أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - بيكون.. الفيلسوف الذي حقق حلم أفلاطون















المزيد.....

بيكون.. الفيلسوف الذي حقق حلم أفلاطون


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 00:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كان حلم أفلاطون (ذلك الحلم الذي رسم ملامحه في جمهوريته – جمهورية أفلاطون) هو أن يرى الشعوب والأمم، والبلدان العظيمة يحكمها الفلاسفة، بدل أحكام الجور، والطغيان والملوك والاباطرة، الذين حكموا شعوبهم بالحديد والنار، وبخوض معارك طاحنة على طول التاريخ، قديما وحديثا، لكي ترفل تلك الشعوب والأمم برفاهية وسعادة وعيش كريم، لكون أولئك الحكام والسلاطين لا يمتلكون حسا إنسانيا، وضميرا يقضا طالما جربتهم شعوبهم، فلم تجد منهم إلّا التعسف الظلم والجور، والاستبداد بكل أنواعه وصنوفه، معتبرا – أي أفلاطون - أن أفضل من ينهض بالسلطة وادارة شؤون الأمم والمجتمعات هم الفلاسفة، وحدهم، فهم يستطيعون أن يحكموا بالعدل والمساواة، كما يعتقد، حيث يمتلكون المؤهلات العقلية والنفسية والسياسية، وغيرها من المؤهلات الأخرى التي لا يمتلكها سوى الفيلسوف أنفسهم، لأنّ الفيلسوف، كما يرى أفلاطون، غير خانع إلى الأهواء والملذات: الجسدية والنفسية؛ والقضايا الحسية الأخرى، علاوة على كونه متكامل ذاتيا، وبعيدا عن حطام الدنيا الزائل، طالما هو مسدد بالحكمة وسداد العقل ورجاحته، وغيرها من الصفات الأخرى التي كان يراها صاحب الجمهورية المثالية. فرحل أفلاطون ولم يتحقق له الحلم المنشود الذي كان يراوده، ويأمل تحقيقه ولو بعد حين.. حتى جاء فرانسيس بيكون الفيلسوف البريطاني بعد عدّة قرون من رحيل أفلاطون، ليحقق ذلك الحلم لصاحب الجمهورية المثالية، فيفرح وتنشرح اساريره، وهو في رمسه روحا بلا جسد.
وجاء بيكون رافعا لواء المجد والسؤدد، راكبا جواده الفكري، وحاملا عزمه بين يديه، متأبطا حكمته، متفائلا بما سيحققه في واقع عصره الذي يعيشه.
والحقيقة ثمة عوامل كثيرة تجعل الإنسان إما ينجح أو يخفق في سير عمله، وهو يأمل أن يمسك بخيوط النجاح في مسيرة حياته، وتحقيق طموحاته. وبتعبير صاحب كتاب "الأمير" أن من عوامل النجاح هو موقف حظ منك، بمعنى أن الحظ يلعب دوره في نجاح الإنسان، ولو أنا شخصيا لا اعير اهتماما للحظ؛ ولا أؤمن به. لكن لابد للإنسان الناجح أن يتمتع بإدراك حقيقة الأمر الذي يروم القيام به، وهو واقع على عاتقه، فلا يتردد ولا يركن للكسل النفسي والفكري معا. فأكثر الناجحين في العالم هم من آمنوا بهدفهم وركّزوا على تحقيقه وعملوا بثبات. ومما لا شك أن بيكون كان طموحا ويعمل بجد وعزيمة، وثقة عالية بنفسه. والدليل هو النجاح الباهي الذي حققه على صعيديّ حياته وفلسفته. وإما الاخفاق فيعود إلى عوامل كثيرة أيضا، لسنا بصددها الآن.
