّة. ومردّ ذلك الصّراعات القويّة حول محاور الأرضيّة النّقابيّة التّاريخيّة (الاستقلاليّة/الدّيمقراطيّة/النّضاليّة) التي بلورتها النّضالات ضد تدخّل السّلطة من ناحية وضدّ البيروقراطيّة من ناحية أخرى. وأثمرت هذه الصّراعات نضالات ميدانيّة ولكن أيضا إنتاجا نقابيّا غزيرا عجّت به الصّحف الحزبيّة آنذاك (الطّريق الجديد والمستقبل والموقف) وغير الحزبيّة (الرّأي والبطل والأيّام) والمجلّات المستقلّة (حقائق والمغرب العربيّ الخ...) واغتنت السّاحة ببعض المؤلّفات منها كتاب المناضل النقابيّ والأديب المعروف، الفقيد الطّاهر الهمّامي بعنوان "الدّيمقراطيّة النّقابيّة".
وليس من المبالغة في شيء القول إنّه منذ ذلك الوقت لم تعرف السّاحة النّقابيّة التّونسيّة نفس ذلك الزّخم النّضاليّ في مستوى الإنتاج والنّشاط باستثناء الحركة النّضاليّة التي أطلقها "اللّقاء النّقابيّ الدّيمقراطيّ المناضل" صائفة 2010 الذي أحيى المعركة مرّة أخرى، ولو بشكل نسبيّ وجزئيّ، دفاعا عن الأرضيّة النّقابيّة خاصّة لمواجهة مساعي الالتفاف على مكتسب "تسقيف الحقّ في التّرشّح للمكتب التنفيذي الوطني في دورتين فقط".
ولو أمعنّا النّظر في المحطّات التّاريخيّة الكبرى للحركة النّقابيّة التّونسيّة لأمكن لنا القول إنّ تاريخها هو تاريخ أزمات. وفي خضم هذه الأزمات نشأت الأرضيّة النّقابيّة فأصبحت وقود النّضال من أجل شعاراتها وأهدافها في كلّ الأحوال سواء في زمن الأزمات أو في الظّروف العادية.
إنّ ما يجري اليوم في بطحاء محمّد علي لا يشذّ عن هذه القاعدة إذ يتجدّد الصّراع مرّة أخرى داخل الاتّحاد، صلب القيادة ومن حولها، فيما يرتقي إلى مستوى أزمة حادّة تعود أسبابها العميقة إلى المسألة الدّيمقراطيّة واستقلاليّة المنظّمة عن السّلطة. وكما يقول المثل ربّ ضارّة نافعة إذ على خلفيّة هذه الأزمة عادت الصّراعات، وإن لازالت محدودة وباهتة، لتنتج كتابات افتقدتها السّاحة النّقابيّة لفترة من الزّمن. وضمن هذه الكتابات مجموعة مقالات النّقابي، الرّفيق النّاصر بن رمضان.
يضمّ الكتاب الذي بين أيدينا والذي اختار له صاحبه، عنوان "الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل: ثالوث الاستقلاليّة والدّيمقراطيّة والنّضاليّة"، 14 نصّا نشر البعض منها حديثا، ومازال حبره لم يجفّ بعد، وجاء في إطار التّفاعل مع الأزمة الرّاهنة التي تعصف بالمنظّمة النّقابيّة أمّا البعض الآخر فقد صدر في وقت سابق ولكنّه على صلة وثيقة بذات الموضوع "ثالوث الاستقلاليّة والدّيمقراطيّة والنّضاليّة".
تكمن أهمّيّة هذا الكتاب في كونه أحيى ذلك الجدل الذي شغل السّاحة النّقابيّة في فترات سابقة ولكنّه خبا منذ مدّة طويلة وفسح المجال من جديد لانتشار نوع من الخلط والضّبابيّة في المفاهيم النّقابيّة. ولأنّ ذلك الجدل ظلّ غير مكتمل وانصرفت عنه الاهتمامات لصالح "الحركيّة" الميدانيّة l’activisme وبمعنى أدقّ للّهث وراء افتكاك مواقع داخل المنظّمة وفي أحيان كثيرة بأشكال غير مبدئيّة وبما يتنافى مع المبادئ التي ينصّ عليها ثالوث الاستقلاليّة/الدّيمقراطيّة/النّضاليّة، أصبح بالفعل من أوكد مهامّ النّقابيّين الثّوريّين والدّيمقراطيّين العمل على إعادة الأمُور إلى نصابها.
