|
مُتابعات - عدد خاص – العدد السّابع عشر بعد المائة بتاريخ التّاسع والعشرين من آذار/مارس 2025
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 12:01
المحور:
الادارة و الاقتصاد
عدد خاص: عَرْض بعض نماذج آليات النّظام الرأسمالي: التدخُّل المُستمر للدّولة لدعم الشركات الإحتكارية والأثرياء
ألمانيا - الحرب كعلاج لأزمة الإقتصاد الرأسمالي تم طَرْحُ احتمال تحويل إنتاج بعض قطاعات الصناعات الثقيلة في أوروبا، وفي ألمانيا بشكل خاص، من صناعة الألات والتجهيزات المَدنية إلى إنتاج المُعدّات العسكرية، كخيار استراتيجي في مواجهة الأزمة التي تعيشها بعض القطاعات كالصلب والكيمياء وصناعة السيارات، في ظل الضغط الأمريكي على أعضاء حلف شمال الأطلسي ( تُشكل الدّول الأوروبية أكثر من 90% من أعضائه ) وفي ظل التّوَجُّه الأوروبي المتزايد نحو إعادة التسلح، ورُبما لا تهدف إعادة التسلح الأوروبية إلى حرب مستقبلية، ناهيك عن حرب مع روسيا أو الصّين، بل إلى مكافحة أزمة فائض الإنتاج وإعادة التصنيع في بلدان الإتحاد الأوروبي، وزيادة مبيعات الأسلحة في الخارج... في هذا السّياق أعلن الرئيس التنفيذي لشركة فولكس فاعن أوليفر بلوم، خلال مؤتمر صحفي عقده في مدينة فولفسبورغ، يوم الثلاثاء الحادي عشر من آذار/مارس 2025 ، إن الشركة العابرة للقارات منفتحة على دراسة إنتاج معدات عسكرية للجيش الألماني، كأحد الحُلُول للخروج من أزمتها، حيث واجهت شركة فولكس فاغن – منذ بداية الحرب في أوكرانيا – النتائج السّلبية لخضوع حكومة ألمانيا (ومجمل دول الإتحاد الأوروبي) للقرار الأمريكي بمُقاطعة النّفط والغاز الرُّوسِيّيْن الرّخيصَيْن، فارتفعت أسعار الطاقة وواجهت شركة فولكس فاغن انخفاضًا في صادرات السيارات من 2,4 مليون سيارة سنة 2019 إلى 1,2 مليون سنة 2024، ولم تتمكن من إنجاز انتقالها من إنتاج السيارات التقليدية إلى إنتاج المركبات الكهربائية، مما أدى إلى إعلان تسريح عشرات الآلاف ( حوالي 35 ألف عامل) وإغلاق ثلاثة من مصانعها العشرة في ألمانيا. كانت سلطات ألمانيا النازية ( 1933 – 1945) تُشجع وتدعم شركة فولكس فاغن التي تنتج السيارات وكذلك مركبات عسكرية مثل العربات الشهيرة من نوع ( Kübelwagen و Schwimmwagen ) التي استخدمها جيش ألمانيا النّازية خلال الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى العربة العسكرية Type 181 للجيش الألماني الغربي بدعم أمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، وحافظت شركة فولكس فاغن على البُنية التّحتية وعلى القُدرات الصناعية لتحويل بعض مصانعها من إنتاج المركبات والمُعدّات المدنية إلى التصنيع العسكري، ويتميز مصنع "فولفسبورغ" العملاق وهو أكبر مصانع مجموعة فولكس فاغن بمساحة مبنية تبلغ 1,6 مليون متر مربع، وبعض مصانع شركة فولكس فاغن، مثل مصنع "أوسنابروك"، بالبنية الأساسية المتقدمة، مثل خطوط التجميع والقدرة الكبيرة على التصنيع والوصول إلى شبكات لوجستية واسعة النطاق (75 كيلومترا من الطرق و60 كيلومترا من خطوط السكك الحديدية في فولفسبورغ وحدها، وبعض الخصائص الأخرى التي تُساعد على التّحوّل من تصنيع المركبات المدنية إلى المركبات العسكرية، أو أو أجزاء من الشاحنات العسكرية أو