وليد عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8294 - 2025 / 3 / 27 - 07:43
المحور:
القضية الفلسطينية
تشكّل القضية الفلسطينية نموذجًا فريدًا في الصراع مع الاحتلال، ليس فقط لطول أمد المواجهة، ولكن أيضًا لتعقيداتها الجيوسياسية والاجتماعية التي جعلتها مختبرًا لفهم حدود المقاومة المسلحة وفاعلية الوحدة الوطنية. إن ما يُروّج أحيانًا على أنه “انتصارات” عسكرية لفصيل معين أو إنجازات جزئية في منطقة محددة ليس إلا وهمًا يخفي كارثة أكبر تتمثل في تفتيت الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني، مما يؤدي إلى إضعاف مشروع التحرير برمّته. وبدلًا من التركيز على حساب الخسائر والأرباح في جولات القتال، يجب إعادة النظر في مفهوم النصر الحقيقي: هل هو تدمير بعض أهداف العدو، أم ضمان استمرارية الوجود الفلسطيني على الأرض كشرط أساسي لتحقيق الدولة المستقلة؟ هذه القراءة النقدية تحاول تفكيك إشكالية “الانتصارات الجزئية” ومقارنتها بالواقع الكارثي الذي يُهدّد بقاء الفلسطينيين، مع تسليط الضوء على الدور الحاسم للوحدة الوطنية والدبلوماسية العربية في مواجهة المشروع الاستيطاني الإحلالي.
إن معيار النجاح في حركات التحرر الوطني لا يُقاس بعدد الضربات التي تُوجّه إلى العدو بقدر ما يُقاس بمدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية، وعلى رأسها الصمود. فالاحتفال بتدمير دبابة أو إسقاط طائرة في ظل تهجير آلاف العائلات ومسح مدن بأكملها من الخريطة يُشبه الاحتفال بإحراق سفينة للعدو بينما تغرق الأرض تحت أقدامنا. من هنا، فإن القضية ليست في حجم الخسائر التي يُلحقها الفلسطينيون بالاحتلال، وإنما في إفشال مشروعه الأساسي القائم على التطهير العرقي والاقتلاع. فتاريخ الحروب يثبت أن إبادة شعب بأكمله ليست انتصارًا للمعتدي بقدر ما هي جريمة، كما أن بقاء هذا الشعب في أرضه رغم التحديات هو الانتصار الأكبر في حد ذاته. لهذا، فإن إعادة تعريف مفهوم المقاومة لتشمل كافة أشكال الصمود وليس فقط العمليات العسكرية بات ضرورة استراتيجية وليس ترفًا نظريًا.
في هذا السياق، يبدو واضحًا أن الاحتلال لم يعد يهدف فقط إلى هزيمة الفلسطينيين عسكريًا، بل يسعى إلى تحقيق نصر أكثر خطورة: تفكيك البنية الديمغرافية الفلسطينية وجعل بقائهم على أرضهم أمرًا مستحيلًا. فمنذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم، يعمل المشروع الصهيوني على استكمال مسار التهجير بأساليب متعددة: عبر القصف والدمار المباشر، أو من خلال سياسات “التطهير الناعم” التي تشمل حصار المدن، وتدمير مقومات الحياة، ودفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية تحت ضغط الواقع المعيشي. ولعل ما يجري في غزة والضفة والقدس يكشف أن الاحتلال لا يراهن فقط على تفوقه العسكري، بل أيضًا على تفكك الفلسطينيين داخليًا، وهو ما يمنحه فرصة ذهبية لتنفيذ مخططاته بأقل تكلفة ممكنة.
الانقسام الفلسطيني ليس مجرد تباين سياسي أو صراع على السلطة، بل أصبح عاملًا رئيسيًا يُغذّي استمرارية الاحتلال. فحينما تتحوّل الخلافات الداخلية إلى سلاح يُستخدم في معارك جانبية بين الفصائل، فإن المشروع التحرري بأكمله يصبح رهينة لهذه النزاعات. إن الاحتلال، الذي فشل في القضاء على القضية الفلسطينية عسكريًا، وجد في الانقسام أداة أكثر فعالية من الدبابات والجدران العازلة. فبدلًا من أن تنصبّ الجهود على توحيد الصفوف، أصبحت بعض الفصائل تتنافس على “شرعية التمثيل”، فيما يستمر الاحتلال في فرض وقائع جديدة على الأرض. إن الخطاب التحريضي الداخلي الذي يُقسّم الفلسطينيين إلى “خونة” و”مناضلين” ليس مجرد حالة انفعالية، بل هو جزء من الاستراتيجية الصهيونية الهادفة إلى خلق واقع فلسطيني ممزّق يُعطي الاحتلال مبررًا لمواصلة الاستفراد بكل جزء على حدة.