مولده
ولد فرانسيس بيكون في لندن عام 1561، وكان أبوه السر نقولا بيكون حامل الخاتم الأكبر في خدمة الملكة إليزابث، دخل جامعة كمبردج في الثالثة عشرة (١٥٧٣) وخرج منها بعد ثلاث سنين دون أن يحصل على إجازة علمية، وفي نفسه ازدراء لما كان يدرس فيها من علوم على مذهب أرسطو والمدرسيين، رحل إلى فرنسا واشتغل مدة في السفارة الإنجليزية في باريس، وتوفي أبوه سنة ١٥٧٩ فعاد إلى وطنه، ولما لم يكن هو الابن الاكبر لم يرث إلا شيئًا ضئيلًا، وأقبل على دراسة القانون بكل شغف، وانتظم في سلك المحاماة سنة ١٥٨٢، وبعد سنتين انتخب عضوًا بمجلس النواب كخطوة أولى بهدف الارتقاء نحو المجد والسمو، بحنكة ودراية وثقة بالنفس، وهذه الأخيرة ربما هي الأكثر من سواها كحافز يجعل منه يسير بخطوات حثيثة، لينال ما يريد نوله من شرف ومجد تليد.
صعود نجم بيكون
وهكذا رويدا- رويدا أخذ نجم بيكون في الصعود نحن العلا والتقدم الباهر، والنجاح الساحق من منصب إلى آخر، بفضل علمه ومعرفته، وجزالة فطنته ورجاحة عقله، فضلا عن طموحه هو الآخر الذي حدى به أن يرتقي تلك المناصب، وينال الحظوة عند الملكة والناس على حد سواء. و "في عام ١٥٨٣م انتُخب بيكون عضوًا في مجلس النواب، كما ذكرنا، وسرعان ما جذب إليه الأنظار لبلاغتِه الساحرة وبيانه الخلَّاب، فأحبَّه ناخبوه حُبًّا شديدًا، وأعادوا انتخابه عنهم مرةً بعد مرة. وهكذا لبِثَ بيكون يشقُّ لنفسه طريقًا في مُعترك السياسة حتى كان عام ١٥٩٥م فأهداه صديق له مُعجَب بنُبوغه، هو الإرل إسكس Earl of Essex ضيعةً واسعة درَّت عليه ثروة طائلة عريضة هيَّأت له أسباب الترَف والنعيم. وكانت هذه الهِبة العظيمة من ذلك المُحسِن الكريم جديرة أن تأسِر بيكون، ولكن حدَث لهذا الصديق الواهب أن فترَتْ بينه وبين الملكة إليصابات ما كان بينهما من روابط وصِلات، واستحكَمَت بينهما الخصومة واشتدَّ النفور، فدبَّر إسكس هذا مؤامرة خفية يريد بها أن يزجَّ الملكة في ظلمات السجن، ثم يرفع إلى العرش ولي عهدها. وكاشَفَ إسكس بيكون بما صحَّت عليه عزيمته، وهو لا يشكُّ أنه إنما يُكاشِف صديقًا مُحالفًا سيتفانى في مظاهرته وتأييده، ولكنه لَشدَّ ما دهش حين أجابه بيكون باحتجاجٍ صارخ على هذه الجناية الشائنة ضدَّ مليكة البلاد، وبإنذاره أنه سيُؤثِر ولاءه للملكة على عرفانه للجميل".
"مضى إسكس فيما هو ماضٍ فيه، ساخطًا على بيكون أشدَّ السخط لهذا الجحود المُنكر، ولكن مؤامرته فشلت وقُبض عليه، ثم أُطلق سراحه، فحشد جيوشًا مسلحة، وسار بها إلى لندن، وحاول أن يُشِبَّ الثورة بين أهلها، وهنا خاصمَه بيكون خصومةً عنيفة، وأخذ يقاومه ويُعارضه ويؤلِّب عليه القوم، فاندحر إسكس وقُبض عليه للمرة الثانية، وكان بيكون قد تربَّع في منصبٍ كبير في القضاء، فلم يتردَّد في اتهام الرجل الذي أكرمه وأحسَنَ إليه حتى حُكِم عليه بالموت".