المركبات المدرعة الخفيفة، وصرّح أرمين بابرغر، مدير شركة راينميتال ــ إحدى الشركات العسكرية الرائدة في أوروبا ــ "إن مصنع أوسنابروك سيكون مناسباً جداً للإنتاج العسكري نظراً لقدرته الهيكلية"، واقترح إمكانية الاستحواذ عليه لتصنيع معدات مثل مركبة لينكس القتالية، بعد إنجاز بعض التعديلات، لأن هذه المصانع مصممة للمركبات المدنية الموجهة للسوق وليس للدبابات أو الأسلحة الثقيلة، والتي تتطلب رافعات عالية السعة ومكابس متخصصة والتعامل مع مواد مختلفة مثل الدروع، ولذلك يُتوقع أن تتكفل الدّولة والإتحاد الأوروبي بضخ استثمارات كبيرة – من المال العام – لإنجاز هذا التّحَوُّل، فضلا عن ضمان عُقود مع الجيش الألماني وجُيُوش أوروبا، مما يعني إن عسكَرَةَ الإقتصاد الألماني والأوروبي تتمّ بالمال العام، على حساب الإنفاق الإجتماعي وعلى حساب ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات... تتعاون شركة Rheinmetall منذ سنوات مع شركة MAN Truck & Bus، وهي جزء من شركة Volkswagen القابضة من خلال شركة Traton، في إنتاج الشاحنات العسكرية، منذ عُقُود، وتقوم شركات مثل Rheinmetall و KNDS بتحويل مصانع السيارات لأغراض الدفاع، مثل استحواذ KNDS على مصنع لعربات السكك الحديدية في "غورليتز" لإنتاج المركبات المدرعة.
دَوْر الدّولة في الحدّ من "حُرّيّة السّوق" تُؤكّد السياسات الأمريكية زَيْفَ “حُرِّيّة السُّوق” ورَفْض المُنافَسَة، وتعمّدت جميع الدّول الرأسمالية انتهاك كافّة قواعد السوق الحرة، وذلك من خلال دَعْم الشركات ورأس المال الخاص، باستخدام المال العام، بدل دَعْم الرعاية الاجتماعية، وتعمّدت جميع الدّول الرأسمالية الإمبريالية خَلْق مناخ مُوات لشركاتها في مجال التجارة الدّولية والتّوسّع المالي والإقتصادي… تُعتبر المؤسسات المنبثقة عن لقاء "بريتن وودز" ( 1944) كالبنك العالمي وصندوق النقد الدّولي ومنظمة التجارة العالمية، جُزْءًا من المنظومة الرأسمالية الإحتكارية ( أي الإمبريالية) حيث رَوّجت هذه المؤسسات – خصوصًا منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين - “ضرورة إلغاء القيود التنظيمية"، واعتماد الخصخصة كحلول لمشاكل الفقر في العالم، في جميع الدّول سواء كانت غنية أم فقيرة وأظْهَرت تجارب الصّين وكوريا الجنوبية واليابان إن لجهاز الدّولةِ دَوْرٌ مِحْوَرِيٌّ في التّطور الرأسمالي الصناعي، كما لعب جهاز الدّولة والمصارف المركزية – وليس الشركات الخاصة والأثرياء ورأس المال الإحتكاري – دورًا رئيسيا في إلغاء القُيُود لمصلحة رأس المال، وكذلك في إنقاذ الرّأسمالية من أزماتها، سواء بعد 1929 أو بعد الحرب العالمية الثانية أو خلال الأزمات المالية خلال القرن الواحد والعشرين: أزمة 2008 وأزمة وباء كوفيد (2020/2021)، وتَتَدَخَّلُ الدّولةُ في الصين لدعم الشركات في مجالات الصناعة والتكنولوجيا، فيما تتدخّل الدّولة في الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات حمائية ضد الشركات الأجنبية المُنافِسَة للشركات الأمريكية، ويتدخّل جهاز الدّولة الأمريكية لضخ الأموال في صناديق المصارف والشركات الخاصّة، فضلا عن الحوافز والتخفيضات الضريبية، وكذلك لقمع العُمّال الذين يُطالبون بزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل، كما حصل خلال رئاسة جوزيف بايدن ضد عُمال الصّحّة والسكك الحديدية والموانئ والبريد وغيرها…