لقد توفّق الكاتب في تشريح شعارات الأرضيّة النّقابيّة العامّة التي بلورتها الحركة النّقابيّة التّونسيّة على امتداد عقود من الزّمن منذ أحداث 26 جانفي 1978 وأعاد رسم الخطوط العريضة، بل تفاصيل، المفاهيم السّياسيّة والنّقابيّة المتّصلة بمسألة استقلاليّة النّقابات والحياد النقابيّ وعلاقة التحزّب بالانضواء تحت التّنظيم النّقابيّ والعلاقة الجدليّة بين العمل السّياسيّ والعمل النّقابيّ في عموم الحركة النّقابيّة العالميّة وفي التّجربة المحلّيّة التّونسيّة وخصّص لذلك ثلاث مقالات (جدليّة النّقابيّ والسّياسيّ في الحركة النّقابيّة العالميّة وفي الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، في الاستقلاليّة والحياد النّقابيّ، موقع الاستقلاليّة من أزمة الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل).
وقد استهلّ مؤلّفه هذا، وهو اختيار صائب إلى أقصى الحدود، بتحليل معمّق لـ"دور الطّبقة العاملة في التّاريخ" كمدخل لتأطير محتوى الكتاب. فكما جاء في مقدّمة هذا النصّ فـ"إنّ تاريخ الحركات النقابيّة في العالم – ككلّ تاريخ اجتماعي – هو وجه من أوجه صراع الطبقات بل وجهه الأكثر بروزا للعيان يتواجه فيه ويتعارض أصحاب رؤوس الأموال ومالكو وسائل الإنتاج من جهة والقوى المنتجة من العمال والشغّالين من جهة أخرى". ونلمس في هذا النص، كما في بقية النّصوص وإن بدرجات متفاوتة، جهدا كبيرا لتأصيل كلّ القضايا المتصلة بالنّقابات وبالعمل النّقابي نظريّا بالعودة إلى الكلاسيك الماركسيّ. ولذلك لم تكن العودة إلى تاريخ ظهور النّقابات والصّراعات مع التيّارات الفوضويّة والفوضويّة النقابيّة من باب التّرف الفكريّ. إنّ هذا التذكير يكتسي اليوم أهمّية بالغة من زاوية ضحالة الوعي الفكريّ والسياسيّ في الأوساط النّقابيّة والانقطاع عن رصيد الحركة العالميّة وانتشار النظرة السطحيّة للعمل في النّقابات وسيادة الرّوح النّفعية (البراغماتيّة) الانتهازيّة التي حوّلها البعض بكلّ تبجّحٍ إلى عقيدة. وقد نجح الكاتب في رسم اللّوحة التّاريخيّة لتطوّر وعي الطّبقة العاملة بذاتها ونشاطها من أجل ذاتها عبر أدوات وأطر متعدّدة لم تكن النّقابات غير واحدة منها ومدرسة من مدارسها.