"وكان موقف بيكون هذا قد أثار في نفوس قومه نِقمة عليه وكراهية له، وكانوا جميعًا يتربَّصون به الدوائر، ويَصبُّون عليه السُّخط والغضب، ولكنه ازدرى بالناس، ومضى غير عابئ بما تُكنُّه له صدورهم من غل، وأخذ يروح ويغدو بين مظاهر العظمة التي أُغرِم بها، فأسرف فيها إسرافًا أدَّى به إلى الاستدانة، حتى سِيق آخِر الأمر إلى السجن وفاءً لدَيْن عجز عن وفائه، ولكنَّ نجمَه رغم ذلك كلِّه أخذ في الصعود حتى ظفِر بأعلى مناصب الدولة وأرفعها مقامًا".(1)
نقد العقل
ثمة أربعة أنواع أطلق عليها بيكون "الأوهام" التي تُحْدِق بالعقل البشري، وما تزال تتربص به وتسيطر عليه سيطرة تامة. وقد شخصها هذا الفيلسوف؛ فيا ترى ما هي هذه الاوهام التي يؤكد عليها بيكون؟
(1) «أوهام القبيلة» (أوهام الجنس) idola tribus مُبَيَّتةٌ في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها أو الجنس البشري نفسه، فالرأي القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ، فالإدراكات جميعًا، الحسية والعقلية، هي - على العكس - منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالَم، والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقَّى الأشعة من الأشياء وتمزِج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها وتُفسِدها.
(2) أوهام الكهف» idola specus فهي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد - بالإضافة إلى أخطاء الطبيعة البشرية بعامة - كهفًا أو غارًا خاصًّا به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهها، قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يُكِنُّ لهم الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهنٍ قلقٍ متحيز، أو ذهنٍ رصينٍ مطمئنٍ … إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف الأفراد) هي شيءٌ متغير، وغير مُطَّرد على الإطلاق، ورهنٌ للمصادفة العشواء، وقد صدق هيراقليطس حين قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم الأكبر أو العام.
(3) أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها «أوهام السوق» idola fori، بالنظر إلى ما يجري بين الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن طريق القول، والكلماتُ يتم اختيارها بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مُدَوَّنةٌ من الكلمات سيئةٌ بليدةٌ تعيق العقل إعاقةً عجيبة، إعاقة لا تُجْدي فيها التعريفاتُ والشروح التي دأب المثقفون على التحصن بها أحيانًا: فما تزال الألفاظ تنتهك الفهمَ بشكلٍ واضحٍ، وتُوقِع الخلطَ في كل شيء، وتوقِع الناس في مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها.
(4) الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة للفلسفات المختلفة، وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح» idola theatric، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي تَعلَّمَها الناسُ وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جِدًّا تُقدَّم وتؤدَّى على المسرح، خالقةً عوالمَ من عندها زائفةً وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمُها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق عليها، ما دامت أسبابُ أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضًا كثيرًا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي.(2)
ولا ننس أن بيكون عاش في عصر حافل بالتغيرات في مجالات عديدة، من أبرزها المجالان العلمي والفلسفي. وقد ظهرت قامات علمية وفكرية من أمثال جاليليو ونيوتن وغيرهما ممن أسهموا في تفجير ثورة علمية كان من أسسها الخروج على الأفكار العلمية المعلّبة والتحرر من قيد التقليد والانسياق خلف الأفكار غير المثبتة التي ظل بعضها غير قابل للنقاش طوال قرون. كل ذلك جرى جنباً إلى جنب الإصلاح الديني والصراع مع سلطة الكنيسة ونفوذها الطاغي. وهو عصر أهواء وتقلبات وثورات وحركات فكرية وفلسفية وأخرى سياسية، وتضادات عكسية من أفكار مختلفة.