عرقلة التّطوّر الطبيعي في البلدان المُسْتَعْمَرَة لم تكن الدّولة أبدًا جهازًا مُحايدًا أو حَكَمًا بين الطّبقات، بل جهازًا يخدم طَبَقة الأثرياء في عهد الرأسمالية في بلدان المركز الرأسمالي، كما في بلدان الأطراف، ولعبت الدولة الاستعمارية البريطانية ( على سبيل المثال وكذلك الدّولة الإستعمارية الفرنسية) خلال الحقبة الإمبريالية، دوْرًا أساسيا في هيكلة سوق العمل في المُستعمرات واستخدمت الإدارة الاستعمارية وسائل قَسْرِيّة لمُصادرة الأراضي الزراعية، ولإجبار المزارعين الأفارقة أو الآسيويين على العمل المجاني أو شبه المجاني في مزارع المُستعمِرِين البريطانيين والفرنسيين بدلاً من العمل لصالح أنفسهم، وفرضت الدّولة الإستعمارية ضرائب مرتفعة على المُزارعين الأفارقة والآسيويين ومنعتهم من زراعة المحاصيل التي قد تنافس إنتاجَ المزارعين البريطانيين والفرنسيين، وكان تدخّل الدّولة الإستعمارية حاسمًا في التّطوّر الرّأسمالي وفي استخراج القيمة الزّائدة ( الفرق بين قيمة أجور العمال وقيمة ما ينتجونه – يُرجى مُراجعة المُلاحظة آخر النّص ) لأن الدّولة تُجبر الشعوب الأصْلِيّة الواقعة تحت الإستعمار على العمل المجاني ( السّخرة) مما يُتيح لشركات “المَرْكز” الإستعماري زيادة استخلاص القيمة الزائدة من خلال زيادة معدل استغلال العمالة سواء في البلدان الواقعة تحت الهيمنة الإستعمارية أو استغلال العُمال المهاجرين في بلدان “المَرْكز”، واستخدمت الدّولةُ وكذلك الشركاتُ الأرباحَ – المُسْتخلصَة من معدلات عالية من القيمة الفائضة من العمال – للاستثمار في التقنيات المعززة للإنتاجية لزيادة قدرتها التنافسية وللهيمنة على القطاعات الإستراتيجية على مستوى دولي…
نموذج كوريا الجنوبية تَطَوَّر الإقتصاد الرّأسمالي في اليابان وكوريا الجنوبية بفضل تدخّل الدّولة والتخطيط الاقتصادي المنظم من قِبَل الدّولة وفَرْض الانضباط بالقُوّة على العمالة الرّخيصة والمَقْموعة، لتحويل الإقتصاد الزراعي إلى اقتصاد تهيمن عليه الصناعات الثقيلة ثم التكنولوجيا المتقدمة، ولم تتمكّن الشركات الكُورِيّة من منافسة نظيراتها في الأسواق العالمية بفعل “اليد الخَفِيّة للسّوق” بل بفضل تدخّل الدّولة الذي أدّى إلى “تشويه” أسعار السوق عمداً وإشراف الدّولة مباشرةً على آليات إنتاج النمو الاقتصادي وتجاهل كل قواعد “السوق الحرة”، وكانت الدولة الكورية الجنوبية تمتلك وتسيطر على جميع المصارف التجارية، وكانت تَخْتار وتُحَدِّدُ الشركات التي تتلقى التمويل وبأي شروط، وأدّى تلاعب الدولة بأسعار السوق وحماية الشركات المحلية من المنافسة الأجنبية ودَفْعها إلى التصدير مقابل الدّعم المالي الحكومي، إلى تسهيل تراكم رأس المال، حيث تدخلت الدولة لتحديد الأسعار من أجل خلق فرص استثمارية مربحة، فقد حددت الدولة أسعارا منخفضة للمدخلات الصناعية مثل الكهرباء والصلب والمواد الكيميائية والغاز والألياف الصناعية لصالح الشركات المحمية، ممّا مَكّن هذه الشركات – بدعم من الدّولة – من استثمار المزيد من عائداتها في البحث والإبتكار لتطوير التقنيات الحديثة.