لكن في ظل هذا الواقع، لا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي تلعبه الدبلوماسية العربية في دعم الصمود الفلسطيني، خاصة عبر مواقف دول مثل السعودية، مصر، والأردن، التي شكّلت في العديد من المحطات سدًا منيعًا أمام مخططات التهجير والتصفية. فقد اتخذت السعودية موقفًا حاسمًا برفض خطة ترامب التي هدفت إلى تهجير سكان غزة وتحويلها إلى “ريفيرا الشرق”، كما صرّح في لقائه مع نتنياهو. وقد شددت المملكة على ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، مؤكدة رفضها لكل الحلول التي تؤدي إلى طرد الشعب الفلسطيني من أرضه أو تصفية قضيته عبر مشاريع التوطين والتهجير. هذا الموقف السعودي الصارم شكّل سدًا منيعًا أمام المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تغيير الخريطة الديمغرافية لفلسطين وحرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم على أرضهم.
أما مصر، فقد لعبت دورًا محوريًا في إنجاز اتفاقيات وقف إطلاق النار في غزة، مما حال دون استمرار المجازر لفترات أطول وأتاح فرصة لإعادة ترتيب الصفوف فلسطينيًا. فالدور المصري لا يقتصر فقط على الوساطة السياسية، بل يمتد ليشمل الجهود الإنسانية والإغاثية، حيث كانت مصر دائمًا الملاذ الأول للفلسطينيين في الأزمات، سواء من خلال استقبال الجرحى أو إرسال المساعدات الطبية والغذائية. إن قدرة القاهرة على استخدام أدواتها الدبلوماسية لفرض التهدئة على الاحتلال تُعدّ نموذجًا على أهمية الدبلوماسية العربية في كبح العدوان الإسرائيلي ومنع وقوع كارثة إنسانية أكبر.
أما الأردن، فقد شكّل حجر الأساس في التصدي لمشاريع التهجير، لا سيما في القدس والضفة الغربية. فقد كان للموقف الأردني الصلب دور رئيسي في إفشال مخطط “الوطن البديل”، الذي سعت إسرائيل لترويجه منذ عقود. كما أن الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس كانت ولا تزال عنصرًا حاسمًا في مواجهة تهويد المدينة، حيث تصدّت عمّان لكل محاولات تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، ورفضت بشدة أي محاولة لفرض حلول تنتقص من الحقوق الفلسطينية.
إن هذه المواقف العربية، رغم ما يواجهها من تحديات وضغوط دولية، تساهم بشكل مباشر في حماية الشعب الفلسطيني من مخاطر التهجير القسري. فالدبلوماسية ليست مجرد أداة سياسية، بل هي خط دفاع أول عن الحقوق الفلسطينية، تُكمل الأدوار التي تؤديها المقاومة بأشكالها المختلفة. والمطلوب اليوم هو تعزيز هذا الدور العربي وجعله أكثر تأثيرًا، عبر توحيد الجهود بين الدول العربية الفاعلة، والضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه السياسات الإسرائيلية.
المعركة التي يخوضها الفلسطينيون اليوم ليست مجرد صراع بين حجر ودبابة، بل هي صراع وجودي بين مشروع إحلالي يهدف إلى إبادتهم، وبين إرادة شعب يقاتل للبقاء. النصر في هذه المعركة لا يتحقق فقط بإلحاق الخسائر بالعدو، بل في قدرة الفلسطينيين على حماية أرضهم وهويتهم ومجتمعهم من التمزق، والاستفادة من الحلفاء الحقيقيين في العالم العربي والدولي. الوحدة الوطنية ليست خيارًا سياسيًا بل ضرورة وجودية، والاستمرار في نهج الانقسامات يعني أن التاريخ قد يُكتب يومًا ليس كشهداء على أرض الوطن، بل كلاجئين مشتتين في أصقاع الأرض.
#وليد_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