وانطلاقا من أنّ التّجربة النّقابيّة التّونسيّة نشأت في رحم النّقابات الفرنسيّة وتأثّرت بها حتّى اشتركت معها في مجمل خصائصها التي تميّز، كما يقول فريديريك انجلس النّقابات في البلدان اللاتينيّة، فقد كان من اللّازم تتبّع مراحل تطوّر الحركة النّقابيّة والوصول إلى الاستنتاج الوارد في هذا النصّ وهو أنّ "كلّ هذه التيّارات التريديونيونيّة في البداية والفوضويّة والفوضويّة - النّقابيّة اليمينيّة في نهاية القرن 20 والفوضوية اليسراويّة المعاصرة تضاف إليها الأرستقراطيّة العمّاليّة التي تحوّلت إلى خاصيّة ثابتة في النّقابات الأوروبيّة ساهمت بدرجة كبيرة جدّا في إضعاف الحركة العمّاليّة العالميّة وأحزابها الثّوريّة بانشقاقاتها ونشر مواقف الوفاق الطبقيّ وضربها وحدة الحركة ممّا حال – إلى جانب عوامل أخرى متعدّدة ذاتيّة وموضوعيّة – دون استكمال الرّسالة التّاريخيّة للطّبقة العاملة وأحزابها الثّوريّة". ذلك ما يجعل بالتالي العودة إلى طرق باب هذه القضايا من جديد والتعمّق فيها كما طرحتها الحركة النقابية التونسية المعاصرة ضمن ثالوث الشّعارات المذكور بالعنوان أمرا ملحّا وعلى غاية من الأهمّيّة.
أمّا المحور الثّاني الذي يضمّ عددا من النّصوص (في الديمقراطيّة النّقابيّة، في تمثيليّة النّقابات، أيّ دور للمعارضة النّقابيّة الدّيمقراطيّة) فهو محور الدّيمقراطيّة الدّاخليّة الّذي اقترن بمسألة الاستقلاليّة عن السّلطة. ومعلوم أنّ شعار تحرير المنظّمة النّقابيّة من هيمنة البيروقراطيّة كان طرح على الدّوام في ذات الوقت الذي كان الاتّحاد يواجه هجوما من البرجوازيّة وأجهزة دولتها. كان ذلك قبيل 26 جانفي 1978 وخلال أزمة 1985 وأيّام التّدخّل لعزل إسماعيل السّحباني في مطلع الألفيّة الحاليّة (2002) في إطار ما سُمّى بهتانا بـ"التّصحيح النّقابيّ". وعلى هذا النّحو تقريبا تطرح المسألة مجدّدا هذه الأيّام. ففي الوقت الذي يسعى فيه قيس سعيّد إلى تدجين الاتّحاد والإعداد إلى تفكيكه والقضاء عليه في إطار القضاء على "الأجسام الوسيطة"، تدخل البيروقراطيّة النّقابيّة في صراع حادّ من منطلق حسابات شخصيّة خاصّة لا تمتّ للدّيمقراطيّة النّقابيّة ولا لمصلحة الاتّحاد بصلة.
لقد شكّل النّهج البيروقراطيّ لازمة من لوازم هيمنة الأرستقراطيّة العمّاليّة التي مسكت بالاتّحاد مبكّرا، من سنواته الأولى، وتحوّلت إلى مكوّن من مكونات التّحالف الطّبقيّ الحاكم وأكبر سند اجتماعي له. لذلك كلّما دبّت الخلافات إلى هذا التّحالف الطّبقيّ إلّا وعاشت البلاد على وقع أزمة اجتماعيّة حادّة. ولذلك أيضا وكي تنجح شريحة الأرستقراطية العمّاليّة في الدّفاع عن مصالحها زمن الأزمات بسطت نفوذها على الاتّحاد وخلقت حزامها الاجتماعيّ (من خلال جهاز النقابات قطاعيّا وجهويّا) وأرست أسلوب تسييرها وتصرّفها وأخضعت له المنظّمة بما يخدم مصالحها ويساعدها على تعديل موازين القوى عند الحاجة.