نموذج الصّين اتّبعت الصّين نهجًا مُماثلاً، لكن باسم “الإشتراكية”، ولا علاقة لها في الواقع بالإشتراكية لأن الدولة الصينية عملت في إطار القواعد الرّأسمالية وقواعد منظمة التجارة العالمية، لإقْرار السياسة الصناعية بطرق جديدة، وأظْهَرت قُدْرَةً كبيرة على توجيه التمويل إلى صناعات مختارة وانْتِقَاء الفائزين، تمامًا كما حصل في كوريا الجنوبية، وبقيت الصناعات الإستراتيجية مثل التعدين وإنتاج الطاقة تخضع لسيطرة الدولة التي تُحدّد القطاعات التي يُمْنَعُ فيها الإستثمار الأجنبي، وتسهيل استثمار الشركات الأجنبية التي يُمْكِنُها المُساعدة على نقل التكنولوجيا، كما تُوفِّرُ الدّولة مدخلات رخيصة لتعزيز القُدْرة التّنافُسية للشركات الصينية على المستوى العالمي، وبذلك تمكّنت شركات مثل هواوي ( الاتصالات الرقمية ) من تجاوز شركات عريقة مثل “إريكسون”، وأصبحت، خلال ثلاثة عقود ( 1987 – 2017 ) أكبر شركة مُصَنِّعَة لمعدات الاتصالات في العالم، بفضل دعم الدولة الصّينية التي استخدمت سُلْطَتها لتطوير التّصنيع بفعل الأجور المنخفضة وقمع أكبر قوة عاملة في تاريخ العالم، فقد زادت ساعات العمل المتوسطة بشكل كبير منذ سبعينيات القرن العشرين، ليمتدّ أسبوع العمل في “هواوي” إلى اثنتين وسبعين ساعة ــ اثنتي عشرة ساعة في اليوم، لستة أيام في الأسبوع ــ وبذلك كان تحقيق التّقَدُّم التّكنولوجي للشركات الصينية ( كما الكورية الجنوبية واليابانية قبلها) بفعل زيادة استغلال العمال بدعم من الدّولة التي عملت على تحويل العديد من السلع والخدمات إلى سلع تجارية ــ فألغت مبدأ التوظيف الآمن، “مدى الحياة”، وسوَّقَت خدمات رعاية الأطفال، وألغت أغلب الضوابط المفروضة على أسعار المواد الغذائية، مما زاد من الضغوط على العمال لحملهم على العمل لساعات أطول مقابل أجور زهيدة، فتمكّنت الشركات الصّينية من زيادة معدل القيمة الفائضة ــ من خلال الجمع بين أيام العمل الطويلة والتكنولوجيات المتقدمة ــ لأن الطبقة العاملة الصينية مُنضبطة – غصبًا عنها – ورخيصة نسبة إلى القيمة التي تنتجها، ومتزايدة المهارة، وقد استخدمتها الدولة لجذب الاستثمار الأجنبي وتحفيز نقل التكنولوجيا، وتوليد النمو الاقتصادي السريع. لم تكن الصين دولة استعمارية، ولكنها استغلّت موارد وعمالة وأسواق إفريقيا وجنوب آسيا منذ العقد الأخير من القرن العشرين، خلال المُنعَطَف الذي جسّدته “مَدْرسة دنغ هسياو بِنْغ” وتَمَثَّلَ في الدّفاع عن الرّأسمالية بدون قِناع، وغمرت الصين بلدان إفريقيا وبلدان أخرى في آسيا وأمريكا الجنوبية بالسلع الرّديئة والرخيصة فقَضَت