الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 04:51
المحور:
الصحافة والاعلام
تخيّل لو أن الأطباء بدلاً من معالجة المرضى انشغلوا في التشكيك في كفاءة بعضهم البعض، أو أن القضاة تركوا ساحات العدالة ليخوضوا معارك شخصية على منصات التواصل. يبدو هذا السيناريو عبثياً، لكنه تماماً ما يحدث اليوم في بعض الأوساط الصحفية المغربية، حيث تحولت بعض المنابر إلى مسارح صراع بين الإعلاميين أنفسهم، بينما تظل قضايا المواطن في الخلفية، مهملة، منسية، بلا صوتٍ حقيقي.
ما الذي يدفع صحفيين، يُفترض أنهم يمارسون أسمى أدوار الرقابة والمساءلة، إلى الغرق في حروب شخصية تُنشر على الملأ؟ هل هو البحث عن الإثارة؟ أم أن الإعلام فقد وظيفته الأساسية وبات أداة لتصفية الحسابات؟ عندما تتحول مهنة نبيلة كالإعلام إلى حلبة ملاكمة، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس عن أخلاقيات المهنة فحسب، بل عن مستقبلها ذاته.
في أي مجتمع يتدفق فيه النبض بالحياة والتفاعل، تظل الصحافة تلك الأداة التي لا غنى عنها، تلك البوصلة التي توجه الأنظار نحو ما يستحق التأمل والنقاش، وتلك العدسة التي تكشف زوايا الواقع المعتمة. لكن ما يحدث في المغرب، وربما في أماكن أخرى من العالم، يشبه تحولاً غامضاً ومقلقاً، حيث يبدو أن بعض الصحفيين قد ألقوا بأنفسهم في متاهة من المعارك الشخصية، تاركين خلفهم هموم الناس ومشاغلهم الحقيقية. كان من المفترض أن تكون التحقيقات الاستقصائية سيفاً مسلطاً على الفساد، وصوتاً يفضح التجاوزات، لكنها في لحظات كثيرة تحولت إلى مجرد ساحة لتصفية الحسابات، تنعكس تفاصيلها على صفحات الصحف وشاشات المنصات الرقمية كأنها عرض مسرحي لا ينتهي.
هذا الانحراف ليس وليد اللحظة، بل هو مرآة تعكس واقعاً إعلامياً يعيش في دوامة من الاضطرابات العميقة. عندما يتحول الصحفي من ناقل أمين للحقيقة إلى لاعب في ملعب الخصومات الكلامية، يفقد الإعلام تلك الروح التي جعلته يوماً حارساً للمصلحة العامة، ومنارة تشير إلى مواطن الخلل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ليس فقط عن أسباب هذا التحول، بل عن كيفية تحول هذه الظاهرة من استثناء عابر إلى قاعدة راسخة تحكم المشهد. كيف وصلنا إلى نقطة أصبح فيها الصراع بين أهل المهنة أكثر إلحاحاً من القضايا التي كانوا يوماً يدافعون عنها؟
لعل الإجابة تكمن في نسيج معقد من العوامل التي تتشابك كخيوط متشابكة في لوحة غير مكتملة. أول هذه الخيوط يتمثل في طبيعة المهنة في عصر الإعلام الرقمي، حيث بات الصحفيون تحت وطأة ضغط هائل لإنتاج محتوى يجذب الأنظار ويحقق الانتشار السريع، بغض النظر عن عمقه أو صدقيته. الإثارة، كما نعلم جميعاً، هي الوقود الذي يحرك عجلة الاهتمام الجماهيري، وهكذا تحولت المواجهات الشخصية بين الإعلاميين إلى مادة خام تُقدم للجمهور على طبق من فضة، كما لو كانت حلقة جديدة من مسلسل درامي يترقبه المتابعون بشغف. الصحفي الذي كان يُنظر إليه كمحرك للحوار العمومي وموقد لشعلة التفكير، أصبح في كثير من الأحيان جزءاً من لعبة لا تنير العقول، بل تزيد من ضبابية المشهد وتعمق الانقسامات.
ثم هناك الجانب الاقتصادي، ذلك العامل الذي لا يمكن تجاهله في أي نقاش حول أزمة الصحافة. في المغرب، كما في أماكن أخرى، تعيش المهنة تحت ظل أزمة تمويل لم تعد خفية على أحد، حيث تجد المنابر نفسها مضطرة للبحث عن سبل البقاء في سوق لا يرحم. هذا الوضع يدفع البعض إلى التضحية بالموضوعية على مذبح الإثارة، وإلى تحويل الصراعات الشخصية إلى سلعة تباع وتشترى، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن أبسط مبادئ المهنية. النتيجة هي إعلام يعيش على هامش الواقع، يقاتل من أجل استمراريته بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو فقدان دوره كمراقب نزيه وصوت للحقيقة.
لكن التساؤل الأعمق يظل معلقاً في الهواء: من الذي يتحمل تبعات هذا الوضع؟ الإجابة لا تحتاج إلى كثير من التفكير، فالمواطن هو الضحية الأولى والأخيرة لهذا الانحراف. ذلك المواطن الذي يتطلع إلى إعلام يضيء له الطريق، ويسلط الضوء على قضاياه اليومية، يجد نفسه فجأة محاصراً بمعارك لا تعنيه، وصراعات لا تمت إلى واقعه بصلة. عندما يُستنزف الوقت والجهد في سجالات لا طائل منها، تغرق القضايا الكبرى تحت أنقاض الجدل العقيم، وتتحول الأولويات إلى مجرد أصداء بعيدة لا يسمعها أحد.