ومرّة أخرى توفّق الكاتب في الرّبط بين المسألة من النّاحية النّظريّة والمبدئيّة العامّة والرّهانات المطروحة الآن بخاصّيات الظّرف الملموس. فـ "حاجة النّقابات - وكلّ المنظّمات الجماهيريّة - للحرّية والديمقراطيّة مسألة حيويّة جدّا والتّوق إلى نقابة ديمقراطيّة ظلّ يتزايد بأكثر إلحاح سنة بعد أخرى، وقد قفزت هذه المسألة إلى صدارة الاهتمامات واحتلّت مكانة مركزيّة ومحورا أساسيّا من محاور نضال الأجيال الجديدة من النّقابيّين وباتت شعارا من شعارات مؤتمراتهم وملتقياتهم النّقابيّة". ولتعريف الدّيمقراطيّة النّقابيّة كما طرحتها التّجربة الخاصّة للطّبقة العاملة في بلادنا فإنّها "لا تقتصر على أنّها إجراءات تنظيميّة للاحتكام لقانون الأقلّيّة والأغلبيّة وفضّ الخلافات الطارئة في وجهات النّظر يلجأ إليها النّقابيّون عند اللزوم ويطالبون بها غيرهم ثم يتخلّون عنها عندما لا تكون في صالحهم، بل هي سلوك يوميّ وثقافة قارة يتشرَبها النّقابيّ ويتشبّع بها فتتأصّل في حياته وتضعه أمام المسؤوليّة وجها لوجه لتصبح جزءا منها في كلّ أنشطته العامّة والخاصّة بقطع النّظر عن نتيجتها. ثمّ هي شرط من شروط تطوّر لا الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل فقط، بل كلّ منظّمات المجتمع المدنيّ والحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والمجتمعات عموما".
ولكن على خلاف ذلك، كما سبق أن قلنا، فإنّ تاريخ الحركة النقابيّة في تونس هو تاريخ أزمات يمكننا القول، بناء على الشّرح المستفيض الذي قدّمه الكاتب في النّصوص المذكورة، إنّه تاريخ صراع بين البيروقراطيّة النّقابيّة من جهة وأنصار الديمقراطيّة النّقابيّة، الدّاخلية من جهة ثانية.
صحيح أنّ معركة الديمقراطيّة الداخليّة لم تهدأ حتى وإنْ خَفَتَتْ حِدّتها في بعض الفترات ولكنّها تعود اليوم رغم حالة الوَهَنِ التي عليها الاتّحاد والنّضال النّقابيّ عموما وقد نجح الرّفيق الناصر في رسم هذا المشهد وتتبّع مساره قبل الثّورة وبعدها وخصّص لذلك جزءا من نصّ "في الدّيمقراطيّة النّقابيّة" بعنوان "الأزمة الراهنة عنوان بارز لغياب الدّيمقراطيّة النّقابيّة". وإلى جانب ذلك لم يغفل الكاتب عن التّطرّق إلى الضّلع الثّالث من الثّالوث المكّون لـ"لأرضية النّقابيّة" وهو "النّضاليّة" فتطرّق إليه عبر مجموعة من النّصوص (النّقابة المناضلة والنّقابة المساهمة، جدليّة الموقف والموقع في النّقابات، في تمثيليّة النّقابات الخ...) ليعيد طرح التّناقض الأصليّ بين توجّهين أساسيّين، توجّه نقابة التّعاون الطبقيّ مع البورجوازيّة وخدمة مصالح نظامها على حساب العمّال وهو التوجّه السائد في تاريخ الحركة النقابيّة التّونسيّة من جهة وتوجّه النّقابة المناضلة ذات المهجة الطبقيّة العمّاليّة الواعية بدورها في إعداد شروط القضاء على الاستغلال الرّأسمالي وهو ما يطمح إليه النقابيّون المنحازون بشكل قطعيّ إلى جانب العمّال في صراعهم مع رأس المال من جهة ثانية. وفي هذا الصّدد يقول الكاتب المنتصر بكلّ تأكيد لهذا التوجّه الثاني الذي يرى في تحقيقه حتميّة لا مجرّد تمنٍّ فارغٍ، في خاتمة مقاله "النّقابة المساهمة والنّقابة المناضلة": "ولا جدال في أنّ تغيير موازين القوى عمليّة طويلة شاقّة ومضنية تحصل بالتّراكم واختبار النّقابات والنّقابيّين في المعارك الطبقيّة اليوميّة، ومهما تفتّقت مواهب البرجوازية وبيروقراطيتها النقابيّة في لجم الصّراع الطبقي بشتّى الوسائل فإنّ النّقابات المناضلة هي التي ستؤول إليها الكلمة الفصل في المعارك النّقابيّة القادمة وهي الوحيدة الحاملة للتّغيير النّقابي الدّيمقراطيّ كرافد من روافد المعركة الوطنيّة والدّيمقراطيّة الشّاملة". ضمن هذه "العمليّة الشّاقّة والمضنية" من أجل عودة الصراع إلى مداره الحقيقيّ حول "ثالوث الأرضيّة النّقابيّة" التي خطّتّها الطّبقة العاملة التونسيّة بالعرق والدّم يندرج هذا الكتاب الذي يحمل رسالة قويّة إلى الضائعين في متاهات الصراع البيروقراطيّ/بيروقراطيّ الدّائر رحاه اليوم حتّى يكفّوا عن أن يكونوا حَطَبَ معارك ليستْ معاركهم وأن يصوّبوا أسلحتهم النّقابيّة صوْبَ الهدف الحقيقيّ.