على الصناعات التقليدية المحلّيّة ضمن عملية إغراق واسعة النّطاق، وحققت الشركات الصينية فوائض ضخمة – بإشراف وتوجيه الدّولة – مكّنتها من الإستثمار في صناعة السيارات والطّائرات والإتصالات والطّاقات البديلة والتكنولوجيا، ولم تعترض الدّول الرأسمالية المتطورة على سيطرة الشركات الصينية على بعض القطاعات في إفريقيا، واعترضت الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي طريق الصّين لمّا بدأت السّلع والخدمات الصينية تُنافس الشركات “الغربية” في المجالات ذات القيمة الزائدة المُرْتفعة والتي تتطلب تطوُّرًا تكنولوجيا تُريد أمريكا الشمالية وأوروبا احتكاره…
الإقتصاد الأمريكي نموذج تحول الإقتصاد الصّناعي إلى اقتصاد ريعي يعتمد الإقتصاد الأمريكي – أكبر اقتصاد عالمي - على بعض القطاعات الإستراتيجية (كالإتصالات والتكنولوجيا المتقدّمة والصناعات العسكرية) وعلى المُضارَبة التي عَمَّقَت الفجْوَة الطّبَقِية المتزايدة وزادت من تركيز السُّلْطة المالية ( وبالتالي السياسية) في أيدي عدد أقل من الناس، وأصبح اقتصاداً منفصلاً بشكل متزايد عن الواقع… لماذا يعجز الملايين من الأميركيين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، ويُواجه ملايين منهم أزمة الدّيُون الإستهلاكية بينما يُنفق أغنى الأميركيين أموالهم على السلع والخدمات الفاخرة؟ الجواب: لأن الإقتصاد الأمريكي مبْنِي على خدمة الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم من نمو الأصول في سوق الأوراق المالية، وليس في الاقتصاد الحقيقي، فقد تُسجّل سوق الأوراق المالية أرقاما قياسية مُرتفعة بشكل يُناقِضُ وضْع عشرات الملايين من الفُقراء والمُشرّدين والعاملين بدوام جُزْئي وبعقود هَشّة، وفي الصّف المُقابل يجمع الأثرياء ثروتهم من الإقتصاد الرّيعي المَبْنِي على تضخم الأصول في سوق الأسهم والعقارات، ولم تَأْتِ مكاسب هؤلاء الأثرياء من خلال الإستثمار في الإنتاج وخلق الثروات، ومع اتّساع الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، أصبحت نسبة العشرة في المائة الأعلى دخلاً من الأمريكيين تُمثّل حوالي نصف الإنفاق الاستهلاكي ــ بزيادة نحو أربعة عشر نقطة مائوية على مدى السنوات الثلاثين الماضية - وهو استهلاك نخبوي يَعكس تركيز الثروة لدى أقلية تُهدّد الإستقرار الاقتصادي، وتتمتع هذه الأسر بدخول سنوية بمعدّل 250 ألف دولار أو أكثر، وهي قادرة على التّأثير في الإقتصاد من خلال خفض الإنفاق وإلحاق الضّرَر بحياة نسبة 80% من السّكّان، وفق موقع صحيفة وول ستريت جورنال ( 23 شباط/فبراير 2025 ) .
