فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 12:10
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
العنوان أعلاه لمقال قديم للباحث والمفكر محمد أركون، تناول فيه مسألة الهوية من خلال نموذج لم تفكّر فيه الشعوب التي تتمتع بتاريخ طويل كالشعوب الأوروبية والعربية. إنه النموذج الذي تقدمه سنغافورة، التي هي كيان نشأ حديثًا بوصفه دولة، أي بوصفه تجربة سياسية، وكذلك بوصفه مجتمعًا مدنيًا متعدّد الاثنيات، والثقافات، واللغات ؟
في حديثه عن هذا النموذج، المنشور قبل نحو ثلاثة عقود في مجلة «مواقف» اللبنانية، يذكر أركون أن سنغافورة حتى عام 1965 كانت مستعمرة إنجليزية، وكما في كل المستعمرات، كانت مختلف التجمعات المتعددة ثقافيًا منطوية على نفسها، وتمارس كل منها، بصورة مستقلّة، عاداتها، ونظامها الداخلي، وآلية رقابتها وتماسك التجمّع، ولكن دون أن يكون في داخلها أي تجديد ممكن.
إنّ تأسيس دولة سنغافورة، عام 1965، أدى إلى دينامية تاريخية حركت تجمعاتها كلّها، كما أدى إلى تطورات جديدة على مستوى الهوية، يرافقها نظام اقتصادي منفتح على الخارج، ومبدأ الاستحقاق الفردي من خلال الترقية الثقافية والجماعية، بعدما تتحوّل الجماعة إلى خلاصة للمجتمعات التي تعمل من أجل مصير تاريخي واحد، قائم على التضامن. ويُسوِّغ هذا المصير التاريخي النجاح الاقتصادي، والفعالية السياسية، والحرية التعاقدية، بالإضافة إلى نظام تربوي يعترف بتعددية الجماعات، ويفرض لغة رسمية مشتركة تسمح بالانفتاح على العالم الخارجي الحديث، واللغة المقصودة هي الإنجليزية.
يُعيد هذا النموذج، بصورة فعالة، سيرورة تكوّن الهوية الجماعية التي أثبتت قيمتها على مستوى أوسع بكثير في الولايات المتحدة الأمريكية. بهذا المعنى، تنظر الشعوب الأوروبية القديمة إلى الولايات المتحدة كتكوّن جديد للهوية مرتبطة بفترة زمنية قصيرة ومتميزة بقدرة هائلة على استيعاب التجمّعات الجديدة التي لا تفتأ تصل إلى هذا المجتمع الذي تتشكل منه اليوم الولايات المتحدة.
هذه النظرة التحليلية والنقدية الأولية، حول تكوّن ما نسمّيه، بسرعة وبكثير من الانفعال، الهوية، لم يستعملها البحّاثة بعد حتى عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات الأوروبية. وهذا أيضًا ينطبق على مجتمعاتنا العربية التي استسلمت، كما يعرف، للتصريحات الملتهبة، الدفاعية، والعدائية أيضًا، لما تسميه الهوية في مواجهة قوى الرفض والتفكّك التي فرضتها عليها الحداثة منذ القرن التاسع عشر.
ونستطيع القول إن طاقة النخب السياسية العربية استأثرت بها الحاجة لوضع أيديولوجيا للمعركة، وذلك لتأمين التحرر اللازم من السيطرة الاستعمارية أولاً، ثم لقيام جهود البناء الوطني غداة التحرر على أسسٍ للهوية هي، أساسًا، اللغة العربية، والثقافة العربية، والإسلام في مراحله الأولى. وكما يقول، ونحن نعرف مدى الإفراط الأيديولوجي الذي قاد إليه الخطاب القومي: لقد استُعْمِلت اللغة العربية بوصفها
وسيلة ديموغوجية، في بعض الدول العربية، أكثر بكثير من استعمالها كأداة لبناء نظام حديث يقضي بإدخال المجتمع في الحركة الراهنة للتاريخ. وكم تَغَنت الثقافة العربية بنفسها، ومجّدت نفسها، ليس فقط في الخطابات الرسمية حول «التراث»، إنما أيضًا في نتاجات مثقفينا الأكثر شهرة. وهذه الثقافة التي تنتمي، في أبرز مقوماتها، إلى المدى الذهني للقرون الوسطى، خرجَتْ، في الواقع، كليًا من الذاكرة الجماعية، ومن ذاكرة النخب أيضًا. والدراسات الأكثر موضوعية، على المستوى العلمي، حول هذه الثقافة، كُتِبت بالألمانية والفرنسية والإيطالية، وقليلاً جدًا ما تُكتب بالعربية والفارسية والتركية.
إن أفضل دراسة حول تاريخ اللاهوت الإسلامي، خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، كتبها بالألمانية جوزيف فان أسّ. هناك نتاجات كبرى في الفكر الإسلامي وفي الأدب العربي الكلاسيكي لا تزال محفوظة كمخطوطات أو منشورة بصورة رديئة. أما بالنسبة إلى النتاجات المنشورة، فليس ثمة بَعدُ دراسات حديثة تُعيد إبراز هذه النتاجات (التي يستندون إليها في تحسسهم للهوية) إلى الوعي الجماعي، في ضوء الواقع الراهن.