إنّ إعادة الأمُور إلى نصابها صلب الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل لَهِيَ اليَوْمَ المهمّة التي تفرض نفسها على كافّة النقابيين/النّقابيّات الذين لا يريدون لمنظمة حشاد الانهيار والتفتّت سواء بفعل مناورات سلطة الاستبداد المعادية للأجسام الوسيطة أو بفعل الحسابات الضيّقة لبيروقراطيّة نقابيّة لا ترى أبعد من أنفها ومن زاوية مصالحها الأنانيّة. جيلاني الهمّامي تونس - جانفي 2025
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحول (الجزء الثا
...
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل - الجزء ال
...
-
ألمانيا تربط مع تاريخها النازي
-
أزمة ... فهدنة وتبقى دار لقمان على حالها
-
يا عمال العالم، اتحدوا شاخ البيان ولكنه ما زال راهنا وحيويا
-
فشل سياسة -التهميش الاجتماعي- وعودة الحركة الاضرابية
-
الخلافات الرئيسية داخل اليسار هي حول قيس سعيد
-
إعادة كتابة الجغرافيا
-
المتلازمة التونسية Le syndrome tunisien
-
حكومة ترامب الجديدة حكومة أغنى أغنياء أمريكا
-
في ذكرى تأسيس الاتحاد: مرّة أخرى في الأزمة النقابية وشروط تج
...
-
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرّف
...
-
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرّف
...
-
ترامب على خطى أسلافه: جنون العظمة ونزعات الغطرسة والتوسّع وت
...
-
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرف
...
-
أزمة الاتحاد: المخاطر واضحة والطريق إلى الحلّ أوضح
-
مرة أخرى حول الموقف من تطورات الوضع في سوريا
-
حول التقرير السنوي للرابطة التونسية لحقوق الانسان
-
منعرج جديد وخطير في حياة الاتحاد
-
سقوط نظام الأسد في سوريا: في ميزان الربح والخسارة
المزيد.....
-
من منزلك بكل سهولة.. خطوات تجديد منحة البطالة في الجزائر 202
...
-
طريقة الاستعلام عن رواتب المتقاعدين لشهر مايو 2025 العراق
-
نقابة الصحافيين المصريين تطالب تجميد اتفاقية كامب ديفيد
-
مصر.. نمر يهاجم أحد العمال في سيرك طنطا ويلتهم جزءا من ذراعه
...
-
انخفاض معدل البطالة في إيطاليا إلى أدنى مستوى منذ 2007
-
صرف 10 مليون دينار من مصرف الرافدين للموظفين والمتقاعدين.. ت
...
-
النقابات وأصحاب العمل يتفقون على زيادة الاجور
-
أصل المزارعين الأوائل في حوض النيل.. دراسة تأتي بالدليل
-
فرص ومخاطر: كيف تُعيد الخوارزميات تشكيل ملامح سوق العمل؟
-
صدمة بمواقع التواصل بعد جريمة إعدام عمال الإغاثة في رفح
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|