جهاز الدّولة في خدمة الأثرياء نَمتْ ثروات الأثرياء بهذه السُّرعة ( من خلال المضاربة وتحويل المال إلى سلعة) بفعل الإندماج التام بين أثرى الأثرياء ومؤسّسات الدّولة الرأسمالية عمومًا والأمريكية خصوصًا وتمثّل هذا الإندماج في إلغاء القُيُود التّنظيمية، وإقرار قوانين التخفيضات الضّريبية للأثرياء، من قِبَل السّلطات التشريعية والتنفيذية ( وليس من قِبَل "اليد الخفية" المزعومة للسوق) ونمت ثرواتهم كذلك بفعل الأموال الرخيصة التي يمنحها لهم المصرف المركزي – خصوصًا خلال فترات الأزمة التي يُسبّبها هؤلاء الأثرياء المُضارِبُون – مما يُغذّي التّفاوت المُتزايد في الثّروة، فقد تمكّن الأثرياء، خلال السنوات التي أعقبت الأزمة المالية ( 2008/2009) من زيادة عائداتهم بفعل استثمار الأموال التي حصلوا عليها بسعر فائدة منخفض جدًّا، بينما لجأ الكادحون والفقراء إلى الدّيون الإستهلاكية التي زادت قيمتها بنحو تريليون دولارا، وارتفعت قيمة هذه الدّيون عندما قرّر الإحتياطي الأمريكي زيادة أسعار الفائدة واستفاد الأثرياء من خفض سعر الفائدة فحصلوا على مبالغ طائلة استثمروها في شراء الأُصُول ( لأن الإقتصاد الأمريكي أصبح مبنيا على القطاع المالي وليس على القطاع الصناعي) ثم استفادو من ارتفاع أسعار الفائدة حيث حققوا عوائد على استثمار الأموال الرّخيصة في اقتصاد الرّيع، لأن سُرعة نمو الثروة لم تعد تحصل من خلال الإقتصاد الحقيقي، بل من خلال امتلاك واستغلال الأصول. يُمثّل دونالد ترامب فئة العشرة بالمائة الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة بفضل الإقتصاد الرّيعي، ويمثّل فئة المُضاربين في قطاع العقارات والأصول والأوراق المالية، وقد يُؤَدِّي رفع الرسوم الجمركية إلى ارتفاع الأسعار وفقدان الوظائف وضُعْف شبكة الأمان الإقتصادي والإجتماعي، مما يجعل العاملين والفُقراء يتحمّلون العبء الأكبر لنتائج هذه السياسات التي يدّعي دونالد ترامب إنها تُمكّن من “تصنيع السلع داخل الأراضي الأمريكية وتأمين سلاسل التوريد وتعزيز أجور العمال والازدهار” لكن الحرب التجارية تُشكّل نقيضًا للإقتصاد الليبرالي الكلاسيكي وإذا ما حَصَل انتعاش فإنه سوف يكون تحت سيطرة الأوليغارشيين الذين اعتادوا انتهاك حقوق العمال وخفض الأُجُور والإعتماد على العمالة الهشة، وقد بدأت إدارة دونالد ترامب قَضْم ما تَبقّى من حقوق العمال – وهي أصلاً مُهتَرئة في الولايات المتحدة – من خلال قرارات تقويض مجلس العلاقات العمالية وإلغاء حقوق النقابات، والتّضحية بمصالح العُمّال مقابل انتعاش افتراضي…
خلاصة لم تتطور الرأسمالية بفعل "المنافسة الحُرّة" أو بفعل "اليد الخَفِيّة للسُّوق" بل بفعل تدخّل الدّولة باستخدام سلطاتها القسرية لدعم الشركات وفَرْضِ “الإنضباط” على العُمّال بالقُوّة ( القَمع) وأظهرت التجارب التاريخية إن الدّولة قادرة على فَرْض رواتب مُجْزِية وظروف عمل مقبولة تُساعد على تحسين الإنتاجية وعلى تشريك العُمّال في التخطيط وفي تقييم الإنتاج ومناخ العمل…