الأوراجون الجديد
هو بديل المنطق الارسطي، أو المنطق الصوري كما يطلقون عليه أيضا، فمنطق بيكون الذي اسماه "الاراجون الجديد" يراد منه أن يحل محل المنطق الارسطي؛ وبيكون هو ليس الفيلسوف الوحيد الذي اوجد البديل لمنطق ارسو، ابن تيمية الفقيه والفيلسوف حاول هو الآخر نقض المنطق الارسطي، حذا حذوه هيجل، وغيرهم، وانما هملوا ذلك لسبب وجيه جدا. ذلك لأن منطق أرسطو لا ينسجم والمنطق الديني، لكون كثيرا، وكثير جدا من القضايا الدينية لا تثبت أمام منطق أرسطو، وينهار بنيانها بضربة واحدة، كون هذه القضايا تخالف العقل والفطرة السليمة التي فطر عليها العقل البشري. فحاول هؤلاء الفلاسفة ايجاد منطق جديد يحتمل ما يراه الدين ويحكم بصحته.
ويوضح راسل "إذ كان القصْد من «الأورجانون الجديد»، الذي نُشِر عام ١٦٢٠م، أن يحلَّ محلَّ أورجانون أرسطو. غير أنَّ هذا المنهج من حيث هو طريقة عملية، لم يلقَ قَبولًا لدى العلماء، أما من حيث هو نظرية في المنهج، فقد كان مُخطئًا، وإن كان تأكيده لأهمية الملاحظة قد جعل منه دواءً مفيدًا يَشفي من النزعة العقلية التقليدية المُتطرفة. والواقع أنَّ الأداة الجديدة لا تفلح بالفعل في تجاوز أرسطو على الإطلاق؛ فهي تعتمِد على التصنيف وحدَه، وعلى الفكرة القائلة إنَّ مُراعاة التدقيق اللازم كفيلة بإيجاد الفئة أو المكان المناسِب لكلِّ شيء".(3)
وحتى نكون أكثر انصافا، وبلا انحياز لجهة دون أخرى، نرى ان منطق بيكون ليس مخالفا لمنطق أرسطو من الناحية المنطق الديني فحسب، بل ثمة قضايا كثيرة ايضا، وإن كان أهمها المنطق الديني؛ ونذكر على سبيل المثال بعض الفروقات التي اوجدها بيكون، وهي تناقض ما جاء في المنطق الارسطي. لكن كما قال برتراند رسل أن منطق بيكون لم يلاق استحسانا من قل الكثير من الفلاسفة والمناطقة، كأن ارسطو وضع منطقه داخل اروقة حديدية سميكة، لا تهتز ولا تقبل أي تصدع.
يرى بيكون: "إن (اتباع ارسطو) لا يتحدثون عن الميل الطبيعي للأجسام ولا عن الحركات الداخلية لأجزائها. وإنما يقيمون فحسب تقسيما لهذه الحركة التي تعرض على الحواس على نحو بدائي المادة في صورتها المغيرة. وحتى حينما يرغبون في الاشارة إلى شيء متعلق بعلل الحركة، وفي إقامة تقسيم لهذه العلل، فأنهم يضعون على نحو مناف للعقل تمييزا بين الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي فكرة عامية كذلك، بما أن كل حركة عنيفة هي أيضا في الواقع حركة طبيعية. وبعبارة أخرى أن العلة الفاعلة تجعل العلة الطبيعة تعمل على نحو مختلف عن الأسلوب الذي تابعه من قبل"
ويقول: "يتكون القياس من قضايا، والقضايا من كلمات، والكلمات هي مقابلات رمزية لأفكار، وعليه فإذا كانت الأفكارُ نفسُها (وهذا هو جِذر المسألة) مختلطةً ومنتزَعة برعونة من الوقائع، فلن يكون هناك ثبات فيما يُبنى فوقها، لذا فلا أمل لنا إلا في الاستقراء induction الصحيح".