وبقدر ما كان خطاب الهوية يُطرح بحدة في الماضي، كانت قليلة النتاجات أو الدراسات المتعلقة بالدور الذي يريد التخيل الجماعي أن يفرضه على التراث. وبهذا الصدد، يمكننا مقارنة الدينامية الخلاقة، والروح النقدية والليبرالية التي تحلّى بها جيل طة حسين، مع المراقبة الأيديولوجية والرقابة الاجتماعية، ومع امتثالية الخطابات والتمثّلات التي جعلت المناخ الثقافي في المجتمعات العربية المعاصرة عقيمًا.
إن الاستعمار الذي ظل يُنظر إليه طويلاً كحجة لتفسير ما حل بهمويتنا من تقهقر، يمكن تشبيهه اليوم بالدور الذي تلعبه السياسات الوطنية حيال الهويات، استعمال كلمة «تشبيه» لأن المقصود، برأيه، ليس أبدًا الانتقاص من التأثير السلبي للاستعمار، لكنه أراد أن يشير إلى قدرة التفكيك والتصدع الناتجة عن السياسات الزراعية والصناعية التي تم الاعتماد عليها في بلداننا منذ الستينيات ورافقها توَهُّم اشتراكي بتحقيق المساواة بين الفلاحين وتشجيع صناعة منافسة للصناعات الغريبة المتقدمة.
ولم نُقَوِّم النتائج الفاجعة، لما اطلقوا عليه اسم الثورة الزراعية، على هوياتنا الثقافية الأكثر صلابة طوال قرون، ويعني بذلك، الهويات المتعلقة بالفلاحين وأهل البداوة والمرتبطة بزراعة الأرض، وهي (أي الزراعة) غير منفصلة عن الرموز الغنية جدًا لما سمّيناه، لفترة طويلة، الثقافة الشعبية.هذه الثقافة التي همشتها الثقافة العالمة، المكتوبة، ثقافة النخب المدينية.لكنها على الرغم من ذلك، استمرت في المحافظة، داخل القطاعات الواسعة لمجتمعاتنا، على أشكال أساسية من التضامن تشكّل في حد ذاتها ضمانة لقيمنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وفي مقابل ذلك، يعتقد أن عملية الهدم القاسية التي أدت إليها قرارات وطنية، للصلة بين الفلاح وأرضه، بين البدوي ومحيطه الصحراوي وحضارته الرعوية، ولدت ظاهرة مُفجعة وصفها علماء الاجتماع بـ«الاقتلاع». ومَثل الشجرة التي تُقتلع من جذورها ينطبق هنا تمامًا على مجتمعات بأكملها، مُقتلعة هي الأخرى من نظامها الرمزي الذي يرقى إلى قرون عدّة. على المستوى السوسيولوجي، ظهر الاقتلاع عمليًا في مجتمعاتنا كلها، من خلال الانتقال من الطور الشعبي إلى الطور الطور الشعبي، أي من خلال من مرحلة طويلة كانت معالم الهوية فيها واضحة بالنسبة إلى الجميع، إلى مرحلة أخرى اختفت فيها هذه المعالم كلها.
أما الشعبية التي أشار إليها أركون فهي، برأيه، الحالة الاجتماعية الجديدة التي تدفع الفلاحين وأهل البداوة المطرودين من قراهم ومن قبائلهم إلى العيش حول المدن الكبيرة حيث يكوّنون غالبًا مساكن فوضوية، ويؤثرون، شيئًا فشيئًا، على النسيج المديني التقليدي حيث تعيش تلك الهوية الأخرى المتمثلة بالثقافة المدينية، العالمة، المكتوبة، والتي يتألف منها موضوع خطابنا الدفاعي والتبريري وتتألف منها أيضًا آيات التمجيد، في البرامج المدرسية وفي الخطاب الرسمي على السواء.
ثم ينهي أركون مقاله موضحًا، قد تكون هذه المراجعة متشائمة، لكنها تتطابق ومعطيات البحث السوسيولوجي والاستقصاء التاريخي. وليس هنا أبدًا التشهير بأخطاء سياسة ونقضها، وإنما هو ببساطة توجيه الأذهان المعاصرة نحو استيعاب كل النتائج السلبية الظاهرة في مجتمعاتنا، وذلك في محاولة تحديد رؤية سياسية جديدة لا تتحوّل أسيرة لملاحقات الهويات المتخيلة، بل تشجع، على العكس، المشاركة الديمقراطية لكل المواطنين في تحديد استراتيجيات جديدة للتطور والنموّ.
هكذا، نُلامس هنا شرطًا أساسيًا من شروط المصلحة الفردية والجماعية من أجل إعادة إنتاج هوياتنا في إطار تاريخي واضح ينتمي إلى العصر الحديث.
إن مصير الهويات الوطنية، يتعلق، على حد قوله، بدرجة حرية الفكر والعمل التي ستُمنح للمواطنين وبإمكانات استعمال هذه الحرية المتاحة من قبل مجتمعاتنا، والتخلص من كل الروابط والعوائق الذهنية التي فرضناها على أنفسنا بحجة إحياء «هوياتنا». وكما يذكر، لم تكن، في واقع الحال، إلا مجرد استيهامات حول الهوية. ويذكر أيضًا أن الالتزام بكل أفعال الحداثة وكل أماكن إنتاجها، إما من أجل ممارسة تيقظنا النقدي، وإما لكي نُثري، من خلال إسهامنا الخاص، مسيرة هذه الحداثة وأبعادها. ومن الطبيعي، عندئذ، أن يدعم عندنا هذان المسعيان المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