مُلحق القيمة المُضافة: يعتمد حجم معدل فائض القيمة على طول يوم العمل وعلى مستوى الإنتاجية، والصراع على الأجور وقُدرة الشركات وجهاز الدّولة على قَمْع الحركة العُمّالية، فكلما تطورت القوى الإنتاجية، انخفض الوقت اللازم لإنتاج السلع المأجورة اللازمة لإعادة إنتاج الطبقة العاملة، وارتفع فائض القيمة، وهو ما حصل في تايوان واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية التي جرّبت مَزْج التكنولوجيا المتقدّمة بمستويات الأجور المنخفضة وبالقمع لأي محاولة احتجاج، مما رَفَع معدلات القيمة المُضافة بشكل غير مُعتاد في الدّول الرأسمالية ومما يُفسّر التطور السريع الذي شهدته هذه البُلدان التي كانت مُدَمَّرَة بفعل الحُرُوب، وتُعد كوريا الجنوبية نموذجًا للدّراسة لأن الأرباح المرتفعة في صناعات الإنتاج الضخم لم تنبع فقط من الاستثمارات في الآلات وأساليب العمل الحديثة (ما يسميه ماركس “استخراج فائض القيمة النسبي”) ولكن أيضاً من أطول أسبوع عمل في العالم، وهو ما يسميه ماركس “استخراج فائض القيمة المطلق”.
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليبرالية الإنتقائية - من العَولمة إلى الحِمائية
-
دوّامة الدُّيُون في البلدان الفقيرة
-
المغرب 23 آذار/مارس 1965 – 2025
-
الولايات المتحدة وإعادة تشكيل النظام الرأسمالي العالمي
-
متابعات – العدد السّادس عشر بعد المائة بتاريخ الثّاني والعشر
...
-
السُّجُون الأمريكية - قطاع اقتصادي مُرْبِح
-
عرض شريط -فتْيان النِّيكل- ( Nickel Boys ) للمخرج -راميل روس
...
-
ملامح الإقتصاد الأمريكي سنة 2025
-
ذكرى وفاة كارل ماركس ( وُلد يوم الخامس من أيار 1818 وتوفي يو
...
-
متابعات – العدد الخامس عشر بعد المائة بتاريخ الخامس عشر من آ
...
-
تونس بين خطاب -الإستقلالية- واستمرار واقع التّبَعِيّة
-
الحركات النسوية ومسألة الإنتماء الطبقي
-
متابعات – العدد الرّابع عشر بعد المائة بتاريخ الثامن من آذار
...
-
حرب اقتصادية تَقُودُها الدّولة
-
بعض مفاهيم الإقتصاد السياسي
-
موقع الهند في منظومة الهيمنة الأمريكية – الجزء الثاني
-
موقع الهند في منظومة الهيمنة الأمريكية – الجزء الأول
-
متابعات – العدد الثّالث عشر بعد المائة بتاريخ الأول من آذار/
...
-
ثقافة تقدّمية: هاياو ميازاكي، مُبدع الرُّسُوم المُتحركة
-
تبديد أوهام القروض الصغيرة للفُقراء
المزيد.....
-
ارتفاع أسعار النفط بنسبة تتراوح بين 3 و3.5%
-
الصين واليابان وكوريا الجنوبية تستعد لرد مشترك على رسوم ترام
...
-
اكتشاف حقل نفطي ضخم في بحر الصين الجنوبي
-
تراجع حاد بالأسهم الأميركية وأسواق أوروبا واليابان تخسر بسبب
...
-
مفاجأة في سعر الذهب اليوم الإثنين 31 مارس 2025
-
رويترز: صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا تهوي 19% في مارس
-
كرستين لاغارد: رسوم ترامب تبشر بمسيرة نحو استقلال أوروبا
-
قرض صندوق النقد الدولي للمغرب: عبء إضافي على الدين العام أم
...
-
بريطانيا تتأهب لزلزال اقتصادي بسبب رسوم ترامب الجمركية
-
الحكومة الروسية: منتدى القوقاز الاستثماري 2025 منصة رئيسية ل
...
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|