وله ايضا:" لا شيء صحيح في أفكارنا سواء في المنطق أو في الفيزياء، فلا «الجوهر» ولا «الكيف» ولا «الفعل» ولا «العاطفة» ولا «الوجود» نفسه أفكار واضحة، وأقل منها وضوحًا بكثير فكرة «ثقيل»، «خفيف»، «كثيف»، «رقيق»، «رطب»، «يابس»، «كون»، «فساد»، «جذب»، «طرد»، «عنصر»، «مادة»، «صورة»، وما إلى ذلك، كأنها أفكار وهمية وغير محددة". (4)
وناهيك عن ذلك كان بيكون يقول عن نفسه "لقد اعتقدت أنني ولدت لخدمة الناس وقدرت أهمية الخير العام بأن أكرس نفسي لخدمة الواجبات والحقوق العامة، التي يجب أن يتساوى فيها الجميع كمساواتهم في استنشاق الهواء والحصول على الماء؛ للك فقد سئلت نفسي عن أكثر الأمور نفعا للناس، وما هي المهمات التي اعدتني للطبيعة أو ما هي المهمات التي تتناسب مع مؤهلاتي الطبيعية، وبعد بحث لم أجد عملا يستحق التقدير أكثر ما اكتشاف الفنون والاختراعات والتطور بها للرقي بحياة الإنسان. (5) ومنها منطقه الحديد المسمى بالاراجون الجديد هذا، فضلا عن غيره الكثير مما قدمه هذا الفيلسوف المهم. وفضلا عن كل ذلك فقد استطاع بيكون أن يطور نظام فهرسة الكتب وهو راعيًا للمكتبات، حيث قسمهم إلى ثلاث فئات "تاريخ – شعر – فلسفة"، ويمكن تقسيمها أيضًا إلى مجموعة من المواضيع والعناوين الفرعية الأخرى، وقال بيكون في حديث له من قبل أن هناك بعض الكتب التي يجب عليك أن تتذوقها وأخرى يجب ابتلاعها، وهناك نوعًا أخر من الكتب يجب مضغها وهضمها.
فلسفته
وإمّا الفلسفة فتناول فيها "ثلاثة موضوعات: الطبيعة والإنسان والله، وتنقسم الفلسفة الطبيعية إلى: ما بعد الطبيعة أو علم العلل الصورية والغائية، وإلى الطبيعة أو علم العلل الفاعلية والمادية، وهي تنقسم إلى الميكانيكا والسحر، وتنقسم الفلسفة الخاصة بالإنسان إلى ما يتناول الجسم، وما يتناول النفس، علم العقل أو المنطق وعلم الإرادة أو الأخلاق، وما يتناول العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأخيرًا الفلسفة الإلهية أو اللاهوت الطبيعي، يمهد له بعلم الفلسفة الأولى أو علم المبادئ الأولية، مثل أن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات غير متساوية نتجت كميات غير متساوية، وأن الحدين المتفقين مع حد ثالث فهما متفقان، وأن كل شيء يتغير ولكن لا شيء يفنى، وما إلى ذلك، وهذا العلم هو الجذع المشترك بين علوم العقل". (6)
رحيله
كان بيكون قد كتب مقالة تحت عنوان "عن الموت" ذكر في خاتمتها أن يموت بلا مرض أو ألم، وقد أستجاب القدر أمنيته، وبينما كان راكبا في عام 1626 من لندن إلى هاي جيت مفكرا في مدى ما يحتاجه من وقت لحفظ اللحم من الفساد لو غطيناه في الثلج. وعزم على أجراء تجربة سريعة، فتوقف أمام كوخ وأشترى دجاجة، وذبحها ودفنها في الثلج. وبينما كان يقوم بعمله هذا شعر برعشة قوية من برد، وأحس بالضعف، وشعر بعجزه عن الرجوع، وطلب أن ينقل إلى بيت اللورد أروندل القريب من ذلك المكان، وألتزم الفراش ولكنه لم يعتزل الحياة بعد، وكتب في فرحة لقد نجحت التجربة نجاحا كبيرا، وكانت هذه عبارته الأخيرة، لقد استنفدت حمى حياته الصاخبة المتقلبة المختلفة جسده الذي أنطفأ الآن، وأضحى عاجزا عن محاربة المرض الذي زحف إلى قلبه ببطء. وتوفي في ابريل عام 1626 عن عمر ناهز الخامسة والستين. (7) مخلفا ورائه أرثا عظيما من العلوم والفلسفة والأفكار الثرية التي تقف اليوم خلفه أجيال وأجيال بحالها، تقتبس من تلك العلوم والأفكار والفلسفات، كمعارف لا يمكن أن يستغني عنها إنسان يفكر ويعي ويسير على نهج من علمونا ودرسونا.

هوامش
1: (زكي نجيب محمود و أحمد أمين، قصة الفلسفة ص 23، دار الجيل بيروت وبغداد، الطبعة الأولى لسنة 2019).
2: (وليم كيلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة ص 62 وما بعدها، منشورات دار التنوير، الطبعة الرابعة لسنة 2023، ترجمة محمد سيد أحمد، تقديم ومراجعة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام).
3: (برتراند رسل، حكمة الغرب جـ الثاني ص57، منشورات عالم المعرفة ذي الرقم 365 الطبعة الثانية بترجمة د. فؤاد زكريا).
(4) (فلسفة فرانسيس بيكون، د. حبيب الشاروني، منشورات دار التنوير، بيروت لبنان الطبعة الأولى لسنة 2005).
(5) (ويل ديورانت، قصة الفلسفة ص 89، المكتبة الفلسفية في لندن، بترجمة فتح الله الله المشعشع، الطبعة الأولى لسنة 2017)
(6) (يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة ص 46، منشورات دار القلم بيروت – لبنان من دون ذكر سنة الطبع.
(7) (ويل ديورانت، قصة الفلسفة، مصدر سبق ذكره ص 115)



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية 3/ 3
- الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية2/ 3
- الإيمان والألحاد- رؤية فلسفية1/ 3
- نيتشة.. الانسان السوبرمان
- القلق الإنصياعي في نص(زيف حلم) ل جابر السوداني
- عدنان الفضلي الشاعر الذي أغوته الساعات
- المنحى الصوفي في قصيدة (خمرةُ اليقين) للشاعر كريم القيسي
- ذاتية المعنى.. قراءة في مجموعة (أأقيم على حافة هاوية) للشاعر ...
- زمكانية النص الشعري.. قراءة في (منذُ زمنِ الانتظار) لـ عبد ا ...
- الشعر بوصفه لعبة الابداع قراءة في نص (كَسَاحِرٍ يُرَوِّضُ عَ ...
- الخيال في (أحزانٌ بلا مراكب) للشاعر حسين السياب
- تعويذة الشجن في نص (وداعا) للشاعرة ميسون المتولي
- اغتصاب الجدال
- انتصار الفكر الحُرّ على التاريخ في سردية (القبر الأبيض المتو ...
- سياحة قصيرة في (كفُّ تلوَّح لكلماتٍ في الدّخان) لأمير الحلاج
- حكايات من بحر السراب
- لها.. وهيَّ على فراش الغياب
- أدب الرسائل ‘الى (.....) الرسالة الثالثة والأخيرة 17 تموز
- وحيد شلال شاعر الجمال والحماسة والوطنية
- في نصّها (منافي الرماد) عطاياالله ترسم جدارية للبوح


المزيد.....




- الفاتيكان يطمئن: -تحسن طفيف- في صحة البابا
- الأمير محمد بن سلمان وعبد الفتاح البرهان يؤديان الصلاة في ال ...
- الشرع: نسعى لإعادة بناء سوريا ولا يخفى على أحد مسؤولية الفتو ...
- الرئيس الإماراتي يتصل بشيخ الأزهر بعد المرض المفاجئ
- الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي وجهاء من الطائفة الشيعية
- 100 ألف مصل يؤدون العشاء والتراويح في المسجد الأقصى المبارك ...
- في يوم القدس العالمي.. آلاف الفلسطينيين يزحفون نحو المسجد ا ...
- الفاتيكان: استقرار حالة البابا الصحية وتحسن في التنفس والحرك ...
- الجهاد الاسلامي: مخططات الاحتلال وترامب لتمزيق نسيج شعبنا ست ...
- 75 ألفا يؤدون الجمعة الأخيرة من رمضان في المسجد الأقصى


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - بيكون.. الفيلسوف الذي حقق حلم أفلاطون