الإعلام ليس مجرد أداة لنقل الأحداث، بل هو قوة حية تشكل وجدان المجتمع وتوجه أفكاره. لكنه عندما يتحول إلى حلبة يتصارع فيها الصحفيون أنفسهم، يضيع الهدف الأسمى، وتتآكل الثقة التي بُنيت على مدى عقود. المواطن، في هذا السياق، لا يجد أمامه سوى خيارين: إما أن يغرق في حيرة أكبر، أو أن يتخلى تماماً عن متابعة ما يُنشر ويُبث، مفضلاً الصمت على الانخراط في ضجيج لا معنى له. هكذا يصبح الإعلام، الذي كان يُفترض أن يكون مرآة صافية تعكس الواقع بكل تفاصيله، مجرد سطح مشروخ يقدم صورة مشوهة لا تخدم أحداً.
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا الوضع يشبه مسرحية عبثية، حيث يتقمص الجميع أدواراً لم يُعد أحد يفهم مغزاها. الصحفيون الذين كانوا يوماً أبطالاً في مواجهة الظلم والفساد، باتوا اليوم أحياناً أبطالاً في مواجهة بعضهم البعض، تاركين الجمهور يتفرج على مشهد لا يدرك فيه أحد من هو البطل ومن هو الشرير. هذا التحول ليس مجرد أزمة مهنية، بل هو أزمة هوية تهدد جوهر الصحافة كمؤسسة اجتماعية. فما الذي يجعل الصحفي يختار أن يقاتل زميله بدلاً من أن يقاتل من أجل الحقيقة؟ هل هو الضغط الخارجي، أم الفراغ الداخلي، أم مزيج من الاثنين معاً؟
ربما يكون من السهل إلقاء اللوم على الإعلام الرقمي وسرعته المجنونة، أو على الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمهنة، لكن هذا لن يكون كافياً لفهم الصورة كاملة. هناك شيء أعمق يتعلق بثقافة المهنة نفسها، تلك الثقافة التي بدأت تفقد بوصلتها تحت وطأة التحديات المتلاحقة. الصحفي، في نهاية المطاف، هو إنسان يتأثر بما حوله، لكنه أيضاً مسؤول عن اختياراته. عندما يختار أن يجعل من نفسه طرفاً في نزاع بدلاً من أن يكون صوتاً للضعفاء، فإنه يساهم، ولو دون قصد، في تعميق الأزمة التي يعيشها الإعلام.
ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر أن هناك ضغوطاً خارجية تلعب دوراً كبيراً في هذا السياق. التمويل، على سبيل المثال، ليس مجرد مسألة لوجستية، بل هو سلاح يمكن أن يُستخدم لتوجيه الإعلام أو لإسكاته. في بلد مثل المغرب، حيث تعتمد العديد من المنابر على دعم غير مستقل، يصبح من الصعب الحفاظ على خط تحريري حر لا يخضع لأجندات خارجية. هذا الواقع يضع الصحفي في موقف لا يُحسد عليه: إما أن يتماشى مع التيار ليضمن استمراريته، أو أن يتمرد ويواجه مخاطر قد تكلفه وظيفته أو حتى حريته.
لكن مهما كانت الأسباب، فإن النتيجة تبقى واحدة: إعلام يفقد بريقه يوماً بعد يوم، وجمهور يفقد ثقته في المؤسسات التي كان يراها يوماً مصدراً للمعرفة والتنوير. المواطن العادي، ذلك الذي يعيش هموم الحياة اليومية ويتطلع إلى صوت يمثله، يجد نفسه أمام مشهد يشبه السيرك أكثر منه إلى منبر للحقيقة. القضايا الكبرى، سواء كانت متعلقة بالفساد، أو التعليم، أو الصحة، تصبح مجرد هوامش في ظل ضجيج الصراعات الشخصية التي لا تهدأ.
في هذا السياق، يصبح من الضروري التوقف قليلاً والتفكير في الدور الحقيقي للصحافة. هل هي مجرد أداة للترفيه والتسلية، أم أنها مؤسسة تحمل على عاتقها مسؤولية تاريخية في بناء مجتمع واعٍ ومستنير؟ الإجابة على هذا السؤال ليست نظرية فحسب، بل هي دعوة للعمل. الصحفيون أنفسهم مدعوون لإعادة تقييم أولوياتهم، والعودة إلى جذور المهنة التي بُنيت على خدمة الحقيقة لا على خدمة الأنا. لكن هذا لا يمكن أن يحدث في فراغ، فالمجتمع بأكمله، من قراء ومؤسسات وسلطات، مطالب بالمساهمة في إعادة ترميم هذه المرآة المشروخة.
إن إعادة بناء الثقة في الإعلام ليست مهمة سهلة، لكنها ليست مستحيلة أيضاً. تبدأ هذه العملية من الداخل، من الصحفي نفسه الذي يجب أن يدرك أن دوره لا يقتصر على كتابة الأخبار، بل على تشكيل رؤية للمستقبل. وتمتد إلى الخارج، إلى الجمهور الذي يحتاج إلى أن يكون أكثر وعياً وانتقائية فيما يستهلكه من محتوى. الإعلام الرقمي، بكل تحدياته، يقدم فرصة ذهبية لإعادة تعريف هذا المجال، لكنه يتطلب أيضاً إرادة جماعية لتحويله من ساحة للصراع إلى منصة للحوار البناء.
في النهاية، الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة تحمل في طياتها قدرة هائلة على التغيير. لكن هذه القدرة تظل معطلة ما دامت الأولويات مشوشة والرؤية ضبابية. إذا أردنا أن نرى مرآة تعكس الواقع بصدق ووضوح، فعلينا أن نعمل جميعاً على إصلاح الشروخ التي أصابتها، ليس فقط من أجل الإعلام، بل من أجل مجتمع يستحق أن يرى نفسه كما هو، بكل عيوبه وإمكاناته.
```